تساؤلات مهدوية

قيم هذا المقال
(0 صوت)
تساؤلات مهدوية

ليس المهدي تجسيدأ لعقيدة إسلامية ذات طابع ديني فحسب ، بل هو عنوان لطموح اتجهت إليه البشرية بمختلف أديانها ومذاهبها ، وصياغة لإلهام فطري ، أدرك الناس من خلاله ـ على الرغم من تنوع عقائدهم ووسائلهم إلى الغيب ـ أن للإنسانية يومأ موعودأ على الأرض ، تحقّق فيه رسالات السماء بمغزاها الكبير ، وهدفها النهائي ، وتجد فيه المسيرة المكدودة للإنسان على مر التاريخ استقرارها وطمأنينتها ، بعد عنا طويل.

بل لم يقتصر الشعور بهذا اليوم الغيبي والمستقبل المنتظر على المؤمنين دينيأ بالغيب ، بل امتد إلى غيرهم أيضأ وانعكس حتى على أشد الإيديولوجيات والاتجاهات العقائدية رفضأ للغيب والغيبيات ، كالمادية الجدلية التي فشرت التاريخ على أساس التناقضات ، وآمنت بيوم موعود ، تصفّى فيه كل تلك التناقضات ويسود فيه الوئام والسلام . وهكذا نجد أن التجربة النفسية لهذا الشعور التي مارستها الإنسانيه على مر الزمن ، من أوسع التجارب النفسية وأكثرها عمومأ بين أفراد الإنسان.

وحينما يدعم الدين هذا الشعور النفسي العام ، ويؤكد أن الأرض في نهاية المطاف ستمتلى قسطأ وعدلأ بعد أن ملئت ظلما وجوراً ، يعطي لذلك الشعور قيمته الموضوعية ويحوله إلى إيمان حاسم بمستقبل المسيرة الإنسانية ، وهذا الإيمان ليس مجرد مصدر للسلوة والعزاء فحسب ، بل مصدر عطاء وقوة. فهو مصدر عطاء ؟ لأن الإيمان بالمهدي إيمان برفض الظلم والجور حتى وهو يسود الدنيا كلها ، وهو مصدر قوة ودفع لا تنضب ؛ لأنه بصيص نور يقاوم اليأس في نفس الإنسان ، ويحافظ على الأمل إلمشتعل في صدره مهما ادالفت الخطوب وتعملق الظلم ؟ لأن اليوم الموعود يثبت أن بإمكان العدل أن يواجه عالمأ مليئأ بالظلم والجور فيزعزع ما فيه من أركان الظلم ، ويقيم بناءه من جديد (1) ، وأن الظلم مهما تجبز وامتد في أرجاء العالم وسيطر على مقدراته ، فهو حالة غير طبيعية ، ولا بد أن يهزم . وتلك ا الهزيمة الكبرى المحتومة للظلم وهو في قمة مجده ، تضع الأمل كبيرأ أمام كل فرد مظلوم ، وكل أفة مظلومة ، في القدرة على تغيير الميزان وإعادة البناء.

وإذا كانت فكرة المهدي أقدم من الإسلام وأوسع منه ، فإن معالمها التفصيلية التي حددها الإسلام جاءت أكثر إشباعأ لكل الطموحات التي انشدت إلى هذه الفكرة منذ فجر التاريخ الديني ، وأغنى عطاء وأقوى إثارة لأحاسيس المظلومين والمعذبين على مر التاريخ. وذلك لأن الإسلام حؤل الفكرة من غيب إلى واقع ، ومن مستقبل إلى حاضر ، ومن التطلع إلى منقذ تمخض عنه الدنيا في المستقبل البعيد المجهول إلى الإيمان بوجود المنقذ فعلاً ، واكمال كل الظروف التي تسمح له بممارسة دوره العظيم. فلم يعد المهدي فكرة ننتظر ولادتها ، ونبوءة نتطلع إلى مصداقها ، بل واقعأ قائمأ ننتظر فاعليته ، وإنسانأ معئنأ يعيش بيننا بلحمه ودمه ، نراه ويرانا ، ويعيش مع آمالنا وآلامنا ، ويشاركنا أحزاننا وأفراحنا ، ويثمهد كل ما تزخر به الساحة على وجه الأرض من عذاب المعذبين وبؤس البائسين وظلم الظالمين ، ويكتوي بكل ذلك من قريب أو بعيد ، وينتظر بلهفة اللحظة التي يتاح له فيها أن يمذ يده إلى كل مظلوم ، وكل محروم ، وكل بائس ، ويقطع دابر الظالمين.

