الحسد

قيم هذا المقال
(1 Vote)
الحسد

عن الإمام الصادق عليه السلام: "أصول الكفر ثلاثة: الحرص والاستكبار والحسد"1.

إنّ الكفر بالله تعالى ودينه لا ينطلق دائماً من خلفيّة فكريّة، بل قد يكون منطلقُهُ آفّةٌ نفسيَّةٌ قد تُغطَّى بثوب آخر، ومن تلك الآفات النفسيّة الباعثة على الكفر: الحسد، الذي حذّر الله تعالى منه، ودعا إلى الاستعاذة بالله لتجنّبه فقال عزّ وجلّ: ﴿وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ2.

تعريف الحسد
الحسد هو حالة نفسيّة يتمنّى بها الحاسد زوال النعمة التي يتصوّرها عند الآخرين، ويكره وصول تلك النعمة إليهم، فيصيبه غمٌّ إنْ وصلت3. فقد ينظر التلميذ إلى رفيقه في الصفّ فيجده مجدًّا في درسه، متفوِّقاً في مدرسته، بخلاف حالته، فيغتمّ لذلك، ويحسده على ما يرى فيه من نِعَمٍ، فيتمنّى له زوال الهمَّة والرسوب في الامتحانات.

وقد يُصاب الإنسان بهذا الغمّ، وتنطلق من نفسه تلك الأمنية السيّئة حينما يرى الآخر صاحب مال، أو ذا جاه، أو مشهوراً، أو عالماً، أو مرزوقاً بأولاد كثر، فيتمنى زوال هذه الأمور، لا سيّما حينما يقارن ما يراه بحالته الخاصّة التي لم تتلقَّ تلك النعم المتصوَّرة.

وقد قيَّدتُ النعم بــ "المتصوَّرة"، لأنّها في الحقيقة قد لا تكون نعماً حقيقيّة، بل قد تكون نقماً بصورة نِعم، فالمال والجاه والشهرة ونحوها قد تكون نعماً حينما يستثمرها الإنسان في مسيرة كماله، وقد تكون نقماً لكونها أسباباً لانحرافه عن كماله، وهذا ما أرشد إليه الحديث عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "إنّ الله إذا أراد بعبد خيراً فأذنب ذنباً أتبعه بنقمة، ويذكّره الاستغفار، وإذا أراد بعبد شراً فأذنب ذنباً أتبعه بنعمة، لينسيه الاستغفار"4.

وليس المقصود هنا التدخّل الإلهي الأوّلي ليبعد الإنسان عن الاستغفار، بل المراد أنّ الإنسان يصل في انحطاطه وبُعده عن الله إلى درجة ينسى الله فيها لتكون عاقبته نسيان اللجوء والعودة إلى الله تعالى.

الحسد والغبطة
هناك حالة نفسيّة إيجابيّة قد يخلط البعض بينها وبين الحسد، وتكون حينما يتمنّى الإنسان أن ينعم الله عليه بما أنعم على غيره، دون أن يتمنّى زوال تلك النعم عن صاحبها، وهذا يُسمّى بــ "الغبطة" التي لم يُنه عنها في الدين، بل ورد في الحديث: "انّ المؤمن يغبط ولا يحسد"5.

الحسد من منظار شرعيّ
اتّفق العلماء على السلبيّة الكبيرة الكامنة في آفة الحسد، كما اتّفقوا على ما تؤدّي إليه من حرام حينما يفعِّل الحاسد حسده من خلال العمل، كمن يحسد رفيقه في الوظيفة فيتآمر عليه ليزيله من موقعه.

أمّا حينما تكون هذه الآفة في النفس فقط من دون أن يتظاهر بها ويفعّله في عمله، فقد تعدَّدت وجهات نظر الفقهاء إليها بين عدم حرمتها، وحرمتها وكذلك في درجة حرمتها، فالشهيد الثاني اعتبرها معصية كبيرة، واعتبرها المحقق الحلي معصية صغيرة، بينما اعتبر بعض الفقهاء ان الحاسد اذا التفت إلى لوازم الحسد كالسخط على الله فهو معصية فوق الكبيرة، وان لم يتظاهر فهو كالمنافق6.

