التفسير نحو من التصديق، لأنّه الحكم بأنّ هذا هو معنىٰ الآية وهو مقصود الله منها، فهذا هو نوع من القضيّة والمسألة. ولذلك فإنّ علم التفسير كالعلوم الاُخرىٰ له مبادئ ومسائل، وكما سبق فإنّه ينبغي أن يؤخذ في تعريفه قيد: «بقدر الطاقة البشريّة».
وإذا أتينا إلى التفسير بالرأي فهو إمّا أن يكون بسبب «الجهل» في مقابل العلم والوعي أو بسبب «الجهالة» في مقابل العقل والورع، حيث انّ أحدهما يرجع الىٰ النقص في العقل النظريّ والآخر يرجع الىٰ النقص في العقل العمليّ. فكلُّ آية تُفسَّر خلافاً للقواعد العلميّة: ﴿يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة﴾ وخلافاً للفضائل النفسانيّة: ﴿يُزَكِّيهِم﴾ فتفسيرها تفسير بالرأي، ومن هذه الناحية لافرق بين آيات الدعوة العامّة وآيات الأحكام والمعارف الخاصّة، يعني انّ الأمر الصريح والنص والضروريّ ليس بحاجة الىٰ التفسير سواء كان من سنخ الدعوة والهداية العامّة أو كان ناظراً الىٰ بيان الأحكام الفقهيّة وأمثالها، وأمّا الأمر غير الضروريّ وإنّما هو نظريّ وغير صريح والّذي يدعوا الىٰ الإستفهام والتأمّل فهو يحتاج الىٰ التفسير، وهنا لايصحّ التفسير بالرأي.
ومن التفسير بالرأي التفسير غير المطابق لموازين ومعايير المحاورة والمفاهمة العربيّة وأيضاً غير الموافق لاُصول ولقواعد العلوم العقليّة المتعارفة وكذلك التفسير غير المنطبق مع الخطوط الكليّة للقرآن نفسه و... وامّا التفسير المنهجيّ والعلميّ المصون من الآفات والعيوب المذكورة فهو تفسير جائز وصحيح. والشاهد علىٰ اختصاص التفسير بالرأي بما ذُكر هو انّ النصوص الناهية عن التفسير بالرأي محفوفة بقرائن متعدّدة؛ لأنّه قد جاء في بعض هذه النصوص: «من فسّر القرآن برأيه فقد افترىٰ علىٰ الله الكذب ومن أفتىٰ بغير علم لعنته ملائكة السماء والارض. كلّ بدعة ضلالة وكلّ ضلالة سبيلها الىٰ النار».[1] ففي هذا الحديث جُعل التفسير بالرأي الىٰ جانب الإفتاء بغير علم، وكلاهما قد اعتبر بدعة. ومن الواضح انّ المقصود من الإفتاء بغير علم هو الإفتاء بالرأي، والاّ فإنّ المجتهد الجامع لشروط الإفتاء وإن كان يبيّن رأيه لكنّ ذلك الرأي العلميّ ليس أبداً مصداقاً للفتوىٰ بغير علم. أمّا في التفسير بالرأي فإنّ الأمر يكون بهذا الشكل.
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «قال الله جلّ جلاله: ما آمن بي من فسَّر برأيه كلامي وما عرفني من شبّهني بخلقي وما علىٰ ديني من استعمل القياس في ديني»[2]. ففي هذا الحديث جعل التفسير بالرأي الىٰ جانب تشبيه الخالق بالمخلوق وفي حكم القياس بالدين وكلا الأمرين بعيد عن العلوم المتعارفة والاُصول العلميّة البيّنة، وبالنتيجة فهما من الجهل وليسا من العلم.
وقال الإمام الصادق (عليه السلام) في جواب سؤال حول القضاء والحكومة: «من حكم برأيه بين اثنين فقد كفر ومن فسَّر برأيه آيةً من كتاب الله فقد كفر».[3] في هذا الحديث ذُكر التفسير بالرأي الىٰ جانب الحكم المستند الىٰ الجهل والهوىٰ، أي انّ قضاء الحاكم إذا لم يستند الىٰ العلم الناشئ من الأدلّة والشواهد أو الشهادة واليمين فإنّه مستند الىٰ رأي الحاكم وهواه فحسب. وتفسير القرآن بالرأي هو أيضاً بهذا المعنىٰ، فإذا لم يكن التفسير طبقاً لقانون التفاهم والمحاورة من جهة ومطابقاً للشواهد العقليّة والقرآنيّة من جهة اُخرىٰ وللشواهد الروائيّة في موضع الحاجة وعدم لزوم الدور من جهة ثالثة، فإنّه تفسير مذموم.