وقد قدر لهذا القائد المنتظر أن لا يعلن عن نفسه ، ولا يكشف للآخرين حياته على الرغم من أنه يعيش معهم انتظارأ للحظة الموعودة.

ومن الواضح أن الفكرة جمهذه المعالم الإسلامية ، تقرّب الهوّة الغيبية بين المظلومين كل المظلومين والمنقذ المنتظر ، وتجعل الجسر بينهم وبينه في شعورهم النفسي قصيرأ مهما طال الانتظار.

ونحن حيما يراد منا أن نؤمن بفكرة المهدي ، بوصفها تعبيرأ عن إنسان حيّ محدد يعيش فعلاً كما نعيش ، ويترقب كما نترقب ، يراد الإمجاء إلينا بأن فكرة الرفض المطلق لكل ظلم وجور التي يمثلها المهدي ، تجشدت فعلاً في القائد الرافض المنتظر ، الذي سيظهر وليس في عنقه بيعة لظالم كما في الحديث (2) ، وأن الإيمان به إيمان بهذا الرفض الحي القائم فعلاً ومواكبة له.

وقد ورد في الأحاديث الحث المتواصل على انتظار الفرج ، ومطالبة المؤمنين بالمهدي أن يكونوا بانتظاره. وفي ذلك تحقيق لتلك الرابطة الروحية ، والصلة الوجدانية بينهم وبين القائد الرافض ، وكل ما يرمز إليه من قيم ، وهي رابطة وصلة ليس بالإمكان إمجادها ما لم يكن المهدي قد تجسد فعلاً في إنسان حيّ معاصر .

وهكذا نلاحظ أن هذا التجسيد أعطى الفكرة زخماً جديداً ، وجعل منها مصدر عطاء وقوة بدرجة أكبر ، إضافة إلى ما يجده أي إنسان رافض من سلوة وعزاء وتخفيف لما يقاسيه من آلام الظلم والحرمان ، حين يحسّ أن إمامه وقائده يشاركه هذه الآلام ويتحسّس بها فعلاً بحكم كونه إنسانأ معاصرأ ، يعيش معه وليس مجرد فكرة مستقبلية.

ولكن التجسيد المذكور أدى في نفس الوقت إلى مواقف سلبية تجاه فكرة المهدي نفسها لدى عدد من الناس ، الذين صعب عليهم أن يتصوروا ذلك ويفتر ضوه.

فهم يتساءلون !

إذا كان المهدي يعبّر عن إنسان حيّ ، عاصركل هذه الأجيال المتعاقبة منذ أكثر من عشرة قرون ، وسيظل يعاصر امتداداتها إلى أن يظهر على الساحة ، فكيف تأتى لهذا الانسان ان أن يعيش هذا العمر الطويل ، وينجو من قوانين الطبيعة التي تفرض على كل إنسان أن يمز بمرحلة الشيخوخة والهرم ، في وقت سابق على ذلك جدأ ، وتؤدي به تلك المرحلة طبيعيأ إلى الموت ؟ أو ليس ذلك مستحيلاً من الناحية الواقعية ؟

ويتساءلون أيضاً !

لماذا كل هذا الحرص من الله ـ سبحانه وتعالى ـ على هذا الإنسان بالذات ؟ فتعطّل من أجله القوانين الطبيعية ، وتفعل المستحيل لإطالة عمره والاحتفاظ به لليوم الموعود ، فهل عقمت البشرية عن إنتاج القادة الأكفاء ؟ ولماذا لا يترك اليوم الموعود لقائد يولد (3) مع فجر ذلك اليوم ، وينمو كما ينمو الناس ، ويمارس دوره بالتدريج حتى يملأ الأرض قسطاً وعدلاًکما ملئت ظلما وجوراً ؟

ويتساءلون أيضاً !