الحسد مواكب لمسار المخلوق المختار
تحدّثت النصوص الدينيّة عن قدم آفة الحسد مع وجود المخلوق المختار:

- ففي بداية خلق آدم حسده إبليس واستكبر عليه، فعصى الله لأجل ذلك، وقد عبَّر عن حسده بقوله: ﴿خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ7.

- وفي العائلة البشرية الأولى بعد آدم وحواء، حسد قابيل ابن آدم أخاه هابيل، بسبب تقديم الله له في موقع الولاية، ممّا أدّى به إلى قتل أخيه ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ8.

- وهكذا استمرّ الحسد بين الأمم اللاحقة إلى أن جاء رسول الإسلام ليحذِّر أمَّته من هذه الآفة بقوله: "ألا إنّه قد دبَّ إليكم داء الأمم من قبلكم وهو الحسد، ليس بحالق الشعر، لكنه حالق الدين"9.

لماذا الحسد من أصول الكفر؟
تقدّم الكلام الخطير عن الحسد بأنّه من أصول الكفر، ولعلَّ السبب في كونه كذلك ما أشار إليه حديث قدسيٌّ يقول الله تعالى فيه: "إنّ الحسود يشيح بوجهه عمَّا قسمته بين العباد، وهو ساخط على نعمي"10.

إذاً الحسد هو حالة تعبِّر عن الاعتراض على عدالة الله تعالى، فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "قال الله عزّ وجلّ لموسى بن عمران عليه السلام: يا ابن عمران، لا تحسدنّ الناس على ما آتيتهم من ضلي، ولا تمدَّنّ عينيك إلى ذلك، ولا تتبعه نفسك، فإنّ الحاسد ساخط لنعمي صادّ لقسمي الذي قسمت بين عبادي، ومن يك كذلك فلست منه وليس مني"11.

على هذا الأساس وردت أحاديث عديدة حول التضاد بين الحسد والدين أو الإيمان وما ينتج عنهما من طاعات، كالحديث النبوي الشريف: "لا يجتمع الإيمان والحسد في قلب امرئ"12، والحديث النبويّ السابق. "..لكنه حالق الدين"، وكذا ما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب"13.

وما يُؤكِّد هذا التضادّ بينهما هو أنّ آفة الحسد هي من أمّهات الرذائل، فبسببها قد يقع الإنسان في الكذب والغيبة والنميمة والخداع، والإضرار بالآخرين، لذا حذَّر الله تعالى عن هذا التفعيل السلبي للحسد القلبي بقوله تعالى: ﴿وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ14.

علاج الحسد
يمكن مقاربة علاج الحسد من خلال الأمور الآتية:

١- تعميق الاعتقاد بعدالة الله تعالى في قسمة نعمه بين عباده، وبحكمته تعالى في العطاء والمنع بين خلقه، وأنّ التفاوت بين الناس، منه ما يكون منطلِقاً من الفعل التكويني لله تعالى بحسب مصلحة الكمال الإنساني فرداً ومجتمعاً، ومنه ما يكون من فعل الله من خلال الإرادة الاختياريّة للإنسان التي بها يتكامل الإنسان ليصل إلى مرتبة قد تفوق الملائكة، وعليه، فلا بدّ للإنسان أن يسعى لتحصيل كمالاته دون تقصير، فإن فعل ذلك، فإنّ ما وصل إليه هو بإرادة الله التي لا بدّ أن تنصبّ في مصلحته، فلا ينزعج ممّا يرى من تفاوت بينه وبين غيره.

وما يعزِّز هذا الأمر أن ينظر إلى من لم ينعم الله عليهم بتلك النعم التي أنعمها عليه، فإن كان بصيراً فلينظر إلى الضرير، وإن كان سليم الجسد، فلينظر إلى المُعاق، وإن كان حسن الاعتقاد، فلينظر إلى المنحرف عن الدين، وهكذا..

٢- التأمّل في مضارّ الحسد وآثاره السلبيّة التي منها:
أ- شقاء الحاسد،
فإنّ الأثر السلبي الأول للحسد يطال الحاسد نفسه، إذ يُشعره الحسدُ بالغمّ، ويبعده عن اللذة والراحة، وهذا ما أشار إليه الإمام علي عليه السلام في العديد من الأحاديث منها:
- "أقلّ الناس لذّة الحسود"15.
- "لا راحة لحسود"16.
- "الحسود مغموم"17.


