القرب من الله

قيم هذا المقال
(1 Vote)
القرب من الله

فطريّة حبّ الكمال
هناك علاقة حقيقيّة وواضحة يكشفها لنا القرآن الكريم بين الدِّين الحنيف وبين الفطرة الإنسانيّة، حين يقول: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ1. فإقامة الوجه، والإقبال نحو الدين الحنيف، الذي هو دين التوحيد، ودين معرفة الله، ودين العبوديّة لله، يمرّ من خلال قناة الفطرة الإنسانيّة. فإذا أراد الإنسان أن يكتشف سرّ وجوده ومعنى وجوده في هذا العالم، عليه أن يرجع إلى خلقته وفطرته التي خلقه الله تعالى عليها. لذا نرى نبيّ الله إبراهيم عليه السلام عندما وجّه وجهه نحو الهدف الحقيقيّ لوجوده، بعد أن شخصّه بدقة، فإنّه استعان بهذه الفطرة الإلهيّة التي أودعها الباري أمانة في أعماق وجودنا لتهدينا إليه تعالى، فقال: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ2.

وإذا رجعنا إلى هذه الفطرة لنتفحّصها ونعلم حقيقة مرادها ومبتغاها فسوف نكتشف أمرًا بالغ الأهمّيّة، إذ سوف نلاحظ بشكل لا لبس فيه ولا شكّ على الإطلاق أنّ ما تريده هذه الفطرة يمكن أن نحصره بكلمة واحدة هي "الكمال".

فمن هذه الآيات الكريمة وغيرها يستفاد أنّ في نفس الإنسان استعدادًا للرقيّ والكمال، واستعدادًا للسقوط والانحدار، وأنّ الناس بأجمعهم ينشدون الكمال بشكل فطريّ، وليس ثمّة إنسان يسرّه الخلل بوجوده، بل إنّ كلّ إنسان يسعى بشكل غريزيّ وفطريّ لأنْ يزداد كمالًا يومًا بعد يوم، ولا يوجد شخص واحد في قلبه رغبة أن يتوقّف تكامله أو يزداد وضعه سوءًا يومًا بعد يوم.

فإذا ما علم الإنسان بأنّ هنالك إمكانيةً لبلوغ مرتبة من الكمال، فإنّه يتمنّى بلوغها، وهذه الرغبة والاندفاع الفطريّ نحو الكمال موهبة أودعها الله سبحانه وتعالى في كيان الإنسان، وواحدة من النعم الإلهيّة الكبرى، ولولا وجود هذه النزعة في كيان الإنسان، لانطوينا جانبًا، تسيطر علينا حالة من الخمود والخمول، دون أن نبدي أيّ حركة، فهذه النزعة نحو الكمال هي محرّكنا لمزيد من السعي والعمل، وإنّ غاية الباري تعالى من خلق الإنسان هي أن يسلك طريق التكامل بإرادته، لذلك فقد أودع في فطرته مِثل هذه النزعة.

إنّ بعض مصاديق الكمال جليّة وواضحة تمامًا، ولا شكّ لدى أيّ إنسان بكونها كمالًا، والعلم من بين هذه الموارد، فالجميع يعلم، ولا شكّ لأحد، بأنّ العلم حَسَنٌ وكمال، والجهل سيِّئٌ ونقص. من هنا، فإنّ الناس جميعًا جُبلوا على حبّ العلم وطلبه، ويسعون لأن يزدادوا علمًا يومًا بعد يوم، وتتّضح الحقائق أمامهم أكثر، وليس ثمّة إنسان يطلب الجهل، بل بالعكس، فهو يهرب ويتبرّأ منه ما استطاع.

والقوّة كالعلم أيضًا، فمن الواضح لكلّ إنسان أنّ القوّة كمال وأنّ الضَّعف والعجز يُعدّان نقصًا. ليس من أحد يرغب في أن يكون عاجزًا ضعيفًا، لا قدرة له على فعل شيء، فالناس جميعًا ينشدون القوّة والقدرة، والعلم والقدرة من صفات الله الكماليّة.

