قد يسأل أحدنا لماذا تمّ اختيار مدينة الحبشة للهجرة إليها وليس غيرها؟!.. هناك عدة أسباب نذكر أهمها :
أولا: ما ذكره النبي (ص) عندما أمر المسلمين بالخروج من مكة مهاجرين إلى الحبشة، حين قال لهم :"فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق وإنه يحسن الجوار".
وما نستفيده من قول النبي (ص) عن أرض الحبشة بالصفات التي وصفها لنا بأنها أرض صدق، أنه كان في تلك البلاد شعب يعيش على الفطرة ويتعامل مع الأخرين بصدق وصفاء.
كما أن فيها ملكاً لا يظلم في بلاده أحداً، ويحسن ضيافة الوافدين إليه، فيمكن لهولاء المسلمين المهاجرين المضطهدين أن يعيشوا مع هؤلاء الناس بأمن وآمان. مما يعني أيضاً أنه بإمكانهم ممارسة عبادتهم وشعائرهم الدينية بحرية دون مساءلة أو اضطهاد من أحد.
ثانيا : لو درسنا الأوضاع السياسية، التي كانت سائدة في الجزيرة العربية وغيرها من المناطق المجاورة مثل الشام وإيران واليمن، لوجدنا أن أياً منها كان لا يصلح مكاناً لهجرة المسلمين أنذاك.
فالهجرة مثلا إلى المناطق العربية، بما يسكنها من عرب، لم يكن أمراً ممكناً كون سكانها كانوا من المشركين والوثنيين وعباد الأصنام، وبالتأكيد أن هؤلاء كانوا سيمتنعون عن قبول المسلمين في أرضهم لو قرروا اللجوء إليهم وفاء وتعصباً للإلهتهم ودين أبائهم. هذا من جهة.
من جهة ثانية فقد كان لقريش نفوذ قوي في هذه البلدان وتأثير كبير على القبائل فيها. وبالتأكيد فإن هؤلاء كانوا سيرفضون وجود المسلمين بينهم إرضاء لقريش.
وأما الهجرة إلى بلاد الروم أو بلاد الشام فلم تكن أمراً ممكناً أيضاً، للأسباب نفسها تقريباً، مثل نفوذ لقريش في هذه المناطق من خلال علاقاتها التجارية والاقتصادية معها.
وهذا يمكّن قريش من المطالبة باسترجاع المهاجرين أو على الأقل إلحاق الأذي بهم. بلاد الجوار لم تكن آمنة للمسلمين الأوائل : أما الهجرة إلى إيران واللجوء إلى ملكها كسرى فلم تكن خياراً مضموناً أيضاً. لأن كسرى ملك النظام الفارسي آنذاك كان يحتقر العرب ويكرههم، ولا يرى لهم حرمة أو شأنا يذكر. وهذا يعني عدم إمكانية قبول النظام الفارسي بالمسلمين مهاجرين إليه من بطش قريش. خصوصا إذا أدرك أنه بوجود هذا العربي قد تتسرب دعوته داخل بلاده وتؤثر على امتيازاته ومصالحه الكبيرة.
وأما الهجرة إلى بلاد اليمن وبعض المناطق العربية والقبلية القريبة منها، لم تكن مسهلة بما يفترض، حيث إن هذه البلاد كانت تخضع لنفوذ النظام الفارسي، ولم تكن سلطاته لتسمح بإقامة المسلمين في مناطق تقع تحت سيطرتهم. لأجل كل ذلك كان الخيار أن يهاجر المسلمون الأوائل إلى الحبشة البعيدة عن نفوذ الروم والفرس وكذلك بعيدة عن نفوذ قريش، حيث لا يمكن للمشركين الوصول إليها، بسهولة ويسر لبعدها عن مكة ولعدم وجود طريق برية إليها.
وهكذا تمّت الهجرة إلى الحبشة. وبعدما استقر المهاجرون المسلمون في الحبشة، ورأت قريش أن استقرارهم فيها بحرية وآمان سيكونون دعاة لدينهم الإسلام في بلد يؤمن بالمسيحية وخشيت من توجيه المسلمين نشاطهم إلى تلك البلاد فينشروا الإسلام فيها ويصبحوا قوة لا طاقة لها بها، لذلك قررت قريش إرسال وفد منها إلى ملك الحبشة لاسترداد المسلمين المهاجرين، فأرسلت عمر بن العاص وعبدالله بن عتبة بالهدايا والتحف إلى النجاشي وحاشيته.
فلمّا وصل هذان الرجلان قالا للملك في حضور المقربين إليه إنه قد لجأ إلى بلدكم غلماناً منا سفهاء فارقوا دين أبائهم وقومهم ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنتم. ولقد يعثنا إليكم فيهم أشراف قومهم لتردهم إليهم".
النجاشي يستمع للمسلمين ويرفض تسليمهم لقريش:
فأبى النجاشي ردهم قبل سماعه لما يقولون. وبعث في طلب المسلمين المهاجرين فلمّا جاءوه سألهم النجاشي :"ما هذا الدين الذي فارقتم به قومكم ولم تدخلوا به في ديني ولا في دين أحد من الشعوب ؟".
فتولى جعفر بن أبي طالب (رضوان الله عليه) الجواب فقال :"أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف.
فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وأباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكفّ عن المحارم والدماء. ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتم وقذف المحصنات.
وأمرنا ان نعبد الله ولا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام...". وعدّد له أمور الإسلام إلى أن قال :"فصدقناه وأمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله. فعبدنا الله وحده ولا نشرك به شيئاً وحرّمنا ما حرّمه علينا وأحللنا ما أحلّ لنا. فعدى علينا قومنا فعذبونا وأثنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأصنام والأوثان من دون الله ولنستحل ما كنا نستحله من الخبائث، فلمّا قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على سواك ورغبنا في جوارك ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك".
فقال الملك النجاشي :"هل معك شيئاً مما جاء به عن الله تقرأه علينا؟". فقال جعفر :"نعم". وتلى عليه سورة مريم المباركة من أولها إلى قوله تعالى :"فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً قال إني عبدالله أتاني الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً ".
ولمّا سمع النجاشي ذلك قال :"إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة". ثم التفت إلى وفد قريش وقال لهم :"والله لا أسلمهم إليكم أبداً". وهكذا فشلت محاولات قريش في التشويش على المسلمين في الحبشة وفي استردادهم.
وبقي المسلمون المهاجرون في ظل حكم النجاشي معززين مكرمين يمارسون شعائرهم الدينية ونشاطهم التبليغي بحرية كاملة.