حرزالله محمد لخضر
الكرة الرسمية لنصف نهائي ونهائي المونديال وتحمل اسم "الحلم" (مواقع التواصل)
مثّل مونديال قطر محطة فارقة في تاريخ أمة العرب والإسلام، فبعد عقود من التشويه والتحريف للمقومات الإسلامية وللتاريخ والثقافة العربية في المخيال الجمعي لشعوب العالم، وما دأبت عليه الآلة الإعلامية والدرامية للغرب من تأطير إعلامي وتوجيه نفسي؛ جاءت محطة المونديال فرصة ذهبية ساقها القدر الميمون، لتصحيح العديد من المفاهيم المغلوطة والأحكام المسبقة التي بنيت على أعواد من الزيف والحيف وغذتها روح الاستعداء والاستعلاء المستحكمة في فلسفة المنظور الإمبريالي المتطرف للغرب.
إن النجاح المأمول لمونديال قطر ليس على المستوى الرياضي فحسب، ولا على المستوى التنظيمي، فقد فاق فيهما كل التوقعات إبداعا وإبهارا، بل يتلخص مكمن النجاح -حسب اعتقادي- في قضية جوهرية، وهي براعة الدولة المنظمة في تسويق القيم الحضارية للأمة الإسلامية والعربية في هذا المحفل العالمي، واستغلال هذه السانحة لإعادة التعريف بالشخصية الإسلامية والعربية الصحيحة وبالقيم الأصيلة، بعيدا عن الصور القاتمة المصطنعة في الدوائر الإعلامية والمخابراتية للغرب، أو الممارسات الشوهاء التي ألصقها بعض الأغرار من المسلمين بدينهم، خاصة ما تعلق بحقوق الإنسان والمرأة وقيم السلام والتعايش وقبول الاختلاف.
وفي اعتقادي هناك 4 رسائل يمكن استلهامها من هذا الحدث العالمي، وهي:
لا تعارض بين الحفاظ على قيم الهوية والقدرة على الإنجاز الحضاري
لقد أبانت هذه المناسبة عن أنه بإمكان العرب والمسلمين أن يتسنموا ذروة المجد الحضاري ويندمجوا ضمن مسار "العصرنة" وبناء الدول الحديثة القائمة على التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، مع الحفاظ على تراثهم الأصيل وثقافتهم الغناء والاعتزاز بقيم هويتهم الإسلامية بأبعادها العالمية؛ فعقل المسلم والعربي ليس قاصرا عن أداء رسالته الحضارية إذا وجد البيئة المناسبة والرعاية والتمكين، فلا تعارض بين طارف وتالد في معادلة التحول والبناء الحضاري إذا صحت العزائم وسلمت العقول من داء التغريب والتبعية.
الدعوة الذكية لقيم الإسلام من دون صخب
رغم أن مناسبة المونديال حدث رياضي بامتياز، فإنه لا يخلو من نكهة سياسية أو اقتصادية أو ثقافية، ومن أبرز ما امتازت به هذه المناسبة الكونية تلك الالتفاتات الذكية للهيئات التنظيمية في قطر، من خلال الحرص على استعراض قيم الإسلام النبيلة بذكاء وحنكة كبيرة، وبأسلوب دعائي تلقائي يخاطب العقل والوجدان، ظهر ذلك من خلال تخصيص لافتات كبيرة كتبت عليها أحاديث منتقاة تجسد القيم الحميدة المشتركة بين بني البشر، إضافة إلى اختيار أصوات ندية تصدح بالأذان في كل صلاة، وإظهار القيم الإسلامية الحميدة في الواقع العملي عبر بذل الاحترام للآخرين وقبول اختلافاتهم وحسن العشرة والحفاظ على الأمن والأمانة، ولا شك أن كل هذه الجهود الطيبة سيكون لها عظيم الأثر في تصحيح المفاهيم المغلوطة عن الإسلام والمسلمين، التي عمل الغرب على تسويقها بإلصاق تهم العنف والإسلاموفوبيا والإرهاب وقهر المرأة.
فكم يحتاج الإسلام إلى دعاة ذوي مهارة وحكمة وخبرة في إدارة الاختلاف الديني والثقافي، والإحاطة بمتغيرات العصر والقدرة على الوصول إلى قلوب وعقول المختلفين عنا دينيا وفكريا وثقافيا.
عندما تحترم قيمك وتثبت جدارتك ستجبر الجميع على احترامك
لقد أظهرت قطر براعة كبيرة في إدارة ملفات ثقافية ذات حساسية بالغة، ونجحت في فرض احترامها على الجميع، فقد تعاملت بمنتهى الذكاء مع الحملات الشرسة التي شب ضرامها قبل أيام قليلة على المونديال، للضغط على قطر حتى تتقبل القيم الغربية المعادية للمبادئ الإسلامية، كالمثليين، وتسمح بالترويج لأعلامهم، فارتفع سعار القنوات الإعلامية الغربية -لا سيما الفرنسية والألمانية منها- ناقمة وناقدة رفض قطر أي طقس يتعارض مع الثقافة الإسلامية وهوية المجتمعات العربية، لكنها ما فتئت أن توارت وخبت بعدما شاهد العالم ما أعدته قطر من قوة تكنولوجية وبراعة تنظيمية لم تسبق إليها.
فعندما تعتز بقيمك وأصالتك وتثبت للعالم أنك جدير بالتحدي وأهل للحضارة بما تقدمه من منجز إبداعي، حينها ستفرض احترامك على القريب والبعيد.
الاستعلاء الإمبريالي للغرب وازدواجيته المعيارية
لقد كشف الغرب الإمبريالي قبيل أيام من المونديال عن وجهه العنصري المنافق، وكشر عن ازدواجيته المعيارية التي باتت سمة ملازمة لسياساته وتوجهاته الأيديولوجية، خاصة في قضايا حقوق الإنسان والمضطهدين والفئات المستضعفة من العالم، فقد أظهرت التجارب التاريخية أن الحكومات الغربية تتخذ من هذه القضايا "سجلات تجارية" تبتز بها الأنظمة السياسية الاستبدادية للدول المتخلفة، وقد تضرب صفحا عن مجازرها ومصادرتها الحريات العامة والإعلامية، والتعذيب في السجون والتزوير الانتخابي، مقابل ضمان استدرار المصالح الاقتصادية والسياسية للغرب، كما هي الحال مع العديد من الدكتاتوريات العربية البائسة.