وتحمّلنا ما تحمّلناه، كي يبقى الموقف موحداً. بهذه الجملة الجوهرية، لخّص القائد زياد النخالة أصعب جوانب معركة "ثأر الأحرار"، وهو يمشي على حدّ السيف، ليس في اختيار الكلمات فحسب، ولكن في توقيت بدء المعركة وكل مساراتها في الميدان العسكري والتفاوضي أيضاً. قالها وهو مثخن بالغضب والتعب. كيف لا وقد فقد إخوةً له في السلاح، كانوا بالأمس يملأون معه فضاء غزة بالعزة والشموخ!
ثنائية الغضب والتعب أثمرت وحدة جامعة بعنوان الغرفة المشتركة، في ظل فعل مقاتلي السرايا. وقد صار القتل لهم عادة وكرامتهم عند الله الشهادة، وهم يحاربون بتصميم مبدئي صلب مع تكتيكات ميدانية أربكت حسابات العدو وخلقت للمعركة تأييداً جماهيرياً كاسحاً ومداً نخبوياً غير مسبوق. كيف استطاعت حركة تقاتل على الفطرة أن تفعل ذلك، وهي التي اعتادت في قتالها غير المنقطع مع عدوها الوحيد أن تتلقى لكمات الداخل في كل وقت وحين؟
بضعة شهور مرّت على معركة "وحدة الساحات" في آب/أغسطس الماضي، حين قاتلت حركة الجهاد وحيدةً في الفعل والقول، وتلقَّت من سهام الداخل الكثير، حتى توارى أفيخاي أدرعي خجلاً من هول ما وجده من بعض مَن سبقه في كيّ ظهر الجهاد الإسلامي بألسنة حداد، فما مستجدات معركة "ثأر الأحرار" وقد التفَّ الجميع خلف ظهر الحركة، ليس في السياق الشعبي فحسب، فهو سياق مندفع غالباً خلف الطلقة المنبعثة في صدر العدو، ولكن أيضاً سياق النخب والتنظيمات والمؤسسات والتيارات والأقلام؟
كلّنا يعرف أن حركة الجهاد لم تبدأ الحرب في "وحدة الساحات"، ولكنها استنفرت الميدان غضباً على الجرائم الإسرائيلية في جنين، في محاولة منها لتوحيد ساحات الوطن، فاستغل العدو حركة الميدان مع حصوله على معلومة ذهبية لاغتيال القائدين الجعبري ثم منصور، فكانت المعركة تبعاً للاغتيال، وهو ما حصل في "ثأر الأحرار"، مع فوارق غير جوهرية، فلماذا يُشاد اليوم بالجهاد فيما انصبَّ عليها النقد بالأمس؟
منذ معركة "وحدة الساحات" حتى تفعيل هذه الوحدة في رمضان، يبدو أن حركة المحور المقاوم نجحت في صياغة آليات فاعلة في غزة والمنطقة بما يواكب التطورات، فكانت الغرفة المشتركة عنواناً جامعاً لحماية ظهر الميدان، وإن بقي حتى الآن معمداً بدماء مقاتلي سرايا القدس، وهو أمر حقق للجهاد الإسلامي مظلة سياسية وإعلامية وميدانية كفلت للشعب بطيفه الواسع ونخبه المتعددة تجاوز الهوى الحزبي والسياسي، ومعه كل العقد النفسية التي كثيراً ما أغلقت على صاحبها، فلم يعد يرى من حقائق الميدان أثراً.
انفعل الوجدان الشعبي مع "ثأر الأحرار"، وإن لم يقتحم الميدان العملي كأيام "سيف القدس" التي سبقتها انتفاضة القدس والشيخ جراح أصلاً، وواكبتها حتى تفاعلت عبر الداخل المحتل والضفة وكثير من دول العالم، وخصوصاً مع استفحال القتل الجماعي في غزة، وهو قتل لجمته الفردية الإيجابية لحركة الجهاد في "وحدة الساحات" و"ثأر الأحرار"، لاعتبارات يُسوّقها العدو بحرصه على عدم استفزاز حماس لدخول المعركة، باعتبارها الجهة الحاكمة، ليبقى القتل في مرابض الجهاد وبيوت ناشطيه.
