لقد كان الأئمّة عليهم السلام يسعون دائمًا لتشكيل الحكومة الإسلاميّة، وعندما استُشهد الإمام الحسين عليه السلام في واقعة كربلاء، وأُسر الإمام السجّاد عليه السلام، وهو في تلك الحالة من المرض، فمنذ تلك اللحظة، بدأت في الحقيقة مسؤولية الإمام السجّاد عليه السلام. ولو قُدّر في ذلك التاريخ أن ينجح الإمام الحسن والإمام الحسين عليهما السلام في تأمين ذلك المستقبل، لقام الإمام السجّاد عليه السلام في ذلك الوقت بالتحديد بهذا الأمر، ومن بعده الأئمّة الباقون عليهم السلام.
1- الهدف البعيد المدى:
بناءً عليه، ينبغي أن نبحث في مجمل حياة الإمام السجّاد عليه السلام عن هذا الهدف الكلّي، والمنهج الأصليّ، وأن نعرف دون شك أنّ الإمام السجّاد عليه السلام كان يسعى لأجل تحقيق ذلك الهدف الّذي كان يسعى لأجله الإمام الحسن والإمام الحسين عليهما السلام.
كان الإمام السجّاد عليه السلام، في الفترة ما بين تسلّمه للإمامة منذ عاشوراء 61 هـ، وبين استشهاده مسمومًا عام 94 هـ، يُتابع مسؤوليّة تحقّق ذلك الهدف، وهو عبارة عن إقامة حكومة الله على الأرض، وتطبيق الإسلام، وقد استفاد من أنضج وأفضل الوسائل، وتقدّم بالقافلة الإسلاميّة، الّتي كانت بعد واقعة عاشوراء في تشرذمٍ وتفرّق مهول، وأنجز مهمّته العظمى ومسؤوليّته الأصيلة، والّتي قام بها أئمّتنا كلّهم، والأنبياء والصّالحون جميعهم، مراعيًا أصول السّياسة والشّجاعة والدقّة في الأعمال. وبعد 35 سنة من الجهاد المستمرّ، الّذي لم يعرف الرّاحة أبدًا، رحل عن الدّنيا كريمًا مرفوع الرّأس، موكلًا حمل ثقل الرّسالة من بعده إلى الإمام الباقر عليه السلام.
إنّ انتقال الإمامة إلى الإمام الباقر عليه السلام، وهي تحمل مهمّة إقامة حكومة الله على الأرض، تظهر بصورةٍ واضحة في الرّوايات. ففي رواية، نجد أنّ الإمام السّجّاد عليه السلام يجمع أبناءه، مشيرًا إلى محمّد بن علي الباقر عليه السلام، ويقول: "... إحمل هذا الصندوق...، وحينما فتح الصّندوق، كان فيه سلاح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكتبه"1.
لعلّ ذلك السّلاح يرمز إلى القيادة الثّوريّة، وذلك الكتاب يرمز إلى الفكر والعقيدة الإسلاميّة، وقد أودعهما الإمامُ السجّاد عليه السلام الإمامَ الّذي سيأتي من بعده، مودّعًا الدّنيا، راحلًا إلى جوار الرّحمة الإلهيّة، بنفسٍ مطمئنّة، ووجدانٍ هادئ، ورأسٍ مرفوع.
2- الأهداف القصيرة المدى:
ممّا لا شكّ فيه أنّ الهدف النهائيّ للسّجاد عليه السلام كان إيجاد الحكومة الإسلاميّة. ولكن كيف يمكن أن تُقام الحكومة الإسلاميّة في مثل تلك الظّروف؟ إنّ هذا يحتاج إلى عدّة أمور:
أ- تدوين الفكر الإسلاميّ بصورة صحيحة، وطبق ما أنزل الله، بعد مرور أزمنة من التحريف والنسيان عليه.
ب- إثبات أحقّية أهل البيت (عليه السلام) في الخلافة والولاية والإمامة.
ج- إيجاد التشكيلات المنسجمة لأتباع أهل البيت عليهم السلام، وأتباع التشيّع.
هذه الأعمال والأهداف الثلاثة الأساس هي الّتي ينبغي أن ندرسها ونبحث فيها، لنرى أيّ واحد منها قد تحقّق في حياة الإمام السجّاد عليه السلام.