إذا كان المهدي اسما لشخص محدّد هو ابن الإمام الحادي عشر من أئمة أهل البيت عليهم السلام الذي ولد سنة (256 هـ) (4) وتوفي أبوه سنة (260 هـ) ، فهذا يعني أنه كان طفلاً صغيراً عند موت أبيه ، لا يتجاوز خمس سنوات وهي سن لا تكفي للمرور بمرحلة إعداد فكري وديني كامل على يد أبيه ، فكيف وبأي طريقة يكتمل إعداد هذا الشخص(5) لممارسة دوره الكبير ، دينياً وفكرياً وعلمياً ؟

ويتساءلون أيضاً!

إذا كان القائد جاهزاً ، فلماذا كلّ هذا الانتظار الطويل مئات السنين ؟

أوَليس في ما شهده العالم من المحن والكوارث الاجتماعية ما يبرّر بروزه على الساحة وإقامة العدل على الأرض ؟

ويتساءلون أيضأ!

كيف نستطيع أن نؤمن بوجود المهدي ، حتى لو افترضنا أن هذا ممكن ؟ وهل يسوغ لإنسان أن يعتقد بصحة فرضية من هذا القبيل دون أن يقوم عليها دليل علمي أوشرعي قاطع ؟ وهل تكفي بضع روايات تنقل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا نعلم مدى صحتها (6) للتسليم بالفرضية المذكورة ؟

ويتساءلون أيضأ بالنسبة إلى ما أعدّ له هذا الفرد من دور في اليوم الموعود!

كيف يمكن أن يكون للفرد هذا الدور العظيم الحاسمم في حياة العالم ؟! مع أن الفرد مهما كان عظيما لا يمكنه أن يصنع بنفسه التاريخ ، ويدخل به مرحلة جديدة ، وإنما تختمر بذور الحركة التاريخية وجذوتها في الظروف الموضوعية وتناقضاتها ، وعظمة الفرد هي التي ترشحه لكي يشكل الواجهة لتلك الظروف الموضوعية ، والتعبير العملي عما تتطلبه من حلول ؟

ويتساءلون أيضأ!

ما هي الطريقة التي يمكن أن نتصور من خلالها ما سيتمُّ على يد ذلك الفرد من تحوّل هائل وانتصار حاسم للعدل ورسالة العدل على كل كيانات الظلم والجور والطغيان ، على الرغم مما تملك من سلطان ونفوذ ، وما يتواجد لديها من وسائل الدمار والتدمير ، وما وصلت إليه من المستوى الهائل في الإمكانات العلمية والقدرة السياسية والاجتماعية والعسكرية ؟

هذه أسئلة قد تتردد في هذا المجال وتقال بشكل وآخر ، وليست البواعث الحقيقية لهذه الأسئلة فكرية فحسب ، بل هناك مصدر نفسي لها أيضأ ، وهو الشعور بهيبة الواقع المسيطر عالمياً ، وضآلة أي فرصة لتغييره من الجذور ، وبقدر ما يبعثه الواقع الذي يسود العالم على مز الزمن من هذا الشعور ، تتعمق الشكوك وتترادف التساؤلات. وهكذا تؤدي الهزيمة والضآلة والشعور بالضعف لدى الإنسان إلى أن يحسّ نفسياً بإرهاق شديد ، لمجرد تصور عملية التغيير الكبرى للعالم التي تفرغه من كل تناقضاته ومظالمه التاريخية ، وتعطيه محتوىً جديداً قائماً على أساس الحق والعدل ، وهذا الإرهاق يدعوه إلى التشكك في هذه الصورة ومحاولة رفضها لسبب وآخر.

كيف تأتّى للمهدي هذا العمر الطويل ؟

هل بالإمكان أن يعيش الإنسان قروناً كثيرة كما هو المفترض في هذا القائد المنتظر لتغيير العالم ، الذي يبلغ عمره الشريف فعلاً أكثر من ألف ومائة وأربعين سنة ، أي حوالي 14 مرة بقدر عمر الإنسان الاعتيادي الذي يمرّ بكل المراحل الاعتيادية من الطفولة إلى الشيخوخة ؟

كلمة الإمكان هنا تعني أحد ثلاثة معاني : الإمكان العملي ، والإمكان العلمي ، والإمكان المنطقي أو الفلسفي .

