عندما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً مع أصحابه، مرّ بهم شابّ يرعى غنماً، فقال أحد الجالسين: يا رسول الله، لو أنّ هذا الشابّ أفنى شبابه في سبيل الله؟ فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: فلعلّه في سبيل الله وأنت لا تعلم... ثم دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم الشابّ وسأله: هل لك من تعول؟ فقال: نعم يا رسول الله، أعول أمّي وأرعاها، فقال له الرّسول: الزمها، فإنّ الجنّة عند رجليها، فالجنّة تحت أقدام الأمّهات.
الإسلام يكرّم الأمّ
لقد كرَّم الإسلام الأمّ منذ بزوغ فجره، كرّمها قبل أن تولد، عندما دافع عن حقّها في الوجود كونها أنثى، وحارب عادة وأد البنات، وأكثر من هذا، حدَّد موقعها بين الأولاد، فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير أولادكم البنات».
ثم كرَّمها، فدعا إلى رعايتها وتعليمها وتربيتها، وعدم المسّ بإنسانيّتها، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كانت له ابنة فأدّبها فأحسن تأديبها، وربّاها فأحسن تربيتها، وعلّمها فأحسن تعليمها، ولم يفضّل ولده الذّكر عليها، كانت له ستراً ووقايةً من النّار»
وكرَّمها الإسلام كزوجة، عندما رفع دورها إلى مستوى الجهاد: «جهاد المرأة حسن التبعّل»، وحوَّل بيتها إلى مسجد: «مسجد المرأة بيتها»، وكرَّمها كإنسانةٍ فاعلة في المجتمع، لها حقوق وعليها واجبات، فهي ترث وتتملّك وتشارك في العمل السياسي والديني والجهادي وغير ذلك... وساوى بينها وبين الرّجل في الواجبات، فلا تمايز بينهما عند الله إلا بالتّقوى.
ونصل إلى أعلى وسام في تكريم الإسلام للمرأة، عندما كرّمها كأمّ، فرفعها إلى مكانٍ لا يبلغه الرّجل.. وهذا الحديث الّذي نردّده دائماً: «جاء رجل يسأل رسول الله عمّن هو أحقّ ببرّه(بإحسانه)،فقال: أمّك. قال: ثم من؟ قال: أمّك. قال: ثم من؟ قال: أمّك. قال: ثم من؟ قال: أبوك».
وعنه صلى الله عليه وسلم أنَّ: رجلاً كان يحمل أمّه خلال تأديته مناسك الحجّ وهي على ظهره... وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله بعد كلّ هذا الجهد: هل أدّيت حقّها يا رسول الله؟ فقال له النبيّصلى الله عليه وسلم: «لا، ولا بزفرة واحدة».
رسالة الأمومة
لقد قيل الكثير في العظماء، ولكنَّ الأمّ كانت على مرّ العصور صانعة مجد العظماء، تعطي لأنّها تعلّمت العطاء من العطاء، وتجاهد حتّى صارت هي الجهاد، وتصبر حتّى صارت هي الصّبر، وتضحّي حتّى صارت هي التّضحية، ولا تُذكر حتّى تُستحضر معها كلّ هذه المعاني، وكلّ غايتها أن ينهض هذا الكائن الّذي جاور قلبها تسعة أشهر، فينتصر على الجوع والخوف والضّعف وينطلق في معارج الحياة...
والأمومة هي رسالة أكثر منها وظيفة، ولا يمكن أن تؤدّيها الأمّ إلا إذا ضحّت، والأمّ في كلّ عملها لا تنتظر أجراً أو ثناءً أو حمداً، ولكنّ الإسلام لم يترك الأمر، بل أوجب لها حقّاً. ولكن، أنّى يُؤدّى حقّ الأمّ هذا؟ القضيّة ليست مالاً مقابل مال، أو إطعاماً مقابل إطعام، أو كسوةً مقابل كسوة، فالموضوع هو أكبر من هذا.
فالأمومة هي معادلة فريدة غير اعتياديّة؛ هي خلطة سحريّة أوجدها الله غريزةً لتضخّ في الحياة كلّ هذا الفيض من الحبّ والحنان والعاطفة...
وقد حدّد الإمام زين العابدين(ع) في رسالة الحقوق حقّ الأمّ، وعلّل لماذا: «وحقّ أمّك أن تعلم أنّها حملتك حيث لا يحمل أحد أحداً، وأعطتك من ثمرة قلبها ما لا يعطي أحد أحداً، فرضيتْ أن تشبع وتجوع هي، وتكسوك وتعرى، وترويك وتظمأ، وتظلّلك وتضحى، وتنعمك ببؤسها وتُلذذك النّوم بأرقها، وكان بطنها لك وعاءً، وحجرها لك حواءً، تباشر حرّ الدّنيا وبردها لك، فإنّك لا تطيق شكرها إلا بعون الله وتوفيقه».
