تعتبر مسألة الصلاة على النبي’ من جملة المسائل التي اتفق المسلمون على أصلها واختلفوا في تفاصيلها وكيفيتها.
وأصل هذه المسألة قوله تعالى: {إن الله وملائكته يصلّون على النبيّ يا أيّها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليما}([1]). وتشترك هذه الآية مع آية أُخرى أشارت الى صلاة الله سبحانه وتعالى على عباده، مثل قوله تعالى: {هو الذي يصلّي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات الى النور وكان بالمؤمنين رحيما}([2]). ومع آية ثالثة أشارت الى صلاة النبي’ على بعضهم، هي قوله تعالى: {خُذ من أموالهم صدقة تطهّرهم وتزكّيهم بها وصلّ عليهم ان صلواتك سكن لهم والله سميع عليم}([3]).
وقد أشار أكثر المفسرين الى أن صلاة العبد لربّه دعاء وتعظيم، وصلاة الله لعبده رحمة وتكريم بدليل التعليل الوارد {ليخرجكم من الظلمات الى النور وكان بالمؤمنين رحيماً}، وصلاة الرسول على المؤمنين هي الدعاء لهم بالخير والبركة. وصلاة الملائكة على الرسول أو المؤمنين دعاء واستغفار([4]).
وهذه الصلاة المتبادلة بين العبد والرب والرسول، صلاة العبد للرب وصلاة الرب للعبد، صلاة الرسول للمؤمنين ، وصلاة المؤمنين للرسول، تجسّد أكمل صورة للتلاحم والترابط بين الخالق والمخلوق، بين الاُمة ورئيسها، على أن يعرف كل طرف موقعه ومنزلة الطرف الذي هو بإزاءه ، فلا تضيع الحدود في ثنايا هذا التلاحم، فالعبد يصلي تعظيماً وعبودية ورقّاً للخالق العظيم، والله يصلي إكراماً وتشريفاً ورحمة بهذا العبد العارف، والمؤمن يصلّي على الرسول اذعاناً بمنزلته وتسليماً لولايته، والرسول يصلّي على المؤمن إكراماً له ورغبة في مزيد الخير له .
وقد خص الله سبحانه وتعالى نبيه بأعلى درجات التكريم والتشريف إذ صلّى عليه، وصلّت عليه ملائكته، وألزم المؤمنين بالصلاة عليه، وكان من جملة ذلك تكريم اُمته التي آمنت به وانصاعت لأوامره، فكانت صلاة الله وملائكته ورسوله عليها رشحة من ذلك التكريم، وقبساً من تلك المشكاة، وخصيصة تمتاز بها هذه الاُمة عما سواها من الاُمم التي جاءت قبلها.
صيغة الصلاة على النبي (ص)
لقد أجمع فقهاء مذهب أهل البيت(ع) على عدم جواز الاكتفاء بذكر النبي’ في الصلاة ووجوب ذكر آله معه([5])، مستدلّين على ذلك بأخبار قطعية وردت في تراث الفريقين معاً، كالخبر المشهور في مصادر اهل السنه([6])، أنّ النبي’ «خرج علينا فقلنا: يا رسول الله، قد علمنا كيف نسلّم عليك، فكيف نصلّي عليك؟ قال: «فقولوا اللهم صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم انك حميد مجيد»([7])، وقد أورد مثل هذا النصّ سائر المفسرين عند هذه الآية: {إن الله وملائكته يصلون على النبي...}([8]) وفي صيغة الجزم والتأكيد تقف عندما رواه ابن حجر في الصواعق المحرقة، أنه’ قال: «لا تصلّوا عليّ الصلاة البتراء، فقالوا: وما الصلاة البتراء؟ قال: تقولون اللهم صلّ على محمّد وتمسكون، بل قولوا: اللهم صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد»([9]).
ورغم وفرة هذه الأدلّة وكثرتها وتأكيدها على الجمع بين النبيّ وآله، إلاّ أن الفقه السنّي لم يقطع بوجوب الصلاة على الآل، فهناك من أوجب ذكر الآل في الصلاة عليه وهناك من لم يوجبه([10])، محتجّاً بوجوه واهية يأنف القلم الرفيع عن ذكرها، فضلاً عن الاعتقاد بها، كقوله: إن عدم الوجوب أولى لأن «النبي’ إنّما أمرهم بهذا ـ يعني ذكر الآل مع النبي ـ حين سألوه تعليمهم ولم يبتدئهم به»([11]).
