حرب قريش الإعلامية ضد النبي (ص) (19)

قيم هذا المقال
(1 Vote)
حرب قريش الإعلامية ضد النبي (ص) (19)

الحرب الإعلامية والدعاية بكل ما تتضمنه من مجادلة ومهاترة وترويج إشاعات كاذبة هي من الأسلحة التي استخدمها المشركون لمحاربة الرسول (ص) والحد من نشر دعوته الإسلامية بين القبائل العربية، وخاصة تلك القبائل الوافدة إلى مكة المكرمة أيام المواسم والمناسبات الدينية والتجارية.

صحيح أن سياسة الارهاب والتهديد والتخويف التي اتبعها المشركون ضد المسلمين داخل مكة كانت تمنع في بعض الحالات بقية سكان مكة من الدخول في الإسلام خوفاً من التعذيب والتنكيل إلا إنها لم تكن لتمنع الألوف من الناس الوافدين إلى مكة بقصد الحج أو التجارة من الاستماع إلى النبي (ص).

فقد كان الوافدون من أنحاء الجزيرة العربية يلتقون في جو من الأمن والطمأنينة. وكانوا يتأثرون بدعوته، وفي الحد الأدنى يتزعزع اعتقادهم بالأصنام والأوثان. وكان هؤلاء ينقلون أخبار الدين الجديد إلى مناطقهم وأهلهم عندما يعودون إلى ديارهم.

فكان ينتشر بذلك اسم محمد رسولا لله وأخبار الدعوة الإسلامية وما تأتي به من مفاهيم وقيم في مختلف مناطق الجزيرة العربية. وكان هذا العمل بحد ذاته بمثابة ضربة قوية لقريش ولكل ما تمثله من الوثنية والشرك، وعاملاً قويا في انتشار الإسلام، وعقيدة التوحيد خارج مكة. لذلك فكّر المشركون منذ بدأ النبي (ص) يتصل بالجماعات السياسية والاقتصادية التي كانت تفد إلى مكة في المواسم والمناسبات، يدعوها إلى الإسلام، في تنظيم حملة دعائية تطال شخص النبي ورسالته.

 

قريش تتأمر على النبي (ص) ببث الشائعات :

التاريخ يحدّثنا أن أشخاصاً من قريش اجتمعوا عند الوليد بن المغيرة في أمر النبي (ص) وفي ما يمكن أن يمكنهم قوله بشأنه للعرب القادمين إلى مكة كي لا يتأثروا به أو يستجيبوا لدعوته. فاقترح بعضهم أن يقولوا للناس إن محمداً كاهن. فردّ الوليد لهذا الاقتراح إن ما يقوله محمد ليس فيه ما يقوله الكهنة من شيء، وبالتالي لا يمكن إقناع الناس بذلك.

واقترح أخرون أن يروجوا لجنون محمد. فردّ الوليد هذا الرأي لعدم تحقق علامات الجنون على محمد. واقترح أخرون القول بأن محمداً ساحر، ورد الوليد أيضا هذا الرأي لأن محمدا لا ينفث في العقد ولا يأتي من عملة السحرة شيئاً.

وبعد حوار وجدال طويلين اقترح الوليد عليهم أن يقولوا للوافدين والزوار إلى مكة إن هذا الرجل ساحر البيان وإنما يقوله يفرّق بين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه وبين المرء وزوجه وبين المرء وعشيرته.

واتفقوا ان يبرهنوا على ذلك للناس بما أصاب أهل مكة أنفسهم من الفرقة والتناحر بسبب هذا الرجل. فانطلق المشركون يروجون لهذه الشائعة الكاذبة، ويحذرون زوار مكة من الالتقاء بالنبي (ص) أو الاستماع إليه. ولكن قوة الحق وعظمة شخصية النبي (ص) وعظمة القيم والمبادئ والمفاهيم التي أتى بها الإسلام كانت تعلو وتتقدم على كل ما يشيعه المشركون. وكان الإسلام يزداد كل يوم انتشاراً واتساعاً في أوساط العرب.

فقد جاء طفيل بن عمير الدوسي إلى مكة وكان رجلا وجيها وشاعرا وصاحب نفوذ في مجتمعه وقومه، فخشيت قريش اتصال هذا الرجل بالرسول (ص) ويتأثر بدعوته، فجاءوا إليه وحذروه من الاستماع للنبي (ص) وقالوا له :"إن قوله كالسحر يفرّق بين الرجل وأهله بل بين الرجل ونفسه، وإنّا نخشى عليك وعلى قومك ما أصابنا من الفرقة والتناحر. فلا تكلمه ولا تسمع منه شيئاً".