وأقصد بالإمكان العملي : أن يكون الشيء ممكناً على نحو يتاح لي أو لك ، أو لإنسان آخر فعلاً أن يحققه ، فالسفر عبر المحيط ، والوصول إلى قاع البحر ، والصعود إلى القمر ، أشياء أصبح الا إمكان عملي فعلاً . فهناك من يمارس هذه الأشياء فعلاً بشكل وآخر .

وأقصد بالإمكان العلمي : أن هناك أشياء قد لا يكون بالإمكان عمليأ لي أو لك ، أن تُمارسها فعلاً بوسائل المدنية المعاصرة ، ولكن لا يوجد لدى العلم ولا تشير اتجاهاته المتحركة إلى ما يبرر رفض إمكان هذه الأشياء ووقوعها وفقاً لظروف ووسائل خاصة ، فصعود الإنسان إلى كوكب الزهرة لا يوجد في العلم ما يرفض وقوعه ، بل إن اتجاهاته القائمة فعلاً تشير إلى إمكان ذلك ، وإن لم يكن الصعود فعلاً ميسورأ لي أو لك ؟ لأن الفارق بين الصعود إلى الزهرة والصعود إلى القمر ليس إلأ فارق درجة ، ولا يمثل الصعود إلى الزهرة إلأ مرحلة تذليل الصعاب الإضافية التي تنشأ من كون المسافة أبعد ، فالصعود إلى الزهرة ممكن علمياً وإن لم يكن ممكنأ عمليأ فعلاً (الكلام في وقته دقيق علمياً ، فهو يقول : إنه ممكن علمياً ، ولكنه لم يكن قد تحقق فعلاً ، والواقع أن كثيراً من الإنجازات في عالم الفضاء ، وتسيير المركبات الفضائية إلى كواكب وتوابع الأرض وغيرها قد أصبح حقائق في أواخر القرن العشرين.) . وعلى العكس من ذلك الصعود إلى قرص الشمس في كبد السماء فإنه غير ممكن علمياً ، بمعنى أن العلم لا أمل له في وقوع ذلك ، إذ لا يتصور علمياً ، وتجريبيأ إمكانية صنع ذلك الدرع الواقي من الاحتراق بحرارة الشمس ، التي تمثل أیونأ هائلأ مستعرأ بأعلى درجة تخطر على بال إنسان.

وأقصد بالإمكان المنطقي أو الفلسفي : أن لا يوجد لدى العقل وفق ما يدركه من قوانين قَبْلية ـ أي سابقة على التجربة ـ ما يبرر رفض الشيء والحكم باستحالته .

فوجود ثلاث برتقالات تنقسم بالتساوي وبدون كسر إلى نصفين ليس له إمكان منطتي ؟ لأن العقل يدرك ـ قبل أن يمارس أي تجربةـ أن الثلاثة عدد فردي وليس زوجاً ، فلا يمكن أن تنقسم بالتساوي ؟ لأن انقسامها بالتساوي يعني كونها زوجاً ، فتكون فردأ وزوجاً في وقت واحد ، وهذا تناقض ، والتناقض مستحيل منطقيأ. ولكن دخول الإنسان في النار دون أن يحترق ، وصعوده للشمس دون أن تحرقه الشمس بحرارتها ليس مستحيلاً من الناحية المنطقية ، إذ لا تناقض في افتراض أن الحرارة لا تتسرب من الجسم الأكثر حرارة إلى الجسم الأقل حرارة ، وإئما هو مخالف للتجربة التي أثبتت تسرب الحرارة من الجسم الأكثر حرارة إلى الجسم الأقل حرارة إلى أن يتساوى الجسمان في الحرارة.

وهكذا نعرف أن الإمكان المنطقي أوسع دائرة من الإمكان العلمي ، وهذا أوسع دائرة من الإمكان العملي.

ولا شک في أن امتداد عمر الإنسان آلاف السنين ممكن منطقيأ ؟ لأن ذلك ليس مستحيلاً من وجهة نظر عقلية تجريدية ، ولا يوجد في افتراض من هذا القبيل أي تناقض ؟ لأن الحياة كمفهوم لا تستبطن الموت السريع ، ولا نقاش في ذلك.

