كيف تكون خليفة الله؟

قيم هذا المقال
(0 صوت)
كيف تكون خليفة الله؟

قال الله - عزّ وجلّ - في كتابه الكريم:
في الآية المباركة ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ1.

وفي الشريفة المباركة ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ2.3

نطرح من خلال الآيتين الشريفتين التساؤلَ الآتي: هل تقتصر العبادة على الشعائر العادية كما يظن به غالب الناس؟ أو هل العبادةُ في الإسلامِ شاملة للعبادات والمعاملات، دون الأخلاق والسلوكيات والمعاملات المجتمعية؟

وللإجابة على هذا السؤال، ومن خلال التأمّل في الكريمتين المباركتين، نطلّ للحديث عن العبادة وشمولها لكلّ مفاصل الحياة، وضرورة انعكاسها على الحياة بشكل كامل، لا أن يَقصر عندها مفهوم العبادة على الشعائر التعبُّدية4 والشكلية أو الظاهرية، من صلاة، وصيام، وزكاة، وحَجّ، وعُمرة، وغير ذلك من الأفعال التعبّدية الصالحة.

إن الناظرَ في القرآن والسنّة الشريفة، يرى أنّ العبادةَ تختلف تمامًا في معناها ومفهومها عن ذلك المفهوم الذي نَعنيه عند ذكر كلمة -العبادة-، ذلك أنّ العبادة قد ذُكرت بشمولية مُطلقة في الأخبار وشاملة لكلِّ جزئية من جزئيات حياة الإنسان، ولكن يشترط فيها الإيمانُ بالله - عزّ وجلّ -، وإخلاص النية له - سبحانه وتعالى -، وأن يكون العملُ مما يرضى عنه الله - عزّ وجلّ -.

ما هو الدليل على ذلك؟
ويظهر، من خلال التدبِّر في الكريمتين المباركتين، أن العبادة المقصودة:
في الآية الأولى5:
هي الدعوة الشاملة والصريحة لأن تكون محور حركة الخلق في عالم الوجود، لا حصرها في شعائر تعبّدية محدودة ببضع ساعة في اليوم كالصلاة، أو في شهر كالصوم، أو الحج في أيام معدودات. وعليه، أين ننفق بقية العمر والحياة إن تمّ الاقتصار عليها فقط دون شموليتها لنواحي الحياة المتنوّعة؟

ومن المفروض، كما في الشريفة المباركة، أن العبادة هي غاية الوجود الإنساني، كما هي غاية كل وجود، فإن مفهومها لا يقتصر على المعنى الخاص الذي يردُ إلى الذهن، الذي يضيّق نطاقها، حتى يجعلها محصورة بأنواع الشعائر الخاصة التي يؤديها المؤمن، بل لا بدّ من أن يكون شاملًا لكل مناحي الحياة.

وفي الآية الثانية6:
يشير إلى أن العبادة في الإسلام شاملةٌ لكل جزئية من جزئيات حياتنا، والضابط في ذلك: أن تكون مما يرضى اللهُ -عزّ وجلّ- عنه، وأن يُخلص في فعْلها. وشرط الشمولية إخلاص النيات في الأعمال، ومعه يصبح العمل عبادة، سواء أكانت أصلية أم فرعية، التي هي في الأصل من المباحات التي يفعلها الإنسانُ في يومه وليلته، لكنها قد تُحوَّل إلى عبادة عند وجود الضوابط السابقة الذِّكر.

فإن إخلاص النيات قد يُحوِّل العادة إلى عبادة، وقد يُحول عدمُ إخلاص النيات العبادةَ إلى عادة، فلا يُؤجر عليها الإنسانُ، ولذلك كانت النية الصالحة هي الفيصل في هذا الأمر.

وفي سؤال أحدهم للإمام الصادق عليه السلام: ما العبادة؟ أجاب عليه السلام: "حسن النية بالطاعة من الوجه الذي يطاع الله منه"7، فحقيقة العبادة نصب العبد نفسه في مقام الذلة والعبودية، وتوجيه وجهه إلى مقام ربه بنية خالصة، ورغبة في نيل رضاه تعالى.

وفي الرواية عن أبي عبد الله عليه السلام: "إن العبد لينوي من نهاره أن يصلي بالليل، فتغلبه عينه فينام، فيُثبت الله له صلاته، ويكتب نفَسه تسبيحًا، ويجعل نومه عليه صدقة"8.

