"من التحق بي منكم استُشهد..".
إنّها مقدمة الرسالة التي جعل فيها الإمام الحسين عليه السلام الاستشهاد في مقام البشرى.
"قد أهدى الله إليك كرامة،.. هذا الحسين بن علي يدعوك إلى نصرته، فإن قاتلت بين يديه أُجرت، وإن متَّ فقد استشهدت".
إنّه قول الحجّاج بن مسروق الجحفي لعبيد الله بن الحر، يُخبره عن كرامة أهداها الله إليه وهي: إمّا أجر القتال وإمّا الاستشهاد.
"...مصارع عشاق شهداء لم يسبقهم من كان قبلهم، ولا يلحقهم مَنْ بَعدهم".
إنه استشراف الإمام علي عليه السلام للمستقبل الذي رأى فيه الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه شهداء.
"حشرنا الله معكم في المستشهدين، ورزقنا مرافقتكم في أعلى عليّين"
إنه دعاء للإمام المهدي عليه السلام أثناء زيارته لشهداء كربلاء.
وهكذا نلاحظ عنوان الشهادة سمةً بارزةً لأبطال الملحمة الكربلائية، كما نجد عنوان الشهيد لصيقاً بالإمام الحسين عليه السلام في نصوص النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليه السلام، التي منها:
1- ما أورده الشيخ الطوسي في كتابه "الغيبة" أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في الليلة التي كانت فيها وفاته، للإمام علي عليه السلام: "يا أبا الحسن، أحضر صحيفة ودواة، فأملى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصيته" إلى أن قال:"يا علي، إنه سيكون من بعدي اثنا عشر إماماً" إلى أن قال:"فإذا حضرتك الوفاة فسلِّمها إلى ابني الحسن البرّ الوصول، فإذا حضرته الوفاة فليسلِّمها إلى ابني الحسين الشهيد الزكي المقتول...".
2- ما ذكره الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام في حديث السلسلة الذهبية التي وصف فيها كل إمام من آبائه بأبرز صفاته التي تُعبِّر عن دوره الأساس، أو مقامه الخاص، فقال عليه السلام للحشود المجتمعة في نيشابور -وبينهم عشرون ألف كاتب يناشدونه أن يحدِّثهم بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - فإذا به يقول:"حدّثني أبي موسى الكاظم عليه السلام، عن أبيه جعفر الصادق عليه السلام، عن أبيه محمد الباقر عليه السلام، عن أبيه علي زين العابدين عليه السلام، عن أبيه الحسين شهيد كربلاء عليه السلام، عن أبيه علي بن أبي طالب عليه السلام، أنه قال: حدّثني حبيبي، وقرة عيني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن جبرئيل عليه السلام أنه قال: سمعت ربَّ العزّة سبحانه يقول: كلمة لا إله إلا الله حصني، ومن قالها دخل حصني، ومن دخل حصني أمن عذابي".
3- ما ورد في لوح فاطمة عليها السلام الذي ورد فيه أسماء الأئمة المعصومين عليهم السلام مع عرض لأبرز صفاتهم ومحطّات حياتهم ففيه: "...وجعلت حسيناً خازن وحيي، وأكرمته بالشهادة، وختمت له بالسعادة، فهو أفضل من استُشهد، وأرفع الشهداء درجة...".
إنَّ كل هذا يدعونا إلى دراسة حقيقة الشهادة التي نالها الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه في كربلاء، وحرم الكثير أنفسهم من نيلها.
الشهيد والشهداء في القرآن الكريم
أطلق القرآن الكريم صفة الشهيد على الإنسان في مقام حضوره ومشاهدته حدثاً ما بحيث يؤهِّله ذلك ليُدليَ بإفادة حول ما حصل، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾.
كما أطلق هذه الصفة على العارف المتيقِّظ غير الغافل، فقال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾.
وقد تحدّثت بعض الآيات عن مقام الشهداء عند الله تعالى بالمعنى المعرفي للشهادة دون تحديد للسبب الذي أوصلهم إلى هذه المكانة، قال تعالى:
1- ﴿وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقً ﴾.
2- ﴿وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾.
3- ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُور ﴾.
وقد وردت صفة الشهيد باعتبارها من صفات الله تعالى، قال عزَّ وجلَّ:
1- ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ﴾.
2- ﴿فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾.
3- ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ ﴾.
4- ﴿وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ﴾.
5- ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾.
6- ﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾.
7- ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾.
8- ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾
9- ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾.
ويلاحَظ في ألفاظ الشهيد والشهداء في الآيات السابقة أنها وإن كانت ترجع إلى معنى واحد يتعلّق بنوع من المعرفة، إلا أنّ هذه المعرفة تختلف في درجتها بلحاظ ما نُسبت إليه، فالمعرفة الإنسانية، في مقام شهادة الإنسان على حدث ما كالبيع، تكون من خلال الحواس، بينما حينما تُطلَق الشهادة المعرفية على الله تعالى يجب أن "تُعشَّب"، وتنقَّح من كل ما لا يتلاءم مع الكامل المطلق الذي لا يتوسَّط شيء بينه وبين معلومه.