من الأمور الأخرى التي ينشدها الإنسان بفطرته هي "السعادة"، فالناس جميعًا مجبولون على حبّ السعادة، وليس من أحد يحبّ التعاسة والشقاء، وليس هنالك من يرغب بأن يُبتلى بالألم والعذاب والشدّة، وما يسعى من أجله الإنسان هي الدعة واللذّة والطمأنينة والسكينة والراحة، وبكلمة واحدة "السعادة". بناءً على هذا، فقد جعل الله سبحانه وتعالى في الإنسان أصل النزعة نحو الكمال من ناحية، وأودع لديه النزعة نحو مصاديق الكمال من ناحية أخرى.

ولا بدّ من الالتفات إلى أنّ الإنسان قد يخطئ أحيانًا في مقام العمل عند تشخيص مصداق الكمال.

ولغرض التحصّن من مثل هذه الأخطاء، وهب الله الإنسان العقل. والعقل مرشدٌ في هذا المجال إلى حدٍّ بعيد، لكنّه لا يجدي نفعًا دون مددٍ من الوحي. من هنا فقد بعث الله الأنبياء ليبيّنوا للناس طريق الحياة الصحيحة، وإنّهم يستخدمون وسيلتَي "التبشير" و"الإنذار" لغرض إثارة الحوافز لدى الناس من أجل سلوك الطريق، والابتعاد عن المطبّات، ﴿فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ3.

الكمال الحقيقيّ في القرب من الله
وإذا كان الكمال فطريًّا وينشده كلّ إنسان، كما مرّ معنا، فما هو ذاك الكمال الذي ينبغي أن ينشده إذًا؟ ومتى يُمكن القول إنّ وجود الإنسان أصبح متكاملًا حقًّا؟

ما يُستفاد من تعاليم الأنبياء هو أنّ تكامل الإنسان يكون في القرب من الله، وهذا مفهوم علّمه جميع الأنبياء أتباعَهم، ويمكن اعتباره أمرًا فطريًّا، حتّى أنّ المشركين وعبّاد الأصنام كانوا ينشدون القرب من الله أيضًا، ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى4, وهذا الكلام دليل على شموليّة هذا المفهوم للمؤمن والمشرك، فعابد الوثن يطلب القرب أيضًا، لكنّه اختار مسارًا خاطئًا.

لقد اعتدنا استخدام مفهوم (القُرْب) من الأمور المادّيّة، ومرادنا من ذلك القربُ المكانيّ أو القرب الزمانيّ، ولكن هل إنّ هذا المعنى من القرب متصوَّرٌ وممكنٌ بشأن الله أيضًا؟ وعندما نقول إنّنا نقترب من الله، فهل المراد تقلُّص بُعدنا المكانيّ أو الزمانيّ عن الله؟

مِن المسلَّم به أنْ لا معنى للقرب والبعد المكانيّ والزمانيّ فيما يخصّ الله سبحانه، فلا علاقة لله تعالى بالزمان والمكان كي يزداد قربًا أو بعدًا من زمان أو مكان ما. وبعض الناس يتصوّر أنّ الله في السماء، وكلّما ازددنا ارتفاعًا في السماء ازددنا قربًا من الله! وهذا التصوّر ناجم عن ضعف معرفتهم بالله سبحانه وتعالى، وهؤلاء يشيرون أحيانًا إلى معراج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتأييد كلامهم، حيث ارتقى الله سبحانه به صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماوات، ثمّ عرج من هناك، حيث يقول تعالى: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى5، فيقولون: إنّ القرآن صوَّر البُعد بعدًا مكانيًّا، وصرّح بأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد اقترب من الله بحيث كانت المسافة بينهما أقلّ من قوسين!

في ضوء الأدلّة القطعيّة المتوفّرة لدينا فيما يخصّ عدم جسميّة الله وعدم محدوديّته بزمان أو مكان، فإنّ هذا الكلام يعتبر باطلًا، ومن المتيقَّن أنّ المراد من القرب في هذه الآية ليس قربًا مكانيًّا، وهذا التعبير من قبيل "تشبيه المعقول بالمحسوس" حيث تكثر نظائره في القرآن.

طريق القرب من الله
إنّ التمعّن في الروايات والآثار التي يرد فيها الحديث عن القرب من الله، يعيننا على إدراك المعنى الحقيقيّ لهذا القرب والطريق المؤدّية إليه.