إنّ الأمومة سلوك ومسؤوليّة يتجسّدان في مهمّات تبدأ بالتغذية والعناية والحماية والاحتضان، ولا تنتهي بالتّربية والتّوجيه والتعلّم والبناء.. وما ستزرعه الأمّ في طفلها، ستظهر مواسمه على بيادر الأسرة والمجتمع، فمستقبله يصبح صنع أمّه، ومهما يفعل الأب، فإنّه لا يستطيع أن يجعل ابنه رجلاً إلا إذا كان للأمّ اليد الطولى في ذلك، فالرّجال الرّجال من صنعتهم أمّهاتهم.
ظاهرةٌ تشوِّهُ دورَ الأمّ
إنّ نظرةً إلى واقع الأمّ اليوم، يرينا أنّ خللاً يعاني منه المجتمع، هو في التّشويه الّذي يطال دورها كأمّ ويطال مفهوم الأمومة تحديداً الّذي صار بحاجةٍ إلى إعادة بلورة، وإلى قناعة من المرأة بدور الأمومة والاعتراف بأهميّته.
نقول هذا في ظلّ ظاهرة عاملات تدبير المنازل، وعدم وجود حدود فاصلة بين دورهنّ ودور الأمّ، حيث نرى في الكثير من الحالات تسليماً من الأمّهات بترك مهام التّربية والرّعاية لأولئك الطّارئات في حياة الطّفل، واللاتي قد لا تكوننّ جديرات بحمل هذه المسؤوليّة، بل قد يصبحن مشكلةً له وللأسرة. إنّنا في ظلّ نمط العيش الحاليّ، والضّغوطات الاقتصاديّة، وعمل المرأة خارج البيت، لا نقف موقفاً سلبيّاً من مساعدات العمل المنزلي، ولا نطلب من الأمّ أن تكون ذات قوّة خارقة، بل ما نقصده، أن تبقى الأدوار مفصولةً ومحدّدة، فتربية الأولاد وبناء شخصيّاتهم هو ما نريده للأم أن تحتفظ به لنفسها، فهي من يمكنها القيام بهذا الدّور، فالطفل فلذة كبدها، ولن يكون أحد أرفق وأحرص على مصلحته منها.. أمّا تخلّيها عن الأدوار الخدماتيّة (غسل وتنظيف وترتيب) فلا مشكلة، بل على العكس، على الأمّ أن تستفيد ممن تساعدها، لا لتُشغل بأمور أخرى، بل لتتفرّغ لدورٍ أساسيّ: التربية ثم التربية ثم التربية..
النّقطة الثانية في موضوع الأمومة، هي صعوبة هذا الدّور اليوم، إذ لم تعد التّربية أمراً سهلاً، ولم يعد بإمكان الأمّ أن تؤدّيه كيفما كان، أو بالأسلوب الّذي اعتادت عليه عند أهلها ومجتمعها، فلا الضّغوط الاجتماعيّة والحياتيّة الّتي تواجهها هي نفسها الّتي كانت تعيشها الأمّهات سابقاً، ولا الأولاد هم ذاتهم أولاد الزّمن الماضي، يؤمرون فيطيعون ويذعنون، ولا الظّروف هي الظروف نفسها، ولا التحدّيات هي التحديات ذاته
لذلك، نجد هذا الشّعور بالقصور والإحباط لدى الكثير من الأمّهات، في عدم قدرتهنّ على فهم أولادهنّ ومتابعتهنّ، أضف إليه قلّة الصّبر.
من هنا، باتت الحاجة ماسّةً إلى أن تقوم الأمّ اليوم بتحديد أولويّاتها، وتأهيل نفسها لأداء هذا الدّور الكبير، كي تعيش عصر أولادها، لكنّ هذا الدّور لا يمكنها أن تقوم به وحدها، فلا بدّ للأب من أن يُشاركها فيه، كونه الشّريك الأساس معها في العملية التربويّة...
تعزيز حضور الأمّ
وتبقى نقطة، وهي المسؤوليَّة العامَّة الّتي تقع على عاتق المجتمع، من مؤسَّسات تربويَّة وجمعيَّات أهليَّة وعلماء دين وموجّهين، ولا سيَّما وسائل الإعلام، وهي تعزيز حضور الأمّ كموقعٍ وكدورٍ ورسالة، عبر التّثقيف والتّوجيه، خشية أن يصيبنا الدّاء الّذي أصاب الغرب بتخلّي أبنائه عن أمّهاتهم عندما يكبرن، حيث بات الكبار بالسّنّ عبئاً على المجتمع، ويعيشون في وحدتهم.
إنّ موروثاتنا الدّينيّة تعيب على مجتمعنا أن تنتقل إليه هذه العدوى، وهي لن تنتقل بإذن الله، حيث تطالعنا نماذج في التّاريخ وفي الحاضر، عن أناسٍ كانوا القمّة في البر لأمّهاتهم في الحياة وبعد الممات، ونحن محصّنون بشكل كبير:
فلا يمكن لمن تربّى على: {وبالوالدين إحساناً} أن يُشعِر الأمّ بأيّ أذى ولو كان كلمة أفّ.