وهذا هو حال العديد من الصفات والأفعال المنسوبة إلى الله تعالى كقوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدً ﴾. فكيد الله تعالى ومكره هو نوع من التخطيط الإلهي الإيجابي في مقابل إبطال كيد الأعداء.
وبناءً على ما تقدم، فإنّ شهادة الله تعالى في الآيات المتقدمة تعني أعلى حالات المعرفة الحضورية، فالوجود كله حاضر عند الله تعالى بنفسه بدون أي وسيط.
الشهيد في السُنَّة
على الرغم من الحشد الكبير من الآيات التي تحدّثت عن الشهيد والشهداء والشهادة فإنه لم يُصرِّح أيٌّ منها بكون الشهيد هو المقتولَ في ساحة الجهاد، أو ما يشابه ذلك، وإن كانت بعض الآيات تتحمل كون المقتول كذلك من مصاديق الشهيد أو الشهداء الوارد فيها، إلا أنّ السُنَّة النبوية والروايات الواردة عن أئمة أهل البيت المعصومين عليهم السلام أكثرت من استعمال لفظ الشهيد بمعنى المقتول في سبيل الله ممّا أدَّى إلى انصراف هذا المعنى من كلمة الشهيد. ونذكر من تلك الأحاديث ما يلي:
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "للشهيد سبع خصال من الله: أول قطرة من دمه مغفور له كل ذنب...".
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يُعطى للشهيد ست خصال: يُغفر له في أول دفعة من دمه...".
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما من نفس تموت لها عند الله خير يَسُرُّها أن ترجع إلى الدنيا، وأنّ لها الدنيا وما فيها إلا الشهيد، فإنه يتمنّى أن يرجع، فيُقتل في الدنيا لما يرى من فضل الشهادة".
عن أمير المؤمنين عليه السلام:"إنّ الجهاد أشرف الأعمال بعد الإسلام...فيه حسنات والبُشرى بالجنة بعد الشهادة".
عن أمير المؤمنين عليه السلام:"إن أفضل الخلق بعد الأوصياء الشهداء، ألا وإن أفضل الشهداء حمزة بن عبد الله، وجعفر بن أبي طالب....".
الشهيد وسبب التسمية
لعلّ إصرار النصوص الشريفة على إطلاق الشهيد عن المقتول في سبيل الله تعالى لما لهذا اللفظ من صفة معرفية إدراكية خاصة، أراد الإسلام أن يؤكِّد عليها لما تحمله من معنى يدلُّ على المقام والخصوصية للشهيد.
ويظهر هذا المقام وتلك الخصوصية من خلال التأمل بالألفاظ التي استُعملت بمعنى الإدراك والمعرفة، وقد ذكر العلامة الطباطبائي (ره) "أنّ الألفاظ المستعملة في القرآن الكريم من أنواع الإدراك كثيرة ربما بلغت العشرين، كالظن، والحسبان، والشعور، والذكر، والعرفان، والفهم، والفقه، والدراية، واليقين، والفكر، والرأي، والزعم، والحفظ، والحكمة،والخبرة، والشهادة، والعقل....".
وعند المقارنة بين هذه الألفاظ في مدلولاتها الإدراكية، وبين الشهادة التي من مادتها صيغت صفة الشهيد، يتبيَّن الفرق المقامي. وهذا يظهر من العرض الآتي الذي فصَّله صاحب الميزان وهو:
الظنّ: التصديق الراجح، وإن لم يبلغ حدّ الجزم والقطع.
الحسبان: مثل الظنّ بفارق بسيط.
الشعور: الإدراك الدقيق، أُخِذ من الشَّعر لدقَّته، ويغلب استعماله في المحسوس دون المعقول.
الذكر: استحضار الصورة المخزونة في الذهن بعد غيبته عن الإدراك، أو حفظه من أن يغيب عن الإدراك.
العرفان وكذا المعرفة: تطبيق الصورة الحاصلة في المدركة على ما هو مخزون في الذهن.
الفهم: انفعال الذهن عن الخارج بانتقاش الصورة فيه.
الفقه: التثبُّت في هذه الصورة المنتقشة فيه، والاستقرار في التصديق.
الدراية: التوغُّل في ذلك التثبُّت حتى يدرك خصوصية المعلوم، وخباياه، ومزاياه، ولذا يستعمل في مقام تضخيم الأمر وتعظيمه. قال الله تعالى: ﴿الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ ﴾.
اليقين: اشتداد الإدراك الذهني، بحيث لا يقبل الزوال.
الفكر: سير ومرور على المعلومات الموجودة الحاضرة لتحصيل ما يلازمها من المجهولات.
الرأي: التصديق الحاصل من الفكر والتروِّي، غير أنه يغلب استعماله في العلوم العملية مما ينبغي فعله، وما لا ينبغي، دون العلوم النظرية الراجعة إلى الأمور التكوينية، ويقرب منه البصيرة، والإفتاء، والقول.