ما هي النتيجة التي نصل إليها؟
ليس المقصود من الآيتين أن يظلَّ الإنسان قابعًا في المسجدِ يصلي ويصوم ويقرأ القرآن، لكي يحقِّق المقصد من خَلقِه كما في الآية الأولى، ولتكون حياته كلُّها لله - عزّ وجلّ - كما في الآية الثانية، بل إن المقصود أن هناك عباداتٍ أساس، وهي الأشياء التي أمرنا الإسلام بفعْلها، والأشياء التي نهانا عنها، وهناك دائرة أوسع وأشمل لكل مناحي الحياة، يمكن تحويلها إلى عبادة بالعمل المخلص وقصد القربة إلى الله تعالى.

ما هي سلبيات حصر العبادة بالشعائر التعبدية؟
أداء الشعيرة بصورة تقليدية:
وينتج عن ذلك فقدان العبادة لدورها في تقويم الإنسان حين تعزلها عن بقية جوانب العبادة، مثلًا الصلاة التي أخبر الله عنها بقوله: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ9.

وفي الرواية عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، لم يزدد من الله تعالى إلا بعدًا"10.

فبتَّ ترى الكثير من العبادات بلا أثر واقعي في حياة المؤدّي لها، إلا ما رحم ربي، فربما تجد مصلٍّ يحافظ على وقت الأداء، ولكن يخلف الوعد، ويختلس من وقت عمله، ولا يحافظ على النظافة، ويؤذي الآخرين، ويعتدي عليهم. وقد أشارت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن "الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً11، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ12 الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ"13.

وهذا الأمر ما ينتج عنه تهاون الناس في بقية العبادات الأخرى..

حصر العمل الصالح في الأخلاق الفردية:

وانحساره عن العلاقات الاجتماعية والإيمانية والحياتية، وما ينتج عن ذلك من مشكلات في قصر الفرد على حاجاته الخاصة، دون الالتفات إلى مراعاة احتياجات الآخرين والإحسان إليهم، وهو خلاف قول النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: "تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ14 كَمَثَلِ الْجَسَدِ15 إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا16 تَدَاعَى17 لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى"18.

عدم انعكاس العبادة على جوهر الإنسان:
ومما تقدم يمكن إلفات النظر إلى أنه لا بدّ في واقعنا الحالي من ضرورة إحياء المفاهيم، ومنها عبادة كفّ الأذى. ومن عدم العبادة الأذى لخلق الله - عزّ وجلّ -، أو قلْ الإحسان في العبادات أو عدمه، وفي المقابل الإحسان في المعاملات وعدمه، وأيضا إلى انعكاس العبادة على الفرد وباطنه، فالعبادة المطلوبة هي العبادة التي تؤدّي إلى تغيير جوهري في ذات الإنسان، لا التغيير الشكلي، مع مطلوبيته. ففرق بين الصلاة الشكلية والصلاة المغيرّة، وعليها قس بقية العبادات، ففي الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ19؟" قَالُوا: لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ، قَالَ: "فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا20"21.

وفي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده، فإن ذلك شيء اعتاده، فلو تركه استوحش لذلك، ولكن انظروا إلى صدق حديثه وأداء أمانته"22.

خطر الاغترار بالعبادة الشكلية - الخوارج نموذجًا -:
التأمل في قضية الخوارج23 الذين كانوا من المتعبدين المتنسّكين، بل يمضون الليل في العبادة، عندما أرسل الإمام عليّ عليه السلام ابن عباس24 يوم النهروان ليبذل لهم النصح، عاد ابن عباس ووصفهم بقوله: "وَأَتَيْتُ قَوْمًا لَمْ أَرَ قَوْمًا قَطُّ أَشَدَّ اجْتِهَادًا مِنْهُمْ، مُسَهَّمَةٌ25 وُجُوهُهُمْ مِنَ السَّهَرِ، كَأَنَّ أَيْدِيَهُمْ وَرُكَبَهُمْ ثَفِنٌ26، عَلَيْهِمْ قُمُصٌ مُرَحَّضَةٌ27"28.