كما لا شكّ أيضأ ولا نقاش في أن هذا العمر الطويل ليس ممكنأ إمكانأ عمليأ ، على نحو الإمكانات العملية للنزول إلى قاع البحر أو الصعود إلى القمر ، ذلك لأن العلم بوسائله وأدواته الحاضرة فعلاً ، والمتاحة من خلال التجربة البشرية المعاصرة ، لا تستطيع أن تمدد عمر الإنسان مئات السنين ، ولهذا نجد أن أكثر الناس حرصأ على الحياة وقدرة على تسخير إمكانات العلم ، لا يحتاح لهم من العمر إلاّ بقدر ما هو مألوف.

وأما الإمكان العلمي فلا يوجد عملياً اليوم ما يبرر رفض ذلك من الناحية النظرية. وهذا بحث يتصل في الحقيقة بنوعية التفسير الفسلجي لظاهرة الشيخوخة والهرم لدى الإنسان ، فهل تعبز هذه الظاهرة عن قانون طبيعي يفرض على أنسجة جسم الإنسان وخلاياه ـ بعد أن تبلغ قمة نموها ـ أن تتصلب بالتدريج وتصبح أقل كفاءة للاستمرار في العمل ، إلى أن تتعطل في لحظة معينة ، حتى لو عزلناها عن تأثير أي عامل خارجي ؟ أو أن هذا التصلب وهذا التناقص في كفاءة الأنسجة والخلايا الجسمية للقيام بأدوارها الفسيولوجية ، نتيجة صراع مع عوامل خابىجية كالميكروبات أو التسمم الذي يتسرب إلى الجسم من خلال ما يتناوله من غذاء مكثف ؟ أو ما يقوم به من عمل مكثف أو أي عامل آخر ؟

وهذا سؤال يطرحه العلم اليوم على نفسه ، وهو جاد في الإجابة عنه ، ولا يزال للسؤال أكثر من جواب على الصعيد العلمي.

فإذا أخذنا بوجهة النظر العلمية التي تتجه إلى تفسير الشيخوخة والضعف الهرمي ، بوصفه نتيجة صراع واحتكاك مع مؤثرات خارجية معينة ، فهذا يعني أن بالإمكان نظرياً ، إذا عُزلت الأنسجة التي يتكون منها جسم الإنسان عن تلك المؤثرات المعيّنة ، أن تمتد بها الحياة وتتجاوز ظاهرة الشيخوخة وتتغلب عليها نهائياً.

وإذا أخذنا بوجهة النظر الأخرى ، التي تميل إلى افتراض الشيخوخة قانوناً طبيعياً للخلايا والأنسجة الحيّة نفسها ، بمعنى أنها تحمل في أحشائها بذرة فنائها المحتوم ، مروراً بمرحلة الهرم والشيخوخة وانتهاءً بالموت.

أقول :

إذا أخذنا بوجهة النظر هذه ، فليس معنى هذا عدم افتراض أي مرونة في هذا القانون الطبيعي ، بل هو ـ على افتراض وجوده ـ قانون مرن ؛ لأننا نجد في حياتنا الاعتيادية ؟ ولأن العلماء يشاهدون في مختبراتهم العلمية ، أن الشيخوخة كظاهرة فسيولوجية لا زمنية ، قد تأتي مبكرة ، وقد تتأخر ولا تظهر إلأ في فترة متأخرة ، حتى إن الرجل قد يكون طاعنأ في السن ولكنه يملك أعضاء لينة ، ولا تبدو عليه أعراض الشيخوخة كما نصّ على ذلك الأطباء (يؤكد الأطباء والدراسات الطبية على هذه الملاحظة ، وأن لديهم مشاهدات كثيرة في هذا المجال ، ولعل هذا هو الذي دفعهم إلى إجراء محاولات وتجارب لإطالة العمر الطبيعي للإنسان ، وكالمعتاد كان مسرح التجربة في البداية هي الحيوانات لميسورية ذلك ، وعدم وجود محاذير اخرى تمنع إجراء مثل تلك التجارب على الإنسان ).

بل إن العلماء استطاعوا عمليأ أن يستفيدوا من مرونة ذلك القانون الطبيعي المفترض ، فأطالوا عمر بعض الحيوانات مئات المرات بالنسبة إلى أعمارها الطبيعية ؟ وذلك بخلق ظروف وعوامل تؤجل فاعلية قانون الشيخوخة .

