العدل له وجود تكويني
إنّ العدل من أصول الدين، وهل من الممكن أن تكون أصول الدين أموراً اعتبارية؟! والعدل الذي هو صفة من صفات الله، هل من الصحيح أن تكون هذه الصفة أمراً اعتبارياً؟! بل صفات الله أُمور تكوينية، إذا كان في صميم اعتقادنا وبداية رؤيتنا أنّ العدل صفة كعلم الله وكحياة الله وكقدرة الله وغيرها من الصفات الفعلية والذاتية هذه الصفات من صميم التكوين، إذن العدل له وجود تكويني، كما في منطق أهل البيت(عليهم السلام) الذي يقول: "بالعدل قامت السماوات والأرض"[1].
المدح الصادق يلازم الكمال، والذم الصادق يلازم النقص
المدح غير الكمال هذه المغالطة طرحها الأشعري، وهل يمكن للإنسان أن يمدح النقص؟! وهذا يستلزم أن ننكر الكمال وننكر النقص، وننكر كلّ هذه الأُمور الخارجية، وكذلك الأمر بالنسبة للذم فلا يمكن أن نفكّك بين الذم والنقص، الإنسان يدرك الكمال، ومن ثمّ ينجذب المدح للكمال، والمدح يعتبر إخباراً صادقاً عن الكمال، هذا إذا كان المدح صادقاً، أمّا إذا كان كاذباً فهو ليس كذلك، والمدح الصادق يعبّر عن تقرير علمي مطابق للحقيقة، والمدح معلومة من المعلومات تنبىء عن الكمال، والذم الحقيقي هو معلومة صادقة تُنبىء عن النقص.
الحقوق الإلهية قبل سن القانون
والذين قالوا: إنّ من دون القانون لا ترسم الحقوق، ومن دون رسم منظومة الحقوق لا يستتب العدل، كلامهم هذا ينطوي على مغالطة ناشئة من وجود حقوق اعتبارية بعد رسم منظومة القانون، يعني: وليدة للقانون، لكن هناك منظومة للحقوق هي في الواقع قبل القانون، يعني: حقوق إلهية تكوينية.
لابدّ من نظرة شاملة لحقوق الإنسان
نحن لسنا ماديين حتّى نحصر الحقوق في حقوق الطبيعة، ولسنا غرائزيين وجنسيين حتّى نحصر الحقوق في الحقوق الغرائزية، بل نسلّم برؤية تكوينية بأنّ الإنسان ذو طبقات متعدّدة، فيه الغرائز الجنسية، وفيه العقل، وفيه الوهم، وفيه الخيال، وفيه القلب، وفيه الضمير، وفيه الوجدان، وهو شبيه بمنبنى ذي طبقات، وكلّ قوّة من قوى الإنسان لها حقوق، وليس من الصحيح أن ننظر إلى طبقة من طبقات الإنسان ونهمل باقي الطبقات، وهذه الرؤية تؤثّر في أُسس الحقوق وأُسس القانون بين المدرسة الإسلامية والمدرسة الغربية، وبين المدرسة الإمامية والمدارس الأُخرى، هذه كلّها أُسس للانطلاق.
العدل في تنمية قوى الإنسان
فمثلا: من العدل أن ينمّي الإنسان كلّ قواه، ولا ينمّي قوّة على حساب القوى الأُخرى، فليس من الصحيح أن ينمّي الجانب الغريزي ويهمل الجوانب الأُخرى كالجانب العقلي ـ مثلا ـ أو إذا اهتمّ بالجانب العقلي فيجب أن يعطي الجانب الغريزي حقّه أيضاً.
هل الإنسان مركز التقنين أم الله؟
إمّا أن نجعل الإنسان مركزاً للتقنين والحقوق، أو نجعل المنطلق في تقنين الحقوق هو الله عزّ وجل، والصحيح ـ طبعاً ـ في النظر الإسلامي أن يكون المنطلق هو الله عزّ وجلّ وليس الإنسان، وهذا فرق بين الرؤية الحقوقية الإسلامية وبين الرؤية الحقوقية غير الإسلامية، أو بتعبير أدق هناك فرق بين الرؤية الحقوقية الإديانية التي تشمل اليهود والنصارى الذين من المفترض أن يجعلوا محور الحقوق هو الله تعالى، وبين المدارس الوضعية التي جعل الإنسان هو مدار الحقوق.