كان الخوارج متمسكين بأحكام الإسلام وظواهره أشدّ التمسك، يبتعدون عن كلّ ما كانوا يرونه إثمًا، كانت لهم معاييرهم الخاصة التي كانت تمنعهم من اقتراف أي مخالفة، وكانوا ينفرون ممّن يرتكب خطيئة. قتل زياد ابن أبيه أحد الخوارج، ثمّ استجوب خادمه عنه، فقال: "ما قدمت له طعامًا في النهار، ولا فرشت له فراشًا في الليل، فقد كان صائمًا نهاره وقائمًا بالعبادة ليله29".

فلا جباههم المتقرحة من أثر السجود، ولا ملابسهم الرثّة وزهدُهم، ولا ألسنتهم الدائمة الذكر لله، فوقفوا في وجه إمام زمانهم، وأيضًا لم تستطع أن تغيّم على بصيرة أمير المؤمنين عليه السلام في قتالهم كلُّ ظواهرهم، وهو يدرك كلّ الإدراك أهمية عمله ذاك وعظمتَه. وفي ذلك يقول: "فَأَنا فَقَأْتُ عَيْنَ الْفِتْنَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِئَ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَيْرِي، بَعْدَ أَنْ مَاجَ غَيْهَبُهَا30 وَاشْتَدَّ كَلَبُهَا31"32.

لأنهم لو تركوا ووطدوا أقدامهم، فإنّهم سيصيبون الآخرين بدائهم، ويجرون عالم الإسلام إلى التمسك بالظواهر والقشور وبالجمود الفكري والتحجر العقلي، حتّى يقصموا ظهر الإسلام، وهم من مصاديق قول أمير المؤمنين عليه السلام: "قَصَمَ ظَهري عالِمٌ مُتَهَتِّكٌ، وجاهِلٌ مُتَنَسِّكٌ، فالجاهِلُ يَغُشُّ النّاسَ بِتَنَسُّكِهِ، والعالِمُ يُنَفِّرُهُم بِتَهَتُّكِهِ33"34. وما أدقّ الوصف الّذي وصفهم به الإمام عليّ عليه السلام إذ يقول: "ثُمَّ أَنْتُمْ شِرَارُ النَّاسِ، وَمَنْ رَمَى بِهِ الشَّيْطَانُ مَرَامِيَهُ، وَضَرَبَ بِهِ تِيهَه"35.

كيف أنظر إلى عبادتي؟

بأن يكون مفهوم العبادة شاملًا ومعناها واسعًا، ولا يقتصر على بعض الطاعات والأفعال والفرائض، فكلّ ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة إذا صحّت النية وأحبها الله وارتضاها فهي عبادة. فحركاتك وسكناتك وتعاملاتك إذا أحسنت النية فيها فهي عبادة، وكذلك أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر، بل تبسّمك في وجه أخيك، وإماطة الأذى عن الطريق، والحياء، وصلة الأرحام وبر الوالدين، وحسن العشرة والأخوّة في الله، والصدق في الحديث، والتسامح مع الآخرين والصفح عنهم، وحسن الخلق، وتجنب مواطن الشبهة والريبة، إلى غير ذلك من التعاملات والسلوكيات والعلاقات الاجتماعية.

وما أعظم الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَأَمْرُكَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيُكَ عَنْ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَإِرْشَادُكَ الرَّجُلَ فِي أَرْضِ الضَّلَالِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَبَصَرُكَ لِلرَّجُلِ الرَّدِيءِ الْبَصَرِ لَكَ36 صَدَقَةٌ، وَإِمَاطَتُكَ الْحَجَرَ وَالشَّوْكَةَ وَالْعَظْمَ عَنْ الطَّرِيقِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ"37. وفي الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: "تبسُّمُ الرجل في وجه أخيه حسنة، وصرف القذى عنه حسنة، وما عُبد الله بشيء أحبّ إلى الله من إدخال السرور على المؤمن"38.

إذن حقيقة العبادة تتمثل في أمرين رئيسَين:
استقرار معنى العبودية لله في النفس:

أي استقرار الشعور على أن هناك عبداً ورباً: عبدًا يَعبد، وربًا يُعبد، وأن ليس وراء ذلك شيء، وأن ليس هناك إلا هذا الوضع، وهذا الاعتبار. ليس في هذا الوجود إلا عابد ومعبود، إلا رب واحد، والكل له عبيد.