الزعم: هو التصديق من حيث إنه صورة في الذهن سواء كان تصديقاَ راجحاَ أو جازماً قاطعاً.
العلم: الإدراك المانع من النقيض.
الحفظ: ضبط الصورة المعلومة بحيث لا يتطرق إليه التغيير والزوال.
الحكمة: الصورة العلمية من حيث إحكامها وإتقانها.
الخبرة: ظهور الصورة العلمية بحيث لا يَخفى على العالم ترتّب أيّة نتيجة على مقدماتها.
فالملاحَظ في هذه الألفاظ الإدراكية أنّ بعضها يُعبِّر عن ترجيح إدراكي بدون يقين وقطع فيه، وبعضها يُعبِّر عن إدراك يحصل من خلال حضور صورة الشيء إلى الذهن بنحو من أنحاء الحضور المتقدمة. وعليه فأرقى معاني هذه الألفاظ الإدراكية لا يتعدَّى حضور صورة الشيء في الذهن.
وهنا يبرز معنى الشهادة، لأنّ الشهادة هي نيل نفس الشيء وعينه.
ولعلّ المعنى يتضح من خلال التمييز بين ثلاث مراتب من المعرفة اليقينية:
الأولى: أن نتيقَّن بوجود النار بدون أن نراها وهو علم اليقين.
الثانية: أن نتيقَّن بوجود النار من خلال رؤيتها بالعين المجرّدة، وهو عين اليقين.
الثالثة: أن نتيقَّن بوجود النار من خلال وضع اليد فيها، وهو حقّ اليقين، وفي هذه المرتبة فإنّ المعرفة تعني نيل نفس الشيء وعينه، لا صورته وماهيته.
السرُّ في الوصف الشهودي
إنّ اختيار الإسلام لصفة الشهيد للمقتول في سبيل الله تعالى يُشِعر بأنّ قيمة الإنسان المضحِّي تنبع من معرفته ووعيه قبل أن يتجسّد في سلوكه العملي، وذلك يتضح من خلال معرفة البنية النظرية التي من خلالها تمَّ تشريع العمل الاستشهادي في الإسلام.
فمن الواضح في شرع الله الحنيف أنَّ الله تعالى لم يُسلِّط الإنسان على نفسه بالمطلق، فحرّم عليه الانتحار، فقال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمً ﴾ معتبراً أنه من موجبات العذاب الإلهي، ففي الرواية المعتبرة عن الإمام الصادق عليه السلام: "من قتل نفسه متعمِّداً فهو في نار جهنم خالداً فيها". وعن الإمام الباقر عليه السلام: "إنّ المؤمن يُبتلى بكل بليّة، ويموت بكل ميتة، إلا أنه لا يقتل نفسه".
وورد نفس المضمون في روايات أهل السُنَّة، ففي مسند أحمد ابن حنبل بسنده عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "من تردَّى من جبل فقتل نفسه، فهو في نار جهنَّم خالداً مُخلَّداً فيها أبداً، ومن تحسَّ سماً فقتل نفسه، فسمُّه في يده يتحسّاه في نار جهنم خالداً مخلَّداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بحديدة... كانت حديدته في يده يُجَأُ بها في بطنه في نار جهنم خالداً".
وهذا الأمر مبنيٌّ على تقدير إلهي خاص لحياة الإنسان التي لا يجوز له أن يجازف بها، بل له أن يدافع عنها حتى لو قضى ذلك قتل المتعرِّض له بالقتل، كما أفتى بذلك الفقهاء.
وبناءً عليه، فإنّ السير في الطريق الذي يؤدّي حتماً إلى قتل النفس كالعمل الاستشهادي، أو يُظَنُّ فيه ذلك ظنَّاً معتدًّا به كأغلب الأعمال الجهادية العسكرية يحتاج إلى مسوِّغ شرعي واضح يرجح على محافظة الإنسان على حياته، لذا فإنّ شرعيَّة هذا العمل الجهادي الشهادتي يحتاج إلى قضية كبرى تخرج عن نطاق الذات والفرد لتطال المبدأ الأساس كالدفاع عن الإسلام والدِّين، أو المجتمع الإسلامي، على أساس الأولوية في مقام التزاحم بين تلك القضية الكبرى والحفاظ على النفس.
ومن الواضح أنَّ تحديد هذه الأولوية لا يتوفَّر للفرد العادي من المجتمع، بل لا بدّ لتحديدها من قائد إلهي كُفْء عالم بالخطوط والقواعد الشرعية، قادر على تطبيقها في الزمان والمكان المناسبين على أساس أولويات الأمة.
من هنا ورد عن الإمام علي عليه السلام في وصيته: "... الله الله في الجهاد في سبيل الله بأموالكم، وأنفسكم، فإنما يجاهد في سبيل الله رجلان، إمام هدى، ومطيع له مقتدٍ بهداه".