ب- آثاره التي قد تؤدّي إلى هدم البنيان الاجتماعيّ، والإضرار بالآخرين بما يطال الحاسد في ذلك، والعبرة بما تقدَّم في قصة إبليس وقابيل، وما جرى على البشريّة بسبب تلك الآفة.

ج- عاقبة الحاسد في الآخرة، فعن الإمام الصادق عليه السلام "والله لو قدَّم أحدكم ملء الأرض ذهباً على الله، ثمّ حسد مؤمناً لكان ذلك الذهب مما يكوى به في النار"18.

3- الالتجاء إلى الله تعالى في رفع الحسد.

4- أن يعمل الحاسد في علاقته مع المحسود خلاف هواه، بأن يظهر له المحبَّة والاحترام، ويذكره في المجالس بمحاسنه.

5- أن يستحضر ثواب الإنسان الذي جنّب نفسه من الحسد، فقد روي أنّ كليم الله موسى رأى رجلاً عند العرش فغبطه، وقال: "يا ربّ، بمَ نال هذا ما هو فيه من صنعه تحت ظلال عرشك، فقال: انّه لم يكن يحسد الناس"19.

استكمال الكمال لرفع الحسد
بما أنّ الحسد آفة تمثّل عاقبة في مسار التكامل الإنساني الذي يريده والله تعالى للمجتمع البشريّ، فإنّ على المؤمن أن يساعد الآخرين في دفع الحسد عنهم ورفعه، ولعلّ من أبرز المواقع التي عليه أن يدفع ويرفع الحسد فيه هو في مقام التربية للأولاد، فلا يقوم بتصرّف مع بعض أولاد بما قد يحرِّك حسد الآخرين نحو بعضهم البعض وكذا بالنسبة إلى زملائه في مقاعد الدراسة، ومكاتب العمل، ومراكز المسؤولية.

فرحم الله من أعان غيره على طاعة الله والبعد عن معصيته.

* لا تقربوا، سماحة الشيخ أكرم بركات، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.

1- الكليني، محمد، الكافي، ج٢، ص ٢٨٩.
2- سورة الفلق، الآية ٥.
3- أنظر: المرتضى، عليّ، رسائل المرتضى، تحقيق أحمد الحسينيّ ومهدي الرجائيّ، لا،ط-، قم، دار القرآن الكريم، ١٤٠٥هـ، ج٢، ص٢٦٩.
4- الكليني، محمد، الكافي، ج٢، ص ٤٥٢.
5- المصدر نفسه، ج٢، ص ٣٠٧.
6- انظر: الكلبيكاني، محمد، كتاب الشهادات، ط١، قم، سيد الشهداء، ١٤٠٥هـ، ص١٢٣.
7- سورة الأعراف، الآية ١٢.
8- سورة المائدة، الآيات ٢٧ - ٣٠.
9- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج٧٠، ص ٢٥٣.
10- نقله الإمام الخميني في كتابه الأربعون حديثاً، ص١١٤.
11- الكليني، محمد، الكافي، ج٢، ص ٣٠٧.
12- الطبرسي، حسين، مستدرك الوسائل، ج١٢، ص ١٨.
13- الكليني، محمد، الكافي، ج٨، ص ٤٥.
14- سورة الفلق، الآية ٥.
15- الصدوق، محمد، الأمالي، ص٧٣.
16- المالكي، علي، الفصول المهمة في معرفة الأئمة، تحقيق سامي العزيري، ط١، قم، دار الحديث، ١٤٢٢هـ، ج٢، ص١١٨٩.
17- الواسطي، علي، عيون الحكم والمواعظ، ص١٩.
18- الطبرسي، حسين، مستدرك الوسائل، ج١٢، ص ١٩.
19- الديلمي، الحسن، إرشاد القلوب، ط٢، قم، انتشارات الشريف الرضي، ١٤١٥هـ، ج١، ص١٣٠.

قراءة 3063 مرة