التوجه إلى الله بكل حركة في الضمير:
وكل حركة في الجوارح، وكل حركة في الحياة. التوجه بها إلى الله خالصةً، والتجرد من كل شعور آخر، ومن كل معنى غير معنى التعبّد لله.. قال الله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ39.

فالعبادة ما تكاد تستقرّ حقيقتها في قلب المسلم، حتى تعلن عن نفسها في صورة عمل ونشاط وحركة وبناء، عبادة تستغرق نشاط المسلم، بخواطر نفسه، وخلجات قلبه، وأشواق روحه، وميول فطرته، وحركات جسمه، ولفتات جوارحه، وسلوكه مع الناس. قال الله تعالى: ﴿وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ40.

وبهذا الاستغراق وهذا الشمول يتحقق معنى الخلافة في الأرض في قوله تعالى ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً41، فالخلافة في الأرض هي عمل هذا الكائن الإنساني، وهي تقتضي ألواناً من النشاط الحيوي في عمارة الأرض، والتعرف إلى قواها وطاقاتها وذخائرها ومكنوناتها، وتحقيق إرادة الله في استخدامها وتنميقها، وترقية الحياة فيها.

وقفة تأملية

قصة التصدّق

عن الإمام الباقر عليه السلام: إنّ رهطاً من اليهود أسلموا، منهم: عبد الله بن سلام، وأسد، وثعلبة، وابن يامين، وابن صوريا، فأتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: يا نبيَّ الله، إنّ موسى أوصى إلى يوشع بن نون، فمَن وصيُّك يا رسول الله؟ ومن وليّنا بعدك؟

فنزلت هذه الآية ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ42.

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قوموا، فقاموا، فأتوا المسجد، فإذا سَائلٌ خارج، فقال: يا سائل، أما أعطاكَ أحد شيئًا؟ قال: نعم، هذا الخاتمَ.

قال صلى الله عليه وآله وسلم: مَنْ أعطَاك؟ قال: أعطانيه ذلك الرجل الذي يصلِّي، قال: عَلى أيِّ حَالٍ أعطاك؟ قال: كان راكعًا، فكبَّر النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم، وكبَّر أهل المسجد.

فقال صلى الله عليه وآله وسلم: عليٌّ وليُّكم بعدي، قالوا: رضينا بالله ربًّا، وبِمحمَّدٍ نبيًا، وبعليٍّ بن أبي طالب وليًا، فأنزل الله عزّ وجلّ: ﴿وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ43"44.

وفي ذلك قال حسان بن ثابت:45

أبَا حَسَنٍ تفديكَ نفسي ومُهجَتي
                                أيَذْهبُ مَدحي في المُحِبِّين ضَائعاً
فأنتَ الذي أعطيتَ إذْ كُنتَ رَاكِعاً
                                بِخَاتَمِكَ الميمون يَا خَيْرَ سَيّدٍ
فأنزلَ فيك الله خَير وِلايَةٍ وكُلّ بطيءٍ في الهُدَى ومُسارِعِ
ومَا المَدحُ في ذاتِ الإلَهِ بِضائِعِ
                                فَدَتْكَ نفوسُ القَومِ يَا خَيرَ رَاكِعِ
ويَا خير شارٍ ثُمَّ يَا خَير بَائِعِ
                                وبيَّنَها في مُحكَمَات الشَّرائِعِ
 

* تذكرة لمن يخشى، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.