إلى جانب هذه الأعمال، كان هناك أعمال أخرى هامشيّة أو ضمنيّة، وتحرّكات قام بها الإمام وأتباعه لأجل اختراق ذلك الجوّ المرعب والقمعيّ. ففي ظلّ الإجراءات الأمنية المشدّدة الّتي كان يفرضها الحكم، نلاحظ مواقف عديدة للإمام عليه السلام أو أتباعه، كان الهدف منها كسر حواجز القمع، وصناعة بعض الأجواء الملائمة واللطيفة، خاصّة مع الأجهزة الحاكمة أو التابعة لها، مثل المواقف الّتي حدثت بين الإمام عليه السلام وبين عبد الملك عدّة مرات، أو الأمور الّتي جرت مع العلماء المنحرفين والتّابعين لعبد الملك (من قبيل محمّد بن شهاب الزهريّ). كلّ ذلك لأجل خرق ذلك الجوّ المتشدّد.
إنّ الباحث عندما يستعرض الرّوايات، سواء الأخلاقيّة منها أو المواعظ أو الرّسائل الّتي نقلت عن الإمام، أو المواقف الّتي صدرت عنه، وذلك على أساس ما بيّناه، فإنّه سوف يجد لها المعاني المناسبة. وبتعبيرٍ آخر، سوف يرى أنّ جميع تلك التحرّكات والأقوال كانت ضمن الخطوط الثّلاثة الّتي أشرنا إليها، والّتي كانت تصبّ جميعًا في دائرة إقامة الحكومة الإسلاميّة. وبالتأكيد لم يكن الإمام يُفكّر في إيجاد حكومة إسلاميّة في زمانه، لأنّه كان يعلم أنّ وقتها في المستقبل، أي، في الحقيقة، في عصر الإمام الصادق عليه السلام2.
فبهذه الأعمال الثّلاثة سوف تتهيّأ أرضيّة إقامة الحكومة الإسلاميّة، والنّظام العلَويّ. لقد ذكرتُ سابقًا، وأؤكّد على ذلك الآن أيضًا، أنّ الإمام السجّاد عليه السلام لم يكن يرى أنّه سيتمّ تحقيق الحكومة الإسلاميّة في زمانه (وهذا بخلاف ما عمل لأجله الإمام الصادق عليه السلام في زمانه)، فقد كان معلومًا بأنّ الأرضيّة في عصر الإمام السجّاد عليه السلام لم تكن معَدّة لذلك، وكان حجم الظّلم والقمع والجهل كبيرًا إلى درجة يصعب معها إزالتهم خلال هذه السّنوات الثلاثين، فكان الإمام السجّاد عليه السلام يعمل للمستقبل. ومن خلال القرائن العديدة، نفهم أيضًا أنّ الإمام الباقر عليه السلام لم يكن يهدف إلى إقامة حكومة إسلاميّة في زمانه، أي أنّه منذ سنة 61 حتّى سنة 95 هـ (شهادة الإمام السجّاد عليه السلام)، ومنذ سنة 95 حتّى سنة 114 هـ (شهادة الإمام الباقر عليه السلام)، لم يكن في تصوّر أيّ منهما أنّه ستُقام هذه الحكومة في زمانه، ولهذا كانا يعملان على المدى البعيد.
* جمعية المعارف الإسلامية – بتصرّف يسير
1- محمد بن الحسن بن فروخ الصفار- ، بصائر الدرجات، تصحيح وتعليق الحاج ميرزا حسن كوجه باغي، منشورات الأعلمي ـ طهران، مطبعة الأحمدي ـ طهران، 1404هـ، ص200. عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "لما حضرتْ عليَّ بن الحسين الوفاة، وقبل ذلك أخرج سفطاً أو صندوقاً عنده فقال: يا محمد، احمل هذا الصندوق، قال: فحمل بين أربعة، قال: فلما توفي جاء إخوته يدَّعون في الصندوق، فقالوا: اعطنا نصيبنا من الصندوق، فقال: والله ما لكم فيه شيء، ولو كان لكم فيه شيء ما دفعه إليّ نقطة وكان في الصندوق سلاح رسول الله، وكتبه صلى الله عليه وآله وسلم ".
2- مجلة باسدار إسلام، 8.