ومن الطبيعي أن تكون الشواهد العقليّة والأدلّة العلميّة وما يستنتجه البشر عن طريق العقل لا الوهم والخيال والقياس والظنّ، من جملة مصادر تفسير القرآن وليست جميعها. وعليه فإنّ من اللازم البحث في جميع المعارف القرآنيّة من جهة والتأمّل في جميع الأحاديث وشواهد السيرة وأسباب النزول التابعة من جهة اُخرىٰ. وبهذا تتّضح معاني بعض الأحاديث الناهية عن التفسير بالرأي.
مثلاً، ماجاء عن الإمام الصادق(عليه السلام) من قوله: «ليس شيء أبعد من عقول الرجال منه [القرآن] إنّ الآية لتنزل أوّلها في شيء وأوسطها في شيء وآخرها في شيء وهو كلام متّصل ينصرف علىٰ وجوه».[4] ناظر إلىٰ النهي عن الإستبداد في الرأي في فهم القرآن أو البحث عن كنه وباطن الآيات، أي لايحقّ لأيّ مفسِّر أن يفسّر آية من القرآن اعتماداً علىٰ الشواهد العلميّة والبراهين العقليّة وحدها، ويغفل عن الشواهد النقليّة الأعمّ من القرآنيّة والروائيّة والتاريخيّة، أو أن يقول بالجمع بين الأدلّة العقليّة والنقليّة ويدّعي التوصّل الىٰ معرفة كُنه الآيات ويقول: انّ رأيي موافق لبواطن وأعماق المقصود القرآنيّ. إذاً فمثل هذه الروايات ليست هي بصدد النهي عن أصل التفسير العلميّ ولا تهدف الىٰ منع حجيّة ظواهر القرآن. وكما اُشير سابقاً وهو يظهر أيضاً من التشبيه بالقضاء فإنّ حكم التفسير بالرأي كحكم القضاء بالرأي بين المتخاصمين، إذ انّ هذا الرأي حتّىٰ لو صادف الواقع أيضاً فهو علىٰ الرغم من انّه حكم ذو حُسن فعليّ لكنّ القاضي الجاهل بسبب فقدانه الحسن الفاعليّ ولأجل تجرّيه الوقيح وتجاسره القبيح يستحقّ الجزاء الإلهيّ والعقوبة بالنار. وكذلك حكم التفسير بالرأي. فقد جاء في خصوص باب القضاء: «رجل قضىٰ بحقّ وهو لايعلم فهو في النار»[5] فإذا ما ارتقىٰ رجل سُدّةَ القضاء ظُلماً وزوراً وراح يقضي ويحكم عن جهل فهو من أهل جهنّم، وإن كان حكمه مطابقاً للواقع. نعم يمكن أن تكون عقوبة مثل هذا الحاكم أقلّ من عقوبة الحاكم الّذي يتولّىٰ منصب القضاء بغير علم ويحكم خلاف الواقع أيضاً. وفي مسألة التفسير بالرأي يوجد مثل هذا الفرق أيضاً، ولكنّ أصل الحرمة الفقهيّة وجهنّم الكلاميّة باقية في محلّها. والسبب في منع القضاء بدون علم والتفسير بالرأي هو المبادرة مع الجهل، سواء كان هناك علم بالخلاف أم لا. طبعاً إذا كان لدىٰ مثل هذا المفسِّر علم بالخلاف فإنّ وزره سيغدو أكبر وعقوبته مضاعفة.
* آية الله الشيخ جوادي آملي - بتصرّف
[1] . تفسير البرهان، ج1، ص18.
[2] . تفسير البرهان، ج1، ص18.
[3] . نفس المصدر، ص19.
[4] . تفسير البرهان، ج1، ص19.
[5] . البحار، ج75، ص247.