1- سورة الذاريات، الآية 56.
2- سورة الأنعام، الآية 162.
3- ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي﴾ وهي العبادة المفروضة، ﴿وَنُسُكِي﴾، أي ذبيحتي للحج والعمرة، وقيل نسكي ديني، وقيل عبادتي، وإنّما ضمّ الصلاة إلى أصل الواجبات من التوحيد والعدل لأن فيها التعظيم لله عند التكبير، وفيها تلاوة القرآن الذي يدعو إلى كل بر، وفيها الركوع والسجود، وفيها الخضوع لله تعالى والتسبيح الذي هو التنزيه له. ﴿وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي﴾، أي حياتي وموتي، ﴿للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾. وإنّما جمع بين الصلاة والنسك والحياة والممات أحدهما من فعل العبد والآخر من فعل الله، لأنهما جميعًا بتدبير الله. وقيل معناه صلاتي ونسكي له عبادة، وحياتي ومماتي له ملك وقدرة، وقيل إن عبادتي له لأنها بهدايته ولطفه، ومحياي ومماتي له لأنه بتدبيره وخلقه.
4- للتعبدي استعمالٌ في ثلاثة معان:
التعبدي بمعنى أن أفعل الشيء تعبُّدً، أي آخذ به كما هو ولو من دون معرفة الحكمة منه أو العلّة، من باب التسليم قضاءً لحق العبودية والمولوية. وهذا يشمل كل الأحكام غير المعلّلة نصًا أو مفهومًا أو عقلًا. مثلًا: صلاة الصبح ركعتان، وعدّة الطلاق ثلاثة قروء، وهكذا أكثر الأحكام، آخذ بها تعبُّدًا، ويخرج حينئذ ما يحكم به العقل أو العقلاء. وهذا المعنى ليس هو المقصود في مسألتنا.
التعبدي بمعنى أنه صدر من المكلّف قربة إلى معبوده، فيكون مثابًا عليه، فيكون الثواب يدور وجودًا وعدمًا مدار قصد القربة. وهذا ما نسميه بالتعبدي بالمعنى الأعم. وهذا المعنى أيضًا ليس هو محل الكلام.
التعبدي بمعنى ما يعتبر في تحققه قصد القربة، أي أنّ تحقق المأمور به يدور وجودًا وعدمًا مدار قصد القربة. ومثاله: الصوم والصلاة وكل ما يسمّى في أبواب الفقه بالعبادات. وهذا المعنى من التعبدي هو محل الكلام في مسألتنا.
5- العبادة طاعةٌ لله، وانقياد تامّ في كلّ ما أمر، وانتهاءٌ عن كلّ ما نهى في المنشط والمكْرَه، والغِنَى والفقْر، والشدّة والرّخاء، وفي إقبال الدنيا وإدبارها، وفي الصحّة والمرض، في الشباب والكهولة وفي الشيخوخة، هذه هي العبادة. فالعلم ليس هدفًا في ذاته، العلم وسيلة إلى هدفٍ كبير، وهي أن تطبّقه، وأن ينقلبَ إلى سُلوك ومواقف، إلى أعمال، قال تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ (سورة الأحقاف، الآية 19).
6- هذه آية الإخلاص، لا يوجد جهة في الكون غير الله - عزّ وجلّ - مؤهلةٌ أن تفني من أجلها عمرك، أن تفني من أجلها شبابك، أنت مخلوق لله - عزّ وجلّ -. الماء للتراب، والتراب للنبات، والنبات للحيوان، والحيوان للإنسان، وأنت لله - عزّ وجلّ -.
7- المجلسي، العلامة محمد باقر بن محمد تقي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، بيروت - لبنان، مؤسسة الوفاء، 1403ه - 1983م، ط2، ج67، ص208.
8- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج67، ص 206.
9- سورة العنكبوت، الآية 45.
10- المجلسي، العلامة محمد باقر بن محمد تقي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، ج79، ص198.
11- خصال الإيمان لا تخرج عن هذا العدد، وهي متفاوتة، فتدخل فيها أعمال القلوب، وأعمال الجوارح، وأعمال اللسان، وعنها تتفرَّع شُعب أخرى من أعمال البَدَن، كالنفْع المتعدي من الصَّدَقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله سبحانه.