وبهذا يثبت عملياً أن تأجيل هذا القانون بخلق ظروف وعوامل معيّنة أمر ممكن عملياً ، ولئن لم يتح للعلم أن يمارس فعلاً هذا التأجيل بالنسبة إلى كائنٍ معقد معين كالإنسان ، فليس ذلك إلاّ لفارق درجة بين صعوبة هذه الممارسة بالنسبة إلى الإنسان وصعوبتها بالنسبة إلى أحياء أخرى . وهذا يعني أن العلم من الناحية النظرية وبقدر ما تشير إليه انجاهاته المتحركة لا يوجد فيه أبداً ما يرفض إمكانية إطالة عمر الإنسان ، سواء فشرنا الشيخوخة بوصفها نتاج صراع واحتكاك مع مؤثرات خارجية أو نتاج قانون طبيعي للخليّة الحيّة نفسها يسير بها نحو الفناء.

ويتلخص من ذلك : أن طول عمر الإنسان وبقاءه قروناً متعددة أمر ممكن منطقياً وممكن عملياً ، ولكنه لا يزال غير ممكن عملياً ، إلاّ أن اتجاه العلم سائر في طريق تحقيق هذا الإمكان عبر طريق طويل.

وعلى هذا الضوء نتناول عمر المهدي عليه الصلاة والسلام وما أحيط به من استفهام أو استغراب ، ونلاحظ :

إنه بعد أن ثبت إمكان هذا العمر الطويل منطقياً وعلمياً ، وثبت أن العلم سائر في طريق تحويل الإمكان النظري إلى إمكان عملي تدريجأ ، لا يبقى للاستغراب محتوىً إلاّ استبعاد أن يسبق المهدي العلم نفسه ، فيتحول الإمكان النظري إلى إمكان عملي في شخصه قبل أن يصل العلم في تطوره إلى مستوى القدرة الفعلية على هذا التحويل ، فهو نظير من يسبق العلم في اكتشاف دواء ذات السحايا أو دواء السرطان.

وإذا كانت المسألة هي أنه كيف سبق الإسلام ـ الذي صمّم عمر هذا القائد المنتظر ـ حركة العلم في مجال هذا التحويل ؟

فالجواب : أنه ليس ذلك هو المجال الوحيد الذي سبق فيه الإسلام حركة العلم.

أوليست الشريعة الإسلامية ككل قد سبقت حركة العلم والتطور الطبيعي للفكر الإنساني قروناً عديدة ؟

أوَلم تناد بشعارات طرحت خططاً للتطبيق لم ينضج الإنسان للتوصل إليها في حركته المستقلة إلاّ بعد مئات السنين ؟

أوَلم تأت بتشريعات في غاية الحكة ، لم يستطع الإنسان أن يدرك أسرارها ووجه الحكة فيها إلأ قبل برهة وجيزة من الزمن ؟

أوَلم تكشف رسالة السماء أسراراً من الكون لم تكن تخطر على بال إنسان ، ثم جاء العلم ليثبتها ويدعمها ؟

فإذا كنا نؤمن بهذا كله ، فلماذا نستكثر على مرسل هذه الرسالة ـ سبحانه وتعالى ـ أن يسبق العلم في تصميم عمر المهدي ؟

وأنا هنا لم أتكلم إلأ عن مظاهر السبق التي نستطيع أن نحسّها نحن بصورة مباشرة ، ويمكن أن نضيف إلى ذلك مظاهر السبق التي تحذثنا بها رسالة السماء نفسها. (7)

ومثال ذلك أنها تخبرنا بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أسري به ليلأ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، وهذا الإسراء إذا أردنا أن نفهمه في إطار القوانين الطبيعية ، فهو يعبز عن الاستفادة من القوانين الطبيعية بشكل لم يتح للعلم أن يُحقّقه إلأ بعد مئات السنين ، فنفس الخبرة الربانية التي أتاحت للرسول صلى الله عليه وآله وسلم التحرك السريع قبل أن يتاح للعلم تحقيق ذلك ، أتاحت لآخر خلفائه المنصوصين العمر المديد ، قبل أن يتاح للعلم تحقيق ذلك.