أجمعت أقلام النخب الفلسطينية على الإشادة بحركة الجهاد في "ثأر الأحرار". واللافت أنّ جميع الأقلام كانت قد اعتادت نقد الجهاد الإسلامي من زاوية رؤيته الثابتة إلى الحرب الجذرية مع الكيان الإسرائيلي، أو من زاوية أدائها الميداني، أو حتى ارتباط هذا الأداء بمنظومة علاقاتها الخارجية الداعمة لمحور المقاومة، وهي انتقادات لطالما أرخت غيمة قاتمة على شعبية الجهاد الإسلامي في الوسط الجماهيري.
ما الجديد الذي حملته عملية "ثأر الأحرار" ليدفع كثيرين من أصحاب الأقلام المشهورة إلى الإشادة اللافتة بحركة الجهاد في هذه المعركة؟ ونحن هنا نتحدث عن أقلام مهمة اعتادت في الغالب نقد الجهاد الإسلامي من زوايا مختلفة، بدافع الحرص أو الاختلاف في الفكر أو السياسة، وهي إشادة فارقة تتصل بعوامل كثيرة، هذه بعضها:
أولها، مظلومية خضر عدنان، وطريقة استشهاده الكفاحية غير المسبوقة في التاريخ الفلسطيني، بما صدم التيار الشعبي والنخبوي على حد سواء، حتى نعته جميع الأقلام المشهورة وغير المشهورة بألم وصدق، رغم أن كثيراً من هذه الأقلام سبق أن نال منه أحياناً، نظراً إلى ما كان يمثله من عنوان ديناميكي ورأس حربة لحركة الجهاد في مواطن كَثُر حولها اللغط عند بعض النخب المحسوبة أو المتأثرة بسياسات السلطة وغيرها من السياسات الحزبية المغلقة.
ثانيها، صمت حركة الجهاد عن الرد المباشر على جريمة اغتيال القادة الثلاثة وأسرهم، وهو صمت أعطى الطيف الفلسطيني فرصة لالتقاط الأنفاس، وخصوصاً مع الارتباك الشديد الذي عاشه العدو ليوم كامل بعد الاغتيال، بما اعتبره الجميع نجاحاً تكتيكياً أعطى صورة جديدة للجهاد الإسلامي بخلاف الصورة السابقة المستقرة عنها في العقل الجمعي لكثير من النخب بأنها تنقاد إلى ردود الأفعال من دون حسابات.
ثالثها، وقت المعركة المحسوب بين طموح الجهاد في المزيد بغية إيلام العدو والوصول إلى خميس مسيرة الأعلام، وحاجات الطيف العام وحساباته المختلفة، وهو وقت تجاوز وقت "وحدة الساحات" الذي لم يتسع لإلهاب عواطف الرأي العام وتقديراته، ولكن هذا التجاوز الزمني لـ"ثأر الأحرار" ظلَّ في إطار قدرة الاحتمال العامة، بما قلّل شره العدو على إيقاع خسائر عامة في الأنفس والبنيان، مقارنة بكلّ المعارك السابقة.
رابعها، التحام الجهاد الإسلامي مع عنوان الغرفة المشتركة، مع علم الجميع أن الميدان الهجومي والدفاعي كان حصراً للجهاد مع مشاركة محدودة من رفاق الجبهة الشعبية وفق إمكاناتهم المحدودة، وهو التحام كفل للطيف الفلسطيني استشعار إيجابية إنجازات الجهاد في الميدان للمصلحة الوطنية العامة.
خامسها، تجاوز الجهاد أزمة غياب الكادر القيادي في ظل توالي الاغتيالات، وهو تجاوز حوّل الأثر النفسي والعملي لهذا الاغتيال من عامل سلبي إلى إيجابي، في ظل تطور الأداء القتالي وتصاعده، وصولاً إلى قصف مستوطنات القدس وبيت لحم قبل صلاة الجمعة في المسجد الأقصى بدقائق، وفق توقيت مقصود، بحسب ما جاء في بيان السرايا، ثم ضربة روحوفوت التي أفقدت الإسرائيلي توازنه وكشفت بعض مستور الرقابة العسكرية المفروضة منذ أن بدأت المعركة.