12- الإزالة.
13- علي، الطبرسي، مشكاة الأنوار ص86.
14- الَّذِي يَظْهَر أَنَّ التَّرَاحُم وَالتَّوَادُد وَالتَّعَاطُف، وَإِنْ كَانَتْ مُتَقَارِبَة فِي الْمَعْنَى، لَكِنْ بَيْنَهَا فَرْق لَطِيف، فَأَمَّا التَّرَاحُم فَالْمُرَاد بِهِ أَنْ يَرْحَم بَعْضهمْ بَعْضًا بِأُخُوَّةِ الْإِيمَان لَا بِسَبَبِ شَيْء آخَر، وَأَمَّا التَّوَادُد فَالْمُرَاد بِهِ التَّوَاصُل الْجَالِب الْمَحَبَّة كَالتَّزَاوُرِ وَالتَّهَادِي، وَأَمَّا التَّعَاطُف فَالْمُرَاد بِهِ إِعَانَة بَعْضهمْ بَعْضًا كَمَا يَعْطِف الثَّوْب عَلَيْهِ لِيُقَوِّيَهُ.
15- أَيْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَمِيع أَعْضَائِهِ، وَوَجْه التَّشْبِيه فِيهِ التَّوَافُق فِي التَّعَب وَالرَّاحَة.
16- أَيْ دَعَا بَعْضه بَعْضًا إِلَى الْمُشَارَكَة فِي الْأَلَم. وَمِنْهُ قَوْلهمْ تَدَاعَتْ الْحِيطَان، أَيْ تَسَاقَطَتْ أَوْ كَادَتْ.
17- أمَّا السَّهَر فَلِأَنَّ الْأَلَم يَمْنَع النَّوْم، وَأَمَّا الْحُمَّى فَلِأَنَّ فَقْدَ النَّوْم يُثِيرهَا. وَقَدْ عَرَّفَ أَهْل الْحِذْق الْحُمَّى بِأَنَّهَا حَرَارَة غَرِيزِيَّة تَشْتَعِل فِي الْقَلْب، فَتَشِبّ مِنْهُ فِي جَمِيع الْبَدَن، فَتَشْتَعِل اِشْتِعَالًا يَضُرّ بِالْأَفْعَالِ الطَّبِيعِيَّة.
18- البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1401ه - 1981م، لا.ط، ج7، ص77.
19- أَرَأَيْتُمْ: هُوَ اسْتِفْهَام تَقْرِير مُتَعَلِّق بِالِاسْتِخْبَارِ، أي: أَخْبِرُونِي هَلْ يَبْقَى؟
نَهْرًا: وَالنَّهْرُ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَسُكُونِهَا مَا بَيْنَ جَنْبَي الْوَادِي، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِسِعَتِهِ.
مِنْ دَرَنِهِ: الدَّرَن الْوَسَخ، وَقَدْ يُطْلَقُ الدَّرَن عَلَى الْحَبِّ الصِّغَار الَتِي تَحْصُلُ فِي بَعْضِ الْأَجْسَادِ.
20- وَجْه التَّمْثِيل أَنَّ الْمَرْءَ كَمَا يَتَدَنَّسُ بِالْأَقْذَارِ الْمَحْسُوسَةِ فِي بَدَنِهِ وَثِيَابِهِ وَيُطَهِّرُهُ الْمَاءُ الْكَثِير، فَكَذَلِكَ الصَّلَوَات تُطَهِّرُ الْعَبْد عَنْ أَقْذَار الذُّنُوب حَتَّى لَا تُبْقِي لَهُ ذَنْبًا إِلَّا أَسْقَطَتْهُ.
21- مسلم النيسابوري، الجامع الصحيح صحيح مسلم)، ج2، ص131.
22- الكليني، الشيخ محمد بن يعقوب بن إسحاق، الكافي، تحقيق وتصحيح علي أكبر الغفاري، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1363ش، ط5، ج2، ص105.
23- فرقة ظهرت في النصف الأول من القرن الأول الهجري، وفي مناسبة حرب صفين بالذات، التي دارت بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الخليفة الشرعي من جهة، وبين معاوية بن أبي سفيان، الذي كان يحاول الاستئثار بهذا الأمر لنفسه من جهة أخرى، حيث رأى معاوية أن علياً سيربح الحرب لو استمرت، فأمر - بمشورة من عمرو بن العاص - برفع المصاحف، الأمر الذي انجرّ إلى التحكيم. وكان أولئك المعترضون على قبول علي للتحكيم هم أنفسهم الذين كانوا قد أجبروه عليه من قبل، كما اعترفوا به هم أنفسهم، وكما صرحت به النصوص التاريخية الكثيرة جداً، وهذا ما يكذّب ما يدعيه بعضٌ من أن الخوارج كانوا هم المعارضين للتحكيم من أول الأمر، وقد حكموا على علي عليه السلام بالكفر لأجل قبوله التحكيم، كما كفّروا عثمان بسبب بعض المخالفات التي صدرت عنه في السنين الأخيرة من خلافته، هذا فضلاً عن تكفيرهم طلحة والزبير وعائشة وغيرهم.