ومن لطيف ما أشار إلى هذا المعنى ما ورد عن عبّادٍ البصري أنه قال للإمام زين العابدين عليه السلام في موسم الحج: تركتَ الجهاد وصعوبته، فأقبلت على الحج ولينه، وإنّ الله عزَّ وجل يقول: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ فقال له الإمام عليه السلام: أتمَّ الآية، فقال عبَّاد: ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾. فقال له الإمام عليه السلام: "إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم، فالجهاد معهم أفضل من الحج".
إذاً فالجهاد والشهادة بحاجة إلى دقّة في تحديد المسار. وهذا ما يتطلَّب من المجاهد طالب الشهادة وعياً دينياً من جهة ضمانة شرعية عمله، ووعياً اجتماعياً يدرك من خلاله قيمة عمله الذي يدخل في كبرى قضايا الدين وأولويات الأمة، بحيث يقرِّر أن يقدِّم الخاص العزيز عليه، وهو نفسه لأجل العام الأعزّ، وهو الدين أو المجتمع الذي تمثّل خدمته والتضحية لأجله اختزالاً لمسيرة كماله في سبيل الله تعالى.
إذاً معرفة طالب الشهادة ووعيه الواسع في مسيره الجهادي شرط أساس في نيله مراتب الشهيد، ولذا استحقّ أن ينال مقاماً، ويوسم بصفة تنطلق من المعرفة، فينال بذلك الشهادة ويوصف بالشهيد.
مقام الشهيد
قال الله تعالى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾.
في هذه الآيات خصائص ومراتب للمقتول في سبيل الله هي:
1 –الحياة.
2- الاطمئنان.
3- النعيم المتواصل.
4- الفرح بالثواب.
5- الاستبشار بالتحاق رفاق الجهاد.
6- الاستبشار بالنعيم المستقبلي.
وتفصيل ذلك في ما يلي:
1- حياة الشهيد
نهى القرآن الكريم عن أمرين يتعلقان بحياة الشهيد:
الأول: الاعتقاد بموته، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾.
الثاني: التعبير عن الشهيد بأنه ميت، قال تعالى: ﴿ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ ﴾.
والسبب في ذلك أنّ معنى الموت في أصله -كما نص عليه ابن فارس في معجم مقاييس اللغة- هو ذهاب القوة من الشيء، وقد استشهد لذلك بما رُوي عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حول نبتة الثوم: "من أكل من هذه الشجرة الخبيثة فلا يقربنَّ مسجدنا، فإن كنتم لا بدَّ آكليها، فأميتوها طبخاً". فمن الواضح أنّ معنى أميتوها أي اذهبوا ما فيها من قوة الرائحة.
وعليه فإن القرآن الكريم ينفي عن الشهيد ذهاب قوته، بل يُخبر عنه بأنه ما زال في موقع القوة الحياتية، والتي هي باقية، ليس في الجسد المادي الذي يتغيَّر ويتحوَّل، وإنما في النفس الإنسانية، وهذا ما قد تختلف معه الحياة، وبالتالي القوَّة، إذ إنَّ هذه النفس لن تكون بلبوس مادي، وإنما بجسم مثالي برزخي كما نصَّت عليه الروايات، فعن الإمام الصادق عليه السلام حينما سُئل: أين هي أرواح المؤمنين؟ أجاب عليه السلام: "في روضة كهيئة الأجساد في الجنة"، وفي رواية أخرى "في أبدان كأبدانهم".
الشهداء وموتى البرزخ
وهنا يطرأ تساؤل عقيديٌّ يستند إلى ما ثبت في العديد من الروايات التي تتحدث عن الحياة البرزخية، إما لكلِّ الموتى، أو لمن محض الإيمان، أو محض الكفر، ولكن على كلا الاحتمالين، فإنّ هذه الحياة لا تختص بالشهداء.
ومن تلك الروايات التي تعمِّم الحياة البرزخية:
1- ما ورد عن أمير المؤمنين: "القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار".
2- ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنَّ أرواح المؤمنين لفي شجرة من الجنة، يأكلون من طعامها، ويشربون من شرابها، ويقولون: "ربَّنا أقم الساعة لنا، وأنجز لنا ما وعدتنا، وألحق آخرنا بأوَّلنا".
3- ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً: "إنّ الأرواح في صفة الأجساد في شجرة في الجنة تعارف وتساءل، فإذا قدمت الروح على الأرواح يقول: دعوها، فإنها قد أفلتت من هول عظيم. ثم يسألونها: ما فعل فلان؟ وما فعل فلان؟ فإن قالت لهم: تركته حياً، ارتجوه، وإن قالت لهم: قد هلك، قالوا: قد هوى هوى".
ما ورد عن أبي بصير أنه سأل أبا عبد الله عن أرواح المؤمنين فأجاب عليه السلام: "في حجرات في الجنة يأكلون من طعامها ويشربون من شرابها، ويقولون: ربَّنا أقم الساعة لنا، وأنجز لنا ما وعدتنا، وألحق آخرنا بأوَّلنا".
ومن الروايات التي تخصِّص الحياة البرزخية بمن محض الإيمان ومحض الكفر، ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام:
1- "لا يُسأل في القبر إلا من محض الإيمان محضاً، أو محض الكفر محضاً، والآخرون يلهون عنهم".