هذا الأداء القتالي المميّز بعد الاغتيالات نقل الشعور العام حتى عند الإسرائيلي نقلة انبهار بهذه القدرة الفائقة رغم الاغتيالات، بما أزال نشوة العدو بنجاح اغتيالاته وأعاده إلى المربع الأول، وهو ما ألقى بظلاله على الشعور الشعبي العام حتى عند النخب الناقدة وصاحبة الخبرة في الطيف الفلسطيني.
سادسها، إدارة التفاوض غير المباشر في القاهرة عبر الدكتور محمد الهندي، رئيس الدائرة السياسية في الجهاد، فيما تفرغ النخالة لإدارة الميدان، هذا الثنائي بهذه الطريقة، رغم ما حمله هذا التفاوض وكلّ تفاوض سابق من مشكلة سياسية على عتبة المصري ودوره في حصار غزة، إلا أن الشعور الشعبي في غزة بتأثير النخب الإعلامية والثقافية والسياسية يعطي للمصري اهتماماً خاصاً، نظراً إلى ما تمثله مصر من خيار إجباري لغزة في ضوء واقعها تحت الحصار الإسرائيلي الخانق.
وقد جاءت مراعاة الجهاد لهذا الاعتبار أولاً، ثم إدارة التفاوض ثانياً على مدار 5 أيام، عبر إبقاء خيار الهدنة قائماً، نظراً إلى تكتيك القصف وفق ساعات مضبوطة، بما ساعد في كبح جماح الوحشية الإسرائيلية مقارنة بالسابق، وهو ما جعل ضغط المعركة على الشارع أقل وطأة، وحسّن النظرة العامة إلى الجهاد.
سابعها، تحطيم هيبة القبة الحديدية ومقلاع داوود للمرة الأولى. وقد اعتاد الإسرائيلي القول إن القبّة تعترض 90% من الصواريخ، فإذا به في هذه المعركة يعترف بأن خللاً أصابها، بما جعلها تعترض فقط ما نسبته 33%، بما يعني أن غالبية الصواريخ وصلت إلى العمق.
وقد وصل عدد الصواريخ إلى قرابة 1500، ما اضطره إلى تشغيل منظومة "مقلاع داوود" المكلفة جداً: مليون دولار للصاروخ الواحد. وقد خصّصها لـ"تل أبيب" والقدس، واعترف بأن هذه المنظومة فشلت في اعتراض صاروخ روحوفوت، واعترف أيضاً بأنها لم تفلح سوى في اعتراض صاروخ واحد في القدس.
هذا التطوّر الذي حطّم هيبة القبة الحديدية ومقلاع داوود ساهم في إنعاش الوعي الشعبي والنخبوي، وهو وعي تكرس مع ساعات المعركة الأخيرة باستمرار القصف حتى "تل أبيب"، وبُعَيد وقت الهدنة بنصف ساعة، بما كشف جرأة السرايا ومدى حاجة الإسرائيلي إلى وقف القتال، وهو ما تكرّس أكثر مع كلمة الناطق باسم السرايا أبو حمزة بعد يوم من سريان الهدنة، عندما أنهى كلمته القصيرة على وقع صاروخ انطلق نحو عسقلان، بما أبقى جذوة الميدان ساخنة ومفتوحة على كلّ الاحتمالات رغم الهدنة.
كسبت الجهاد الإسلامي ميدان الرأي العام الداخلي، ربما للمرة الأولى منذ عام 2002، عقب ملحمة جنين، ثم عملية زقاق الموت في الخليل، وهو مع "ثأر الأحرار" مكسب يمكن للحركة أن تبني عليه وتراكم في ضوء تطور بنيته التنظيمية كوعاء قابل لاستيعاب هذا التأييد الجماهيري غير المسبوق.