24- من أصحاب الإمامين علي بن أبي طالب عليه السلام والحسن بن علي عليه السلام. دَعى له النبي في مولده بالفقه والعلم، وكانت له المكانة الأولى في حقل التفسير. من جملة أقواله: "ما أخذت من تفسير القرآن فمن علي بن أبي طالب". وإلى جانب العلم، ولي ابن عباس مهام الإفتاء والحرب في عهد الخلفاء الأربعة، وخاض المعارك كلها إلى جنب عليّ. تشهد سيرة ابن عباس بالحِرص على الولاء لعليّ والحسنين عليهم السلام.
25- متغيرة من كثرة السهر.
26- إن أيديهم من كثرة السجود صارت غليظة، وظهرت بها الآثار إلى خارجها من شدة بروكهم.
27- أي مغسولة، وصف للملابس القديمة التي بليت من كثرة استعمالها وغسلها.
28- البيهقي، أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي، السنن الكبرى، بيروت - لبنان، دار الفكر، لا.ت، لا.ط، ج8، ص179.
29- ابن المبرد الحنبلي، جمال الدين يوسف بن حسن بن أحمد بن حسن بن عبد الهادي الصالحي، الكامل، لا.م، لا.ن، لا.ت، لا.ط، ج 2، ص116.
30- هو غيهب الفتنة)، أي ظلامها، وشمولها وإثارتها للشك. فقد كان ظاهر الخوارج على درجة من القدسية والتقوى بحيث إنّه كان يثير شك مؤمن نافذ الإيمان في صحة ما يقوم به عليّ عليه السلام، فكان هذا يخلق جواً من الغموض والظلام والشبهة والتردد.
31- هكذا يصفهم الإمام عليّ عليه السلام. إنّهم كانوا كالكلاب المسعورة الّتي لا ينفع فيها دواء. فكانوا لا يفتأون يعضّون وينشرون البلاد، فيزداد عدد المسعورين.
32- الرضي، السيد أبو الحسن محمد الرضي بن الحسن الموسوي، نهج البلاغة خطب الإمام علي عليه السلام)، تحقيق وتصحيح صبحي الصالح، بيروت - لبنان، لا.ن، 1387ه - 1967م، ط1، ص 137، الخطبة 92.
33- (قصم ظهري) قصم الشيء أي كسره، وقصم ظهره أي أنزل به بلية، وضررًا كبيرًا. عالم متهتك)، والمتهتك هو المتجاهر بالمعصية، فهو مضافًا إلى أنه يفعل المعاصي ولا يراقب الله تعالى في ذلك، فإنه يتجاهر بها أمام الملأ، وهذه معصية أخرى، لأن ذلك يفضي إلى نشر الفساد وإشاعة المعاصي. وقوله: وجاهل متنسك)، وتنسكه إما بعبادته، ولكنه يتعبد بجهل وعدم معرفة، وهو بسبب حسن مظهره، وكثرة عبادته، يضلل الناس بجهله وقلة معرفته، أو أن المراد بتنسكه أنه لبس لباس العلماء والناسكين، فظن الناس أنه عالم، وليس بعالم، أو ناسك، وليس بناسك، فانخدعوا به. سهّل هذا الوضع عليه تضليلهم.
34- راجع: العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج2، ص111، ح25، وفيه: قسم ظهري.
35- السيد الرضي، نهج البلاغة خطب الإمام علي عليه السلام)، ص 184، الخطبة 127.
36- أي إعانته.
37- الترمذي، أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة، الجامع الصحيح سنن الترمذي)، تحقيق وتصحيح عبد الوهاب عبد اللطيف، بيروت - لبنان، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1403ه - 1983م، ط2، ج3، ص228.
38- الشيخ الكليني، الكافي، ج2 ص 188.
39- سورة الفاتحة، الآية 5.
40- سورة الفاتحة، الآية 5.
41- سورة البقرة، الآية 30.
42- سورة المائدة، الآية 55.
43- سورة المائدة، الآية 56.
44- الصدوق، الشيخ محمد بن علي بن بابويه، الأمالي، تحقيق قسم الدراسات الإسلامية - مؤسسة البعثة، قم، مركز الطباعة والنشر في مؤسسة البعثة، 1417ه، ط1، ص 185-186.
45- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج35، ص197.

قراءة 2032 مرة