والجواب عليه: إن النبي’ قد يكتفي بسؤالهم في إيراد الأحكام المتعلقة بموضوع المسألة، ولو لم يسألوا لكان قد بادر الى بيان هذا الحكم الشرعي. وهذه الحالة لها نظائر قرآنية كثيرة أوردها القرآن الكريم بعنوان يسألونك، كما في: {يسألونك عن المحيض}([12])، {يسألونك عن الشهر الحرام}([13])، {يسألونك عن الخمر والميسر}([14]) ، وغير ذلك، وعلى هذا الادعاء يلزم أن لا يكون لهذه المسائل أحكام شرعية، لو لم يكن يظهر سؤال من الناس عنها، فهل هذا الاستنتاج صحيح؟!!
مـن هـم الآل (ع) ؟
المقطوع به في مدرسة أهل البيت(ع): إن الآل المقصودين في الصلاة هم « أهل بيته، إذ لا تجب الصلاة على غيرهم»([15]) وهذا أشبه ما يكون بضروريات هذا المذهب التي تستغني عن الإثبات والبرهنة، وتؤيده عشرات الأحاديث المروية في المصادراهل السنه عن الرسول’، كمسند أحمد، والمستدرك على الصحيحين، والدر المنثور للسيوطي، وكنز العمال، ومجمع الزوائد، حيث تدل جميعاً على أن آل محمّد’ هم فاطمة وعليّ والحسن والحسين([16])، منها ما رواه الإمام أحمد في مسنده، أن النبي’ جمع فاطمة وعلياً والحسن والحسين، وألقى عليهم كساءاً ، ثم وضع يده على الكساء ، ثم قال: «اللهم إن هؤلاء آل محمّد فاجعل صلواتك وبركاتك على محمّد وآل محمّد إنّك حميد مجيد»([17]).
ومع أن وفرة هذه الأحاديث ووضوحها تجعل الأمر مستغنياً عن البحث، إلاّ أننا نجد رغم ذلك ظهور تفاسير غريبة تقول إنهم: أتباعه، أو اُمته، أو الأتباع والرهط والعشيرة، وقيل: قومه، وقيل: أهله الذين حرمت عليهم الصدقة...
ويجيء على مذهب الحسن أن المراد بآل محمّد، محمّد نفسه! وهذا من أغرب الآراء!!
وهناك من فسّر الآل بكونهم بني هاشم([18]).
وأفضل ما نختم به هذا البحث في هذه النقطة هو ما قاله الفخر الرازي في تفسيره الكبير، حيث كتب يقول: «وأنا أقول: آل محمّد’ هم الذين يؤول أمرهم إليه، فكل من كان أمرهم إليه أشد وأكمل كانوا هم الآل. ولا شك أنّ فاطمة وعلياً والحسن والحسين(ع)، كان التعلق بينهم وبين رسول الله’ أشد التعلقات، وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر فوجب أن يكونوا هم الآل، وإن حملناه على الاُمة الذين قبلوا دعوته فهم أيضاً آل ، فثبت أن على جميع التقديرات هم الآل.
وأما غيرهم فهل يدخلون تحت لفظ الآل؟ فمختلف فيه، وروى صاحب الكشاف أنّه لما نزلت هذه الآية ـ يقصد آية المودّة ـ قيل يا رسول الله: من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم؟ فقال: «عليّ وفاطمة وابناهما» فثبت أنّ هؤلاء الأربعة أقارب النبي’، وإذا ثبت هذا وجب أن يكونوا مخصوصين بمزيد من التعظيم ويدل عليه وجوه .
وثاني الوجوه التي ذكرها الفخر الرازي هو: إنّ الدعاء للآل منصب عظيم، ولذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهد في الصلاة، وهو قوله : «اللّهم صلِّ على محمّد وآل محمّد وارحم محمّداً وآل محمّد» وهذا التعظيم لم يوجد في حق غير الآل([19]).
هذا، وقد كان الفخر الرازي أكّد في تفسيره أنّ صيغة الصلاة على النبي’ هي: «اللّهم صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد...»([20]).
المسألة في مضمار الفقه
والمسألة من حيث الأصل لا خلاف فيها، كما لا خلاف في فضل الصلاة على النبي’ واستحبابها في كل وقت، وترتب الثواب عليها، لورود الأخبار الكثيرة بذلك من طرق السنّة والشيعة، كقوله’: «من صلّى عليّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً»([21]) إنّما ظهر الخلاف في جهتين:
الأُولى ـ ماهي صيغة الصلاة عليه ؟ وقد انتهينا من البحث في ذلك واتضح الحق فيه وهو أنّ ذكر (آل محمّد(ع)) عند الصلاة عليه أمر مشروع بل مطلوب عند جميع المسلمين، وأنّ ترك ذكرهم عند الصلاة على النبي’ يجعلها صلاة بتراء، كما صرّح بها النص النبويّ الشريف.