إهمال الماديين لروح الإنسان
ويا ليتهم يضعون الإنسان بكلّ طبقاته نصب أعينهم، بل هم يهتمّون بالطبقة البدنية من الإنسان ويهملون باقي الطبقات الروحية والعقلية، وإن كانت هناك مدارس روحية غربية قد خطت خطوات كبيرة في هذا الجانب، إلاّ أنّ هؤلاء الماديين لا يعترفون بالروح، فهم في صراع دائم مع الحالة الروحية والوجدانية، وفي سنة 2001 أعلنت الأمم المتحدة أنّ شعارها هو مقاومة الأمراض الروحية والعقلية; لأنّ أكبر نسبة من الأمراض الروحية والعقلية وقعت في الغرب بشكل مذهل وحدّث ولا حرج، والأرقام تقرأ في كلّ يوم عن الأزمات الروحية التي يمرّ بها العالم الغربي، مثل: تفشّي الجريمة، وتفكّك الأُسرة، وتقطّع الأوصال الروحية، وما شابه ذلك أرقام كبيرة.
النظرة غير المتوازنة للإنسان كارثة
ومنشأ هذه الأزمة أنّهم جعلوا مدار الحقوق هو الإنسان، مع إغفالهم لبعض طبقات الإنسان، وتركيزهم على طبقات أُخرى، إذن هناك حقوق اعتبارية، وهناك حقوق تكوينية لا تحتاج إلى تقنين.
سلبيات جعل الإنسان هو المدار في التقنين
الغرائز لها نقائص ولها كمالات، هل كمال كلّ قوّة ينكر؟ لا، هل نقص كلّ قوّة ينكر؟ لا، سواء كاف من قوى الطبيعة.
الآن هم يحاولون أن لا يجعلوا الإنسان وحده مداراً للحقوق، بل يضيفون إليه الطبيعة الخضراء والطبيعة الحيوانية والهوائية والنباتية وما يحيط بالإنسان من كائنات أُخرى في هذه المنظومة الحقوقية، ولو يفتح للإنسان الباب على مصراعيه سيدمّر الطبيعة التي تحيط به ويعيش فيها، وبالتالي سيدمّر نفسه بيده، والسبب هو عدم وجود توازن في مدار الحقوق والتقنين.
العدالة الحقوقية تكوينية وليست وليدة التقنين
إذن العدالة الحقوقية ليست وليدة التقنين، وفي الأساس العدالة الحقوقية تكوينية; ولذلك هم يلمسونها بأنفسهم بأنّ تشريع حقّ الصناعة بلغ ما بلغ سيدمّر لنا البشرية، وتشريع الاستئثار بالمال سينحر الطبقات المحرومة في المجتمع، وسيخلق الإرهابيين والعنف، وإذا جعلنا التقنين الخاضع للميول والمصالح هو المدار فعلينا أن نتحمّل التبعات والآثار السلبية، إذن العدالة لها وجود تكويني، والحقوق لها وجود تكويني.
الله جعل للإنسان المعادلة التي تحقق سعادته
العدالة هي وصول كلّ ذي كمال إلى كماله، وذو الكمال الذي نعنيه: أنّه غير متوفّر على الكمال الآن.
الله تعالى هو محور العدل; لأنّه عالم بالخلق: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[2]، الله جعل المعادلة التي توفّر السعادة للإنسان وهو أعلم بها، ومن هنا جاء الحديث الذي يقول: "لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت"[3]، وقال أبو الحسن (عليه السلام): "إنّ الأرض لا تخلو من حجّة"[4]; لأن البشر لا زالوا يعيشون النقص، ويكتشفون أنّهم مخطئون، ولكن المعصوم لا يخطىء، ولولا وحي الله والعلم اللدنّي عند الأئمة لحفظ الأرض لساخت الأرض بمن عليها.
* آية الله الشيخ محمد سند - بتصرّف
[1] تفسير كنز الدقائق 12: 553، ذيل آية {وَالَّسمَاءَ رَفَعَهَا}.
[2] الملك (67): 14.
[3] الكافي 1: 179، الحديث 10، كتاب الحجة، باب أنّ الأرض لا تخلو من حجه.
[4] الكافي 1: 179، الحديث 9، كتاب الحجة، باب أنّ الأرض لا تخلو من حجة.