السَبْق بسكون الباء هو: التقدّم...
يُقال: سَبَق إلى الشيء سبْقاً يعني: تقدّم إليه وخلَّفَ غيره.
والفضيلة: مقابل الرذيلة والنقيصة.
ومعنى الفضيلة هي الدرجة الرفيعة والمقام الرفيع.
وكذلك ما يوجب تلك الدرجة والمقام، كالإحسان إلى الخلق، وإعانة الضعيف، وكفالة اليتيم، وإغاثة الملهوف، والانتصار للمظلوم، وإطعام الطعام، ونشر العلم، وجهاد العدوّ، والمجاهدة مع النفس، وإتيان اُمور الخير، كلّ ذلك من موجبات الفضيلة.
والتسابق إلى مفاضل الأعمال، وصنائع الخيرات فضلٌ محبوب ومرغوب رُغّب فيه شرعاً وعقلاً، وكتاباً وسنّةً. قال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّـهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّـهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)[1].
وقال عزّ اسمه: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَـٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ)[2].
وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنّه قال: (مَن فُتح له بابٌ من الخير فلينتهزه، فإنّه لا يدري متى يُغلق)[3].
وعن الإمام زين العابدين عليه السلام أنّه قال: (إذا كان يوم القيامة جمع الله تبارك وتعالى الأوّلين والآخرين في صعيدٍ واحد، ثمّ ينادي منادٍ أين أهل الفضل؟
قال: فيقوم عُنقُ من الناس، فتتلقّاهم الملائكة، فيقولون: ما كان فضلكم؟ فيقولون: كنّا نصِلُ مَن قطَعَنا، ونُعطي مَن حَرَمنا، ونعفو عمّن ظَلَمنا. فيُقال لهم: صدقتم، اُدخلوا الجنّة)[4].
والمثلُ الأعلى، والقدوة الأسمى في السّبق إلى الفضائل هم أهل البيت عليهم السلام، وفيهم نزل قوله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَـٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ)[5].
فهم عليهم السلام سبقوا الناس في جميع الفضائل منذ أوّل خلقهم في عالم الذرّ، إلى آخر حياتهم في عالم الدُّنيا...
وهم السابقون إلى الله تعالى في الدُّنيا والآخرة..
سبقوا إلى الجواب ببلى، عند سؤاله تعالى: في الذرّ.
وسبقوا إلى الخيرات في الدُّنيا.
وسبقوا إلى الجنّة في الآخرة.
ومَن غير عليّ عليه السلام كان سبّاقاً إلى الفضائل؟!
أليس كان هو السابق إلى الإسلام، وكان إسلامه عن فطرة، وإسلام الناس عن كفر[6]؟
ألم يكن هو السابق إلى تفدية نفسه المباركة لرسول الله صلى الله عليه وآله في ليلة المبيت بين أربعمائة سيف من المشركين؟
وهل غيره سبق إلى الجهاد في سبيل الله، والجُهد في طاعة الله، والاجتهاد في عبادة الله؟
ولقد أجاد كافي الكفاة الصاحب بن عبّاد في وصف أمير المؤمنين عليه السلام في نثره وفي شعره.
قال في النثر الذي وصف به عليّاً وذكر نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وآله: (صنوه الذي واخاه، وأجابه حين دعاه، وصدّقه قبل الناس ولبّاه، وساعده وواساه، وشيّد الدِّين وبناه، وهَزَم الشرك وأخزاه، وبنفسه على الفراش فداه، ومانَع عنه وحماه، وأرغَمَ من عانده وقلاه، وغسله وواراه، وأدّى دَينه وقضاه، وقام بجميع ما أوصاه، ذاك أمير المؤمنين لا سواه)[7].
وهذه الدراسة تعطينا أنّ السبق إلى الفضيلة من مفاخر صفات الصالحين وسجايا المتّقين، المحبوبة عند ربّ العالمين، والشرع المبين، ومن موجبات عظيم الأجر والثواب في يوم الدِّين..
كلّ هذا مضافاً إلى نتائجه الحسنة في نفس هذه الحياة الدُّنيا، فإنّ السبق إلى الفضائل من صنائع المعروف التي تدفع مصارع السوء، وتحفظ الإنسان من البلايا العظيمة كما هو المجرّب المحسوس في قضايا المحسنين.
من ذلك ما حدّث بعض السادة الأجلّاء الثقات ما مضمونه: أنّه كان في بعض البلاد المقدّسة شخصٌ مؤمنٌ صالح، وكان رجلاً تاجراً متمكِّناً ثريّاً، يحبّ