الثانية ـ متى تجب الصلاة على النبي وآله؟ وهو ما نبحثه الآن.
ومما لا شك فيه أن الآية تشتمل على صيغة أمر، وعلى درجة مؤكدة منها، إذ بعدما قدمت {إن الله وملائكته يصلّون على النبي...} أصدرت أمراً مؤكداً، نصه: {يا أيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليما}. ومن المقرر لدى علماء الاُصول، أن صيغة الأمرتدل على الوجوب، وهذا ما أدى الى طرح السؤال التالي:
متى تجب الصلاة على النبيّ’
وقد ظهرت هنا عدة آراء ذكرها الزمخشري في تفسيره كالآتي :
«فإن قلت: الصلاة على رسول الله’ واجبة أم مندوبة إليها ؟
قلت: بل واجبة، وقد اختلفوا في حال وجوبها».
فمنهم من أوجبها كلما جرى ذكره، وفي الحديث «من ذكرت عنده فلم يصلِّ عليّ فدخل النار فأبعده الله» ويروى أنه قيل: يا رسول الله أرأيت قول الله تعالى: {إن الله وملائكته يصلّون على النبي...} فقال’: «هذا من العلم المكنون ولولا انكم سألتموني عنه ما أخبرتكم به، ان الله وكّل بي ملكين فلا أذكر عند عبد مسلم فيصلي عليّ إلاّ قال ذانك الملكان: غفر الله لك. وقال الله وملائكته لذينك الملكين: آمين».
ومنهم من قال: تجب في كل مجلس مرّة وإن تكرر ذكره، كما قيل في آية السجدة، وتسميت العاطس، وكذلك في كل دعاء في أوله وآخره.
ومنهم من أوجبها في العمر مرّة، وكذا قال في إظهار الشهادتين.
والذي يقتضيه الاحتياط، الصلاة عليه عند كل ذكر، لما ورد من الأخبار.
فإن قلت: «فالصلاة عليه في الصلاة أهي شرط في جوازها أم لا؟ قلت: أبو حنيفة وأصحابه لا يرونها شرطاً. وعن إبراهيم النخعي: كانوا يكتفون عن ذلك ـ يعني الصحابة ـ بالتشهد وهو السلام عليك أيها النبي، وأما الشافعي& فقد جعلها شرطاً...»([22]).
وقال القرطبي في تفسيره: «ولا خلاف في أن الصلاة عليه فرض في العمر مرّة وفي كل حين من الواجبات وجوب السنن المؤكدة التي لا يسع تركها ولا يغفلها إلاّ من لا خير فيه»([23]).
واختار ابن حزم في المحلّى أنّها واجبة في العمر مرّة، والزائد على ذلك مستحب، وردّ على الشافعي إيجابه لها في الصلاة بأن ذلك دعوى بلا برهان، وردّ وجوبها أكثر من مرة بأن الزيادة على ذلك لابد وأن تتحدد بعدد معين. ولا سبيل الى ذلك إذ لا يوجد دليل على عدد بعينه([24]) وهو رأي الجصاص أيضاً([25]).
ورأي الشافعي أنّها واجبة في التشهد الأخير فقط، وكذا الأمر عند الحنابلة، واستدلوا له بعدّة وجوه([26]).
أما مذهب أهل البيت(ع) فمن أوضح واضحاته وجوب الصلاة على النبي’ في التشهدين معاً، واستدل عليه الشيخ الطوسي بـ «اجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط، لأنه لا خلاف إذا فعل ذلك أن صلاته ماضية، ولم يدلّ دليل على صحتها إذا لم يفعل ذلك، وأيضاً قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليما} وهذا أمر بالصلاة عليه يقتضي الوجوب ولا موضع أولى من هذا الموضع». ثم روى ثلاث روايات تدل على وجوبها في الصلاة: الاُولى عن كعب بن عجرة عن الرسول’ والثانية عن عائشة عن الرسول’ والثالثة عن أبي بصير عن الإمام الصادق×([27]).