ولا يمكن لمن يدرك أنّ: «الجنّة تحت أقدام الأمّهات» أن يقاطعها حتّى لو كانت بنظرة مخطئة أو غير عادلة..
ولا يمكن لمن يؤمن بأن رضاها من رضى الله أن يخرج من البيت وهي ساخطة عليه.
ولا يمكن لمن يؤمن بأنّ دعاء الأمّ مستجاب بحقّ ولدها، أن لا يبذل أقصى جهده ليبقى يسمع دعاءها له بأن يرضى الله عنه، ويوفّقه ويبعد عنه أولاد السّوء.
لا يمكن لمن يعرف حجم البركة والخير من وجود الأمّ، أن لا يدعو لها بالصحّة وطول العمر، وأن تبقى تظلّله هو وأبناؤه.
مسؤوليّة الأب والدّولة
إنّ الأسرة هي المصنع الأوّل والمدرسة الأولى لإعداد الأمّهات، فحين تتحوّل الأمّ في البيت إلى إنسانة مقهورة تُظلم في حقوقها، ويُساء إليها في إنسانيّتها من قبل الأب أو غيره، فإنّه من الطّبيعيّ أن ينعكس ذلك على الدّور الّذي ينتظر منها
ولهذا، فمن مسؤوليّة الأب الحرص على أسرته وعلى بناء أولاده بناءً سليماً، وأن يعزّز بالدّرجة الأولى مكانة أمّهم في البيت، فلا يمكن لأمّ مقهورة مسلوبة الإرادة، تقضي لياليها وأيّامها في الغمّ والحزن، أن تبني شخصيّات أولادها، كما على الأب أن يكون حريصاً على توقير أمّه، ليشكّل القدوة والنّموذج العمليّ لأولاده، لتنتقل القدوة من جيل إلى جيل بالأسوة الحسنة، والحديث يقول: «برّوا آباءكم يبرّكم أبناؤكم».
وهناك نقطة عمليّة هي من مسؤوليّة الأب تحديداً، أن يضمن للأمّ حياةً كريمةً بعد مغادرته الحياة، وأن يلحظها في وصيّته بعيداً عن الواجبات الّتي فرضها الله عليه (الثّمن أو المهر). عليه هو أن يبرّئ ذمّته تجاه من بذلت حياتها معه، ومن تحمّلته في كلّ الظّروف، وعاشت معه على الحلو والمرّ، فمن حقّها عليه أن لا تضيع من بعده.
وفي هذا الصَّدد أيضاً، ندعو إذا اقتضى الأمر، أن تشرّع القوانين الّتي تضمن كرامة الأمّ في كبرها، وأن تلزم الرّجل بذلك بمقتضى شراكته مع زوجته، لأنّ شراكةً كشراكة الحياة لا يضيرها شراكة الأموال من أجل ضمان مستقبل الأمّهات...
التّكريم الدّائم
لا نريد ليوم الواحد والعشرين من شهر آذار، يوم تكريم الأمّ، أن يكون يوماً يتيماً للأمّ، فيما تعاني الظّلم والقهر والعقوق والنّسيان كلّ السّنة...
أن يكون تكريمها في كلّ يوم، بأن نقبّل يديها الطّاهرتين، أن لا نستحي من ذلك حتّى لو كبرنا، أن لا نبخل عليها بالكلمة الحنون، بنظرة حانية، بمبادرةٍ حتّى لو قست الحياة علينا بظروفها...
أن لا نكلّفها أن تسألنا شيئاً، بل أن نبادر إلى قضاء كلّ حاجاتها، أن لا تشعر الأمّ ولو للحظة بأنّ حنوّ غير أولادها وحتّى الخادمات، هو أكثر من حنوّنا عليها.
أن تبقى الأمّ في نظر أولادها هي الّتي حملتهم وربّتهم، وبفضلها بعد فضل الله وصلوا إلى ما وصلوا إليه.
أن يبقى الدّعاء:»اللّهمّ اجعلني أهابها هيبة السّلطان العسوف، وأبرّها برّ الأمّ الرؤوف، واجعل طاعتي لوالدتي وبرّي بها، أقرّ لعيني من رقدة الوسنان، وأثلج لصدري من شربة الظّمآن، حتّى أؤثر على هواي هواها، وأقدّم على رضاي رضاها، وأستكثر برّها بي وإن قلّ، وأستقلّ برّي بها وإن كثر..
اللّهمّ اخصص أمّي بأفضل ما خصصت به أمّهات عبادك المؤمنين يا ارحم الرّاحمين، اللّهم لا تنسيني ذكرها في أدبار صلواتي وفي كلّ أناء من آناء ليلي، وفي كلّ ساعة من ساعات نهاري، يا أرحم الراحمين..