2- "إنما يُسأل في قبره من محض الإيمان محضاً، والكفر محضاً، وأما ما سوى ذلك فيُلهى عنهم".
3- "لا يُسأل في القبر إلا من محض الإيمان محضاً، أو محض الكفر محضاً".
ويمكن الجمع بين هاتين الطائفتين من الروايات بأنّ المقصود من الإلهاء في الطائفة الثانية ليس نفي إحساسهم وحياتهم نهائياً، بل المقصود هو تركهم من دون سؤال، ومن دون نقلهم إلى جنَّة البرزخ ونار البرزخ، بل يُتركون في قبورهم.
ويشهد لهذا الجمع ما ورد في صحيح ضريس الكناسي عن أبي جعفر عليه السلام قال: "قلت له: جُعلت فداك، ما حال الموحّدين المقرّين بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المسلمين المذنبين الذين يموتون وليس لهم إمام، ولا يعرفون ولايتكم؟ فقال: أمّا هؤلاء، فإنهم في حفرهم لا يخرجون منها، فمن كان له عمل صالح، ولم يظهر منه عداوة، فإنه يُخدّ له خدّاً إلى الجنة التي خلقها الله بالمغرب، فيدخل عليه الروح في حفرته إلى يوم القيامة حتى يلقى الله، فيحاسبه بحسناته وسيئاته، فإمّا إلى الجنّة وإما إلى النار، فهؤلاء الموقوفون لأمر الله. قال: وكذلك يفعل بالمستضعفين والبله والأطفال وأولاد المسلمين الذين لم يبلغوا الحلم، وأمّا النُّصّاب من أهل القبلة، فإنه يُخدّ لهم خدّاً إلى النار التي خلقها الله في المشرق، فيدخل عليهم اللهب والشرر والدخان وفورة الحميم إلى يوم القيامة، ثم بعد ذلك مصيرهم إلى الجحيم".
فهذه الرواية تصلح كشاهد على أنّ الذين يُلهى عنهم هم "الموقوفون لأمر الله".
وعليه فإن كان الموتى بشكل عام تبقى أنفسهم حيَّة إمَّا في جنة البرزخ أو ناره وإما في قبورهم، فما الوجه لتخصيص الحديث عن الشهداء بأنهم أحياء ؟!!!
يُقال في مقام الجواب: إنّ نوعية الحياة للشهداء تختلف، فهي حياة قوية، خاصة، فيها نعيم استثنائي تُعبِّر عنه العندية ﴿عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾، وهذا جواب صحيح، نضيف إليه أنَّ هناك ميزة أُخرى تتعلق بحياة الشهداء، وهي تتعلق بالفترة الواقعة بين نفخ صور الإماتة، ونفخ صور الإحياء يوم القيامة، ففي هذه الفترة يتم صعق جميع الأحياء سوى استثناء قليل، إذ يقول تعالى: ﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ ﴾، فالذي يظهر من إطلاق هاتين الآيتين أنّ الصعق يشمل كل من في السموات والأرض بمن فيهم الذين ماتوا قبلاً، وانتقلوا إلى البرزخ، وهذا ما رُوي عن الإمام الصادق عليه السلام حينما سأله أحدهم: "أفيتلاشى الروح بعد خروجه عن قالبه أم هو باق؟، قال عليه السلام: "بل هو باق إلى وقت يُنفخ في الصور، فعند ذلك تبطل الأشياء وتفنى، فلا حسَّ ولا محسوس، ثم أُعيدت الأشياء كما بدأها مدبّرها، وذلك أربع مئة سنة يسبت فيها الخلق وذلك بين النفختين.
وممّا ينسجم بل يؤيِّد ما تقدم تفسير قوله تعالى: ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ﴾ بأنّ المُراد من الموت الأول فصل الروح عن الجسد في الدنيا، ومن الموت الثاني هو الصعق والسبات بعد النفخ الأول". وبناءً عليه فعند النفخ الأول يكون هناك سبات عام، وعدم حياة عام لجميع الكائنات، لكن يوجد استثناء من هذا السبات، ومن فقدان الحياة عبَّر عنه سبحانه في ما مرّ بـ "من شاء الله". وقد فسّر البعض المُستثنى في الآية بالشهداء، فقد نقل الشيخ الطبرسي في تفسير جوامع الجامع عن ابن جبير في تفسيره لـ: "من شاء الله":"هم الشهداء متقلدو السيوف حول العرش"، وهذا يعني قوَّة في حياة الشهداء تؤهلهم لبقاء حياتهم بين النفختين.
2- اطمئنان الشهيد.