ففعلت تحذيرات قريش فعلتها في نفس طفيل وقرر عدم الاستماع للنبي (ص) مطلقاً، وحشا أذنية قطناً عندما ذهب إلى الكعبة المشرفة من أجل الطواف خوفاً من أن يبلغه شيء من كلام محمد وهو لا يريد سماعه. يقول طفيل :"فغدوت إلى المسجد فإذا رسول الله قائم يصلي عند الكعبة، فوقفت بالقرب منه فسمعت كلاماً حسناً من غير اختياري. فقلت في نفسي والله لأني رجل لبيب شاعر ما يخفى علي الحسن والقبيح فما يمنعني أن أسمع هذا الرجل ما يقول؟!.. فإن كان الذي يأتي به حسناً قبلته، وإن كان قبيحاً تركته. فمكثت حتى انصرف رسول الله إلى بيته فاتبعته حتى إذا دخل إلى بيته دخلت عليه فقلت له يا محمد إن قومك حذروني من الاستماع إليك والله ما برحوا يخوفونني أمرك حتى حشوت أذني بقطن كي لا أسمع قولك ثم أبى الله إلا أن يسمعني قولك فسمعته قولاً حسناً، فاعرض علي أمرك. فعرض عليه رسول الله الإسلام وتلى عليه من القرآن.. فوالله ما سمعت قولا قط أحسن منه ولا أمرا أعدل منه، فأسلمت وشهدت شهادة الحق".

إن هذه القصة وغيرها من الشواهد تدلنا على أن النبي (ص) كان يواجه سلاح الدعاية وحرب الشائعات، التي كانت تروجها قريش عنه، بالمبادرة إلى الالقتاء بالأفراد والجماعات التي إلى مكة مباشرة، ومحاولة تعريفه بنفسه وشخصيته ليأخذوا عنه الصورة الحقيقية من خلال وضوح دعوته وطريقة تفكيره وطبيعة القضايا التي يثيرها ويدعو إلى الإيمان بها وأسلوب حديثه وكلامه وسعة عقله وأفقه وفكره. وكان ذلك هو الخطة العملية لتحطيم كل الدعايات التي أثارها المشركون ضده بنسبة الجنون والسحر والشعر إليه.

 

شائعة "جبرا النصراني" :

وهناك شائعة أخرى روجت لها قريش في وسط القبائل العربية أيضاً. وهي أن ما يأتي به محمد إنما يتعلمه من رجل نصراني اسمه "جبر"، كان محمد يجلس في دكانه في بعض الأوقات. فكانوا يشيعون أن جبرا النصراني هو الذي يعلم محمداً أكثر الأشياء التي يقولها ويدعو إليها. ولقد أنزل الله قوله تعالى في ذلك في سورة النحل المباركة :"ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين". فالقرآن الكريم في هذه الأية الكريمة يردّ بقوة على هذه الدعاية المغرضة بأن هذا الشخص الذي يشيعون بأنه يعلم النبي (ص) هو أجنبي، لا يفقه من اللغة العربية وبلاغتها شيئاً. والقرآن الكريم الذي جاء به محمد رسول الله (ص) هو في منتهى البلاغة والفصاحة العربية. فكيف يمكن بمثل هذه الحال أن يعلم شخص النبي بيان اللغة العربية وفصاحتها في وقت عجز أهل البيان والبلاغة عن التفوق عليه؟. حتى إن القرآن الكريم تحداهم بإتيان سورة واحدة من مثله، فما استطاعوا وعجزوا عن ذلك.

وهكذا استطاع النبي (ص) من خلال قوة شخصيته وفرادة رسالته ووضوح وعظمة ما جاء به أن يدفع كل الشبهات والدعايات التي كانت تثيرها قريش ضده. وتمكّن من تعميق الإيمان والإسلام في العقول والقلوب والنفوس مما دفع بالمشركين إلى التفكير بأسلوب جديد لمحاربته. وكان أسلوب المقاطعة لبني هاشم وفرض حصار اجتماعي واقتصادي عليهم . وهذا محور المقالة القادمة.  

 

 

قراءة 4919 مرة