نعم ، هذا العمر المديد الذي منحه الله تعالى للمنقذ المنتظر يبدو غريبأ في حدود المألوف حتى اليوم في حياة الناس ، وفي ما أنجز فعلاً من تجارب العلماء ، ولكن!

أو ليس الدور التغييري الحاسم الذي أُعدّ له هذا المنقذ غريبأ في حدود المألوف في حياة الناس ، وما مزت جمعهم من تطورات التاريخ؟

أو ليس قد أنيط به تغيير العالم ، وإعادة بنائه الحضاري من جديد على أساس الحق والعدل ؟

فلماذا نستغرب إذا اتّسم التحضير لهذا الدور الكبير ببعض الظواهر الغريبة والخارجة عن المألوف كطول عمر المنقذ المنتظر ؟ فإن غرابة هذه الظواهر وخروجها عن المألوف مهما كان شديداً ، لا يفوق بحال غرابة نفس الدور العظيم الذي يجب على اليوم الموعود إنجازه. فإذا كنا نستسيغ ذلك الدور الفريد تاريخيأ على الرغم من أنه لا يوجد دور مناظر له في تاريخ الإنسان ، فلماذا لا نستسيغ ذلك العمر المديد الذي لا نجد عمرأ مناظرأ له في حياتنا المألوفة ؟

ولا أدري!

هل هي صدفة أن يقوم شخصان فقط بتفريغ الحضارة الإنسانية من محتواها الفاسد وبنائها من جديد ، فيكون لكل منهما عمر مديد يزيد على أعمارنا الاعتيادية أضعافاً مضاعفة ؟

أحدهما مارس دوره في ماضي البشرية وهو النبي نوح ، الذي نصّ القرآن الكريم (8) على أنه مكث في قومه ألف سنة إلاّ خمسين عاماً ، وقدّر له من خلال الطوفان أن يبني العالم من جديد .

والآخر يمارس دوره في مستقبل البشرية وهو المهدي الذي مكث في قومه حتى الآن أكثر من ألف عام وسيقدّر له في اليوم الموعود أن يبني العالم من جديد .

فلماذا نقبل نوح الذي ناهز ألف عام على أقل تقدير ولا نقبل المهدي ؟

السؤال موجّه إلى المسلمين المؤمنين بالقرآن الكريم وبالحديت النبوي الشريف ، وقد روى علماء السنّة لغير نوح ما هو أكثر من ذلك (9) ، ولايصخ أن يشكل أحد بأن ذاك أخبر به القرآن فالنمق قطعي الثبوت ، وهو يتعلق بالنبى المرسل نوح عليه السلام ، أما هنا فليس لدينا نصّ قطعي ، ولا الأمر متعلق بنبيّ .

والجواب : أن المهمة أولأ واحدة ، وهي تغيير الظلم والفساد ، وأن الوظيفة كما أوكلت إلى النبي ، فقد اوكلت هنا إلى من اختاره الله تعالى أيضأكما هو لسان الروايات الصحيحة. قال الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم : « لَوْ لَمْ يَبِقْ مِنَ الدنيا إلاّ يومٌ لطوّل اللهُ ذلك اليَوم حتّى يَبعثَ رَجُلاً مِنْ أهلِ بيتي يملأ الأرضَ قِسْطاً وَعدلاً ...»(10).

المصادر:

1- التاج الجامع للأصول 5 : 343.

2- الاحتجاج / الطبرسي 2 : 545 .

3- التاج الجامع للأصول 5 : 360 ا

4- الشيخ المفيد في الإرشاد : ص 346 ، والشيخ السعران في اليواقيت والجواهر ج 2 / المبحث 65 ، الأصول العامة للفقه المقارن / العلامة محمد تقي الحكيم / بحث حجية السنّة : ص 145 وما بعدها.

5- التاج الجامع للأصول 5 : 341 ـ 343.

6- التاج الجامع للأصول 5 : 361.

7- تساؤولات يثيرها الشهيد السيد محمد باقر الصدر رضي الله عنه لتقريب المفهوم .

8- الآية المباركة : (فَلَبثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً) العنكبوت : 14.

9- تهذيب الأسماء واللغات / النووي 1 : 176

10- التاج الجامع للأصول 5 : 343

قراءة 1750 مرة