ثَمّة رواية مشهورة في أصول الكافي، ولها أسانيد عديدة، وتحدّث عنها الشيخ البهائيّ أيضًا في كتابه "الأربعين"، تتضمّن هذه الرواية معارف سامية، وقد اهتمّ الأعلام من علماء الأخلاق بها كثيرًا. ونصُّ هذه الرواية طبقًا لنقل الشيخ الكلينيّ في أصول الكافي، عن الإمام الصادق عليه السلام عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، كما يلي: "قال الله عزّ وجلّ: مَن أهان لي وليًّا فقد أرصد لمحاربتي، وما تقرّب إليَّ عبدٌ بشيء أحبَّ إليَّ ممّا افترضتُ عليه، وإنّه ليتقرب إليَّ بالنافلة حتّى أحبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يُبصِر به، ولسانَه الذي ينطِق به، ويَدَه التي يبطِش بها، إنْ دعاني أجبتُه، وإن سألني أعطيتُه..."6.

إنّ العبارات الواردة في هذا الحديث كناية عن شدّة قرب الله سبحانه وتعالى من العبد، هذا العبد الذي وصل إلى مرتبة الطاعة من خلال أداء الفرائض والواجبات الإلهيّة بإخلاص، فإنّه سيكون مؤهَّلا للفوز بمقام القرب من الله. والله تعالى حدّد لنا هذا الأمر في كتابه الكريم، فلم يكن أمره وطلبه سوى الطاعة والعبوديّة لله بقيد الإخلاص، حيث قال: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء7، وقال: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ8.

ومثل هذا الإنسان سوف يكون موضع عناية خاصّة من الله في كلّ آن، وسوف يكون الله إلى جانبه في كلّ مكان، وعلى كلّ حال، يهديه ويؤيّده ويفتح له باب القرب منه، فإنّ عنايات الله الخاصّة محدودة بالنسبة للعاديِّين من الناس، غير أنّ مثل هذا العبد يشمله لطف الله وعنايته، وهو عزّ وجلّ القائل ﴿وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ9.

إذًا، خُلق الإنسان ليصل إلى السعادة والكمال، والطريق الوحيدة التي تضمن للإنسان الوصول إلى هذا الهدف السامي هي الطاعة، والعبوديّة لله، وأداء ما افترضه على عباده، وهو الذي يُصطَلح عليه في الدين الحنيف بـ "التقوى"، ﴿وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ10.

ونختم الكلام بما وصّى به أمير المؤمنين عليٌّ عليه السلام مالكَ الأشتر، حيث في وصيّته أبلغُ الكلام وأقلُّه، فقد وصّاه عندما ولّاه على مصر، فقال: "هذا ما أَمَر به عبدُ الله عليٌّ أميرُ المؤمنين مالكَ بن الحارث الأشتر في عهده إليه... فقد أمره بتقوى الله وإيثار طاعته، واتّباع ما أمر به في كتابه، من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد إلّا باتّباعها، ولا يشقى إلّا مع جحودها وإضاعتها..."11. التقوى والطاعة لله هي الطريق الوحيدة المؤدّية إلى كمال الإنسان وقربه من الله تعالى، وهذه الطاعة تتجلّى وتظهر من خلال اتّباع شريعته بكلّ تفاصيلها في حياة الإنسان.

* التربية الإيمانية، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.

1- سورة الروم، الآية 30.
2- سورة الأنعام، الآية 79.
3- سورة البقرة، الآية 213.
4- سورة الزمر، الآية 3.
5- سورة النجم، الآيتان 8 – 9.
6- الكليني، الشيخ محمّد يعقوب، الكافي، تحقيق: عليّ أكبر الغفّاريّ، طهران-إيران، دار الكتب الإسلاميّة، ط4، ج2، ص352، باب الظلم، ح2.
7- سورة البيّنة، الآية 5.
8- سورة الإسراء، الآية 23.
9- سورة النور، الآية 54.
10- سورة محمّد، الآية 36.
11- السيد الرضي، نهج البلاغة خطب الإمام عليّ عليه السلام-، تحقيق صبحي الصالح، لا.م، لا.ن، 1387-1967م، ط1، ص54.

قراءة 4007 مرة