تصف الآيات الكريمة السابقة حال الشهداء بأنهم ﴿أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾، وحينما نتأمل في معنى الخوف والحزن نلاحظ أنّ الأول يتعلق بحذر الإنسان أن يفقد في المستقبل ما يملكه أو له حقٌّ فيه، فمن عنده ولد، فإنه يخاف عليه المرض والموت، ومن عنده أموال، فإنه يخاف أن يفقدها وهكذا، أما الحزن فهو يتعلق بالحالة النفسية التي تعتري الإنسان حينما يفقد شيئاً قد ملكه، أو كان له حق فيه، فمن فقد ولده يحزن عليه، ومن فقد ماله يحزن عليه وهكذا، فمتعلَّق الحزن الماضي، ومتعلَّق الخوف المستقبل، وكلاهما يعتريان من يعتقد بملكه لشيء أو حقّه فيه.
لكنّ هذا الشعور لا يعتري ثلة من الناس سمَّاهم الله تعالى في كتابه بأولياء الله، فقال عنهم: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾، لأنّ وليَّ الله يعتقد اعتقاداً عقلياً وقلبياً بأنّ كلَّ شيء هو ملكٌ لله وحقٌّ له تعالى، فلا يحزن على ما مضى حزن الفاقد الذي كان يملك، أو كان له حق فيه، ولا يخاف على شيء خوف المعتقد بملكه أو حقِّه، وهذا غير خوفه وحذره العقلائي، وحزنه الإنساني العاطفي.
من هنا فإنّ وليَّ الله يعيش اطمئناناً في حياته، لا يزعجه فيه خوف ولا حزن، لأنّ ذكر الله تعالى ملأ حياته، فكان قلبه مصداقاً لقوله عزَّ وجلّ: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب ﴾.
والآية السابقة على تفسير رجوع الضمير "عليهم" إلى "الذين قُتلوا في سبيل الله" تصف حال الشهداء بهذا الاطمئنان، فهم في حياتهم البرزخية لا يحزنون على ما فاتهم، وقد وجدوا خيراً منهم كثيراً، ولا يخافون من مستقبل وهم في كنف الله تعالى، وعنده عزَّ وجل.
إنَّ اطمئنان الشهداء هو أحد الأسباب الرئيسية لقوَّة الحياة عندهم، فإنّ المطمئن الحقيقي يشعر بتلك القوة النابعة من ذكره لله واستحضاره الدائم له. فيكون بهذه القوة مصداقاً للقويّ بالقوة التي بحث عنها ذلك الحكيم القائل في رحلة بحثه:
"بحثت عن أقوى الأشياء فوجدته الحديد..
نظرت إلى الحديد فوجدت أن النار تمدده، فعلمت أنّ النار أقوى من الحديد.
نظرت إلى النار، فوجدت أنّ الماء يطفئها، فعلمت أنّ الماء أقوى من النار..
نظرت إلى الماء، فوجدت أنّ السحاب ينزله، فعلمت أنّ السحاب أقوى من الماء..
نظرت إلى السحاب، فوجدت أنّ الرياح تجره، فعلمت أنّ الرياح أقوى من السحاب..
نظرت إلى الرياح، فوجدت أنّ الجبال تصدُّها، فعلمت أنّ الجبال أقوى من الرياح..
نظرت إلى الجبال، فوجدت أنّ الإنسان يعلوها، فعلمت أنّ الإنسان أقوى من الجبال..
نظرت إلى الإنسان، فوجدت أنّ النوم يسكته، فعلمت أنّ النوم أقوى من الإنسان..
نظرت إلى النوم، فوجدت أنّ القلق يذهبه، فعلمت أنّ القلق أقوى من النوم..
نظرت إلى القلق، فوجدت أنّ الاطمئنان يعدمه، فعلمت أنّ الاطمئنان أقوى من القلق..
عندها علمت معنى قول ربّي: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾.
ومن هنا كان مشهد الاطمئنان والقوة بادياً على معالم الإمام الحسين عليه السلام الذي تعجَّب من رآه قبيل شهادته، إذ كان كلَّما اشتدّ عليه الأمر سكنت نفسه، وهدأت جوارحه، وأشرق لونه نوراً وبهاءً، فقيل: انظروا إليه. لا يُبالي بالموت، فقال لهم عليه السلام:"صبراً بني الكرام، فما الموت إلا قنطرة يعبر بكم عن البؤس والضرّاء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائم، فأيُّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر؟! وما هو لأعدائكم، إلا كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب، إنَّ أبي حدَّثني عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنَّ الدنيا سجن المؤمن وجنَّة الكافر، والموت جسر هؤلاء إلى جنانهم، وجسر هؤلاء إلى جحيمهم".
3-النعيم المتواصل
فقد وصفتهم الآية السابقة بأنهم "يُرزقون"، فرزقهم بحسب مفاد الفعل المضارع متواصل مستمر.
وأيُّ رزق هو رزق الشهداء!
إنه الرزق الحسن من خير الرازقين الذي ورد في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾.
إنَّه الرزق الذي يتمنّى الشهيد أن يرجع لأجله إلى الدنيا ليدخل باب الشهادة من جديد، كما ورد في الحديث السابق عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بأنه "ما من نفس تموت لها عند الله خير يَسُرُّها أن ترجع إلى الدنيا، وأنّ لها الدنيا وما فيها إلا الشهيد، فإنه يتمنّى أن يرجع، فيُقتل في الدنيا لما يرى من فضل الشهادة".
من هنا نفهم بعضاً من سرِّ روحية الشهادة لدى شهيد الإسلام الأكبر علي بن أبي طالب الذي شكا إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعد إحدى الغزوات لكونه لم يُستشهد فيها، فأجابه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أبشر فإنّ الشهادة من ورائك، فطالبه بذلك في معركة أُخرى قائلاً: يا رسول الله أوليس قد قلت لي حيث استُشهد من استُشهد من المسلمين وحيزت عني الشهادة، فشقَّ ذلك عليَّ فقلت لي: أبشر فإنّ الشهادة من ورائك؟!!!، فأجابه صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ ذلك لكذلك، فكيف صبرك إذاً؟ فقال عليه السلام:"يا رسول الله، هذا ليس من مواطن الصبر، ولكن من مواطن البشرى والشكر".
4-الفرح بالثواب
يكمل القرآن الكريم وصفه للشهداء ب ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ ﴾، وكيف لا يفرحون، وقد وصف الله تعالى أجرهم بالعظيم في قوله تعالى: ﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمً ﴾.
وقد تحدَّثت بعض الروايات عن بعض معالم ذلك الأجر والثواب الإلهي للشهيد. فعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "للشهيد سبع خصال من الله،
الأولى: أول قطرة من دمه مغفور له كلّ ذنب.
الثانية: يقع رأسه في حجر زوجتيه من الحور العين، تمسحان الغبار عن وجهه، وتقولان: مرحباً بك، ويقول هو مثل ذلك.
الثالثة: يُكسى من كسوة الجنة.
الرابعة: تبتدره خزنة الجنة بكل ريحٍ طيبة، أيّهم يأخذه إليه.
الخامسة: أن يرى منزله.
السادسة: يقال لروحه: اسرح في الجنة حيث شئت.
السابعة: أن ينظر في وجه الله، وإنها لراحة لكل نبيٍّ وشهيد".
من هنا كان الخُلَّص من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصرُّون على الاستشهاد في سبيل الله تعالى لما يعرفون من فضل الشهادة، ومن هؤلاء عمرو بن الجموح الذي كان رجلاً أعرج، فلما كان يوم "أُحد"، وكان له بنون أربعة يشهدون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم المََشَاهد أمثال الأسد، وأراد قومه أن يحبسوه، وقالوا: أنت رجل أعرج، ولا حرج عليك، وقد ذهب بنوك مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فأجابهم: بخٍ، يذهبون إلى الجنة، وأجلس أنا عندكم!! فقالت: هند بنت عمرو امرأته: كأني أنظر إليه مولِّياً قد أخذ درقته، وهو يقول: اللهم لا تردَّني إلى أهلي. فخرج ولحقه بعض قومه يكلِّمونه في العودة. فأبى وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: "يا رسول الله، إنَّ قومي يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه، والخروج معك، والله لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة". فقال صلى الله عليه وآله وسلم له: "أما أنت فقد عذرك الله، ولا جهاد عليك"، فأبى، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقومه وبنيه: "لا عليكم أن تمنعوه، لعلّ الله يرزقه الشهادة"، فخلّوا عنه، فقُتِلَ يومئذ شهيداً، فحملته هند بعد شهادته، مع ابنها خلاد، وأخيها عبد الله على بعير، فلما بلغت منقطع الحرة برك البعير، فكان كلَّما تُوجِّهه إلى المدينة برك، وإذا وجّهته إلى أُحد أسرع، فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرته بذلك، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الجمل لمأمور. هل قال عمرو شيئاً"؟ قالت: نعم، إنه لما توجَّه إلى "أُحد" استقبل القبلة، ثم قال: اللهم لا تردَّني إلى أهلي، وارزقني الشهادة. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "فلذلك الجمل لا يمضي. إنّ منكم يا معشر الأنصار من لو أقسم على الله لأبرَّه، منهم عمرو بن الجموح".
ومما مرَّ نفهم سرَّ ذلك الفرح الذي كان يظهر على ملامح شهداء كربلاء قبيل شهادتهم حتى إنَّ البعض تعجَّب من ذلك.
فها هو برير قبيل شهادته يضاحك عبد الرحمن الأنصاري، فقال له عبد الرحمن: "يا برير، ما هذه ساعة باطل"! فأجاب برير: "لقد عَلِمَ قومي أني ما أحببت الباطل كهلاً ولا شابّاً، وإنما أفعل ذلك استبشاراً بما نصير إليه، فوالله ما هو إلا أن نلقى هؤلاء القوم بأسيافنا نعالجهم بها ساعة، ثم نعانق الحور العين"
وها هو يزيد بن الحصين يرى حبيب بن مظاهر يضحك في كربلاء، فيقول له: "يا أخي ليست هذه بساعة ضحك! فيجيبه حبيب: فأيُّ موضع أحق من هذا بالسرور؟ والله ما هو إلا أن يُقبل علينا هؤلاء القوم بسيوفهم فنعانق الحور".
وقد تعلَّم مجاهدو المقاومة الإسلامية في لبنان من هؤلاء الشهداء كيف يفرحون، ويضحكون على عتبة شهادتهم. ومن جميل تلك المواقف ما حصل مع الاستشهادي الأول في هذه المقاومة وهو الشهيد أحمد قصير الذي استشهد في سن التاسعة عشر ربيعاً، فقد رآه رفيقه في الجهاد الذي كان يجهِّز العبوة في السيارة يضحك ويضحك، فسأله عن سبب ذلك، فأجابه: ثقِّل العبوة تحت مقعدي، فإني أريد أن أطير بسرعة.
5- الاستبشار بالتحاق رفاق الجهاد
تشير الآية السابقة إلى أنَّ الشهداء مع ما يعيشونه من نعيم متواصل وسعادة غامرة، فإنهم لا يعيشون أنانية النعمة التي تنسيهم الآخرين، بل يبقون على تواصل روحي معنوي مع رفاقهم المؤمنين، لذا هم ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾
وقد ورد في بعض الروايات بأنّ أرواح المؤمنين تسأل القادم إليها في جنتهم البرزخية عن بعض رفاقهم المؤمنين، فإن قالت لهم "تركته حيّاً ارتجوه".
وفي كربلاء صرَّح الإمام الحسين عليه السلام لأصحابه أنَّ الشهداء يتوقعون قدومهم وذلك بعد أن فرغ من الصلاة، وقال لهم: "يا كرام، هذه الجنة قد فتحت أبوابها، واتصلت أنهارها، وأينعت ثمارها، وهذا رسول الله والشهداء الذين قُتلوا في سبيل الله يتوقعون قدومكم، ويتباشرون بكم، فحاموا عن دين الله، ودين نبيِّه، وذبّوا عن حرم الرسول".
6-الاستبشار بالنعيم المستقبلي
ورغم كل النعيم والثواب الجزيل الذي يؤتيه الله تعالى للشهداء تصفهم الآية أنهم "يستبشرون بنعمة من الله وفضل...".
ومن النعم القادمة على الشهداء هو مقام الشفاعة الذي ورد فيه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ثلاثة يشفعون إلى الله فيُشفَّعون: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء".
وتنطلق الشفاعة يوم القيامة في كثير من مجرياتها بسبب فعل الهداية الذي كان يمارسه الشفيع في حياته الدنيا، فالأنبياء والعلماء كان دورهم الأساس هو هداية الناس، لذا فإنَّ شفاعتهم للناس تكون في ضوء تجاوب الناس معهم من خلال اهتدائهم، وهذا ما يوضِّح ميزة تقدم الأنبياء عليهم السلام والعلماء في موقع الشفاعة.
ولكنّ السؤال الذي يفرض نفسه هو أنَّ مقام شفاعة الهداية واضح من خلال دور الأنبياء عليهم السلام والعلماء، ولكن كيف نتعقَّل شفاعة الهداية في الشهيد الذي قد يكون غير عالم، بل قد يكون صغيراً لم يكتب كتاباً، ولم يعتلِ منبراً، ولم يُقدِّم محاضرة، كذلك الشهيد الصغير الذي قام بالعملية الاستشهادية وهم لم يتخطَّ زمن بلوغه إلا بفترة قليلة، فنوَّه به الإمام الخميني(ره) واصفاً إياه بـ "قائدنا ذلك الطفل الذي فجّر نفسه، تحت دبابات العدو في خرمشهر".
فالسؤال هو: كيف نتعقَّل مقام شفاعة الهداية له؟ هنا يُنقل عن الإمام الخميني(ره) مطلب لطيف يجيب فيه عن هذا السؤال وهو أنَّ الشهيد يهدي بدمه.
وفعلاً صدق الإمام الخميني قدس سره ، فكم رأينا من أناس انقلبت حياتهم نحو الإيمان، ببركة دم الشهيد، من أقربائهم أو جيرانهم! وكم رأينا شباناً تأثّروا بالشهداء، فاهتدوا نحو التدين والالتزام! بل لقد رأينا بركات الشهداء في التحوُّل الاجتماعي الإيماني العامّ الذي ما فتئ يتقدّم ببركة دمائهم الطاهرة.
ومن هنا نطلّ على:
مسؤولياتنا تجاه الشهداء
المسؤولية الأولى: هي حفظ القضية التي استُشهدوا من أجلها. فإذا كان "من بلّغ رسالة غازٍ كمن أعتق رقبته، وهو شريكه في ثواب غزوته"، فكيف بمن حمل وبلَّغ القضية التي كانت نصب عين الشهيد حينما قُتِلَ في سبيل الله؟!
رحم الله سيد شهداء المقاومة الإسلامية السيد عباس الموسوي الذي كان يقول: "الوصية الأساس: حفظ المقاومة".
المسؤولية الثانية: هي حفظ عوائلهم وتكفّل أيتامهم، لقد كان ا