حياة الإِنسان والقيم الأَخلاقية

قيم هذا المقال
(0 صوت)
حياة الإِنسان والقيم الأَخلاقية

لا نتصور إنساناً يملك من العقل شيئاً، يخالف التقدم الصناعي ويعارضه، بل يقوده إلى دعم «التكنولوجيا» التي تؤتيه الراحة والرفاه.
غير أَنَّ المشكلة في هذه الآونة من حياة البشر تنبع من موقع آخر، وهو استغلال الغرب هذه «التكنولوجيا» لصالح الإنتاج والتوزيع، وجعله الأَخلاق والمشاعر الإِنسانية ضحيَّة لهذه الغاية.
نداء يطرق الأَسماع من بعيد: وفي هذه الظروف الحَرِجة بالنسبة للإِنسان المثالي، ظهر أُناس ذوو ضمائر حية وقلوب مستنيرة يَشْكون هذه الحالة المحيطة بالإِنسان، ويطردون الحياة الآلية المصطنعة. وقد أَحسّوا أَنَّ الإِنسان قد وصل إلى الدَّرَك الأَسفل من القيم الأَخلاقية، وأَنَّ الحياة الآلية (جَعْل الطاقات الإِنسانية والقيم ضحية الإِنتاج والتوزيع) لا توصله إلى السعادة على الإِطلاق، بل تقوده إلى تحصيل المال والثروة بسرعة، وفي الوقت نفسه إلى تحطيم القيم والمثل وضياعها. ومن هذا المنطلق حاول هؤلاء إضفاء طابع روحي على حياة الإنسان حتى تتوزان الحياة المادية مع الحياة المعنوية.
ونحن إِذْ نبارك لهؤلاء العلماء خطوتهم نذكّرهم أَنَّ القرآن الكريم قد وصف الحياة المادَّية الخالية من المعنويات والقيم بأَنها طيف يدور بين اللَّعب واللَّهو والزينة والتفاخر وينتهي بالتكاثر في الأَموال والأَولاد: قال سبحانه: "اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ ولَهْوٌ وزِينَةٌ وَتَفَاخُرُ بَيْنَكُمْ وتَكَاثُرٌ فِي الاْمْوَالِ والاْوْلادِ كَمَثَلِ غَيْث أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وفِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ ومَغْفِرَةٌ مِّنَ اللهِ ورِضْوَانٌ ومَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ"[1].
 ترى أَنه سبحانه يقسم الحياة المادية إلى أَقسام خمسة وكأنها تدور من بدايتها إلى نهايتها بين هذه المدارج وهي:
 1- اللعب.
2- اللهو.
3- التزين والتجمل.
4- التفاخر.
5- التكاثر في الأَموال والأَولاد. 
ويعتقد العلماء أَنَّ كل قسم من هذه الأقسام يشغل مقداراً من عمر الإِنسان ثم يندفع إلى القسم الآخر حسب تكامل سنه واشتداد قواه، ولعل كل واحد منها يأخذ من عمر الإنسان ثمان سنوات، ثم الخامس يستمر معه إلى خاتمة حياته ولا يفارقه حتى يموت.

ثم إِنَّ الآية المباركة تشبّه هذه الحياة الفارغة من القيم، بنبات مخضرّ لا دوام لاخضراره ولطافته، فسرعان ما يتحول النبات الأَخضر إلى الأَصفر الذي ينفر منه الإنسان.
فمثل الإنسان الغارق في مستنقع المادة كمثل هذا النبات حيث يبتدئ حياته بالاخضرار واللطافة ويستقر في نهاية المطاف، جيفة في بطن الأَرض، إِلاّ من قرن حياته المادَّية بالحياة المعنوية غير المنقطعة بموته وزهوق روحه.
وإِنَّ القرآن الكريم أَيضاً يصوّر الحياة المادية بشكل آخر ويقول: "وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَـالُهُمْ كَسَرَاب بِقِيعَة يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْـاً ووَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّـاهُ حِسَابَهُ واللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ"[2].
فالحياة المادية في ريعانها تتجلى بصورة شيء واقعي له من الزهو والجمال ما يغري به كالسراب الذي يخدع العطشان، فإذا انتهى إلى نهاية المطاف من عمره، يقف على أَنها لم تكن شيئاً واقعياً يسكن إليه.
إِنَّ الحياة الإِنسانية إنَّما تأخذ المنحى السليم إذا تفاعلت مع الجانب الروحي، ليكون للدين والقيم والأخلاق مكانة مرموقة في حياته، كما أنَّ لحاجاته المادية ذاك المقام المنشود. وإنَّما تتجلى هذه الحقيقة، أي لزوم التوجه إلى الدين، إذا وقفنا على أمرين:
1ـ ما هو الدّين؟ وما هو واقعه؟
2ـ ما هو دوره في حياة الإنسان؟
 
* آية الله الشيخ جعفر سبحاني - بتصرّف

[1]  سورة الحديد: الآية 20.
[2]  سورة النور: الآية 39.

قراءة 1759 مرة