وفي تذكرة الفقهاء: أن الأمر للوجوب، ولا يجب في غير الصلاة اجماعاً ، فيجب فيها، ولأن عائشة قالت : سمعت رسول الله’ يقول: «لا يقبل صلاة إلا بطهور، وبالصلاة عليّ» ولقول الصادق×: «من صلّى ولم يصلِّ على النبي’ وتركه عامداً فلا صلاة له»([28]).
حصيلة البحث
فتحصل من ذلك ثبوت مطلوبية الصلاة على النبيّ’ في كل آن، ووجوبها في التشهدين من الصلاة، ومن هنا يتضح بطلان الصلاة التي لم يرد فيها الصلاة على النبي’.
كما تحصل أيضاً أن المقصود بالصلاة على النبي’ هي ما ذكر فيها أهل بيته معه، وأن الصلاة الخالية من ذكرهم(ع) صلاة سمّاها الرسول’ بالصلاة البتراء، وقد نهى عنها الرسول نفسه، وبالتالي فالفريضة الخالية من ذكرهم(ع) كالخالية من ذكره’أصلاً.
وكلتاهما محكوم عليهما بالبطلان ، كما قال الإمام الشافعي:
يا آل بيت رسول الله حبّكم فـرض من الله في القرآن أنزله
كفاكم من عظيم القدر انّكم من لم يصلِّ عليكم لا صلاة له([29])
أما ذكر غيرهم معه في الصلاة فتكلف واضح لا دليل عليه، والأمر كما قال الفخر الرازي في الصلاة عليهم(ع) معه’ منصب عظيم خاص بهم دون سائر الناس. هذا، وليس من الصلاة عليه ترك الصلاة على آله واستبدالها بالتسليم عليه: عليه الصلاة والسلام، أو: صلّى الله عليه وسلم فان الأوّل من الصلاة البتراء المنهيّ عنها، والثانية بالإضافة الى ذلك لا دليل على هذا السلام هنا([30]) .
الهوامش:
([4]) الميزان 9 : 397، 16 : 335، انظر كذلك التفسير الكبير 16 :180، 25 : 215، 227.
([5]) الخلاف للشيخ الطوسي 1 : 373، تذكرة الفقهاء 3 : 233، جواهر الكلام 10 : 261.
([6]) وهو سلام التشهد في الصلاة فقد كانت من قبل. وليس هو السلام مع الصلاة ولا سيما بعدها: صلى الله عليه وسلم، فهذا مما لا دليل عليه، والآية: {وسلموا تسليماً} ليس في الأخبار عن الأئمة الأطهار(ع) إلا تسليم الانقياد وليس تسليم التحية، كما جاء في تفسيرها في تفسير العياشي والقمي، انظر مقالة: وسلّموا تسليما انقياداً أو تكريماً؟! في العدد 15 من مجلة الفكر الإسلامي، لليوسفي الغروي.
([7]) صحيح البخاري 6:217، ح 291 ، سنن الترمذي 5:359 ح 3220، والحديث متفق عليه.
([9]) الصواعق المحرقة : 225 ط . بيروت.
([10]) المجموع للإمام النووي 3:466 ـ 467.
([11]) المغني لابن قدامة 1:581، الشرح الكبير 1 : 581 بهامش المغني ط دار الكتاب العربي.
([16]) قام المرحوم الفيروز آبادي بجمع شطر من هذه الأحاديث في كتابه فضائل الخمسة من الصحاح الستّة
1 :219 ـ 222.
([18]) الصواعق المحرقة : 225 ، انظر كذلك المجموع للنووي 3: 466 ط دار الفكر.
([19]) التفسير الكبير 27 : 166.
([20]) المصدر السابق 25 : 277.
([21]) الجامع لأحكام القرآن 14 : 235.
([23]) الجامع لأحكام القرآن 14 :232 ـ 233.
([26]) الفقه على المذاهب الأربعة 1 :236 ، 367، انظر كذلك المغني لابن قدامة المقدسي 1 : 579 ـ 580.
([27]) كتاب الخلاف 1 : 369 ـ 371.
([29]) الصواعق المحرقة لابن حجر 228 في تفسير آية {ان الله وملائكته يصلون على النبي..}. وقد فسّر كلام الشافعي في هذين البيتين، فاحتمل كون المقصود عنده لا صلاة صحيحة فيكون موافقاً لقوله بوجوب الصلاة على الآل مع النبي في الصلاة، واحتمل كون المقصود لا صلاة كاملة ليوافق قوله في المسألة.
([30]) لمزيد البيان والتفصيل انظر مقالة: وسلّموا تسليماً انقياداً أو تكريماً؟! في العدد 15 من مجلة الفكر الإسلامي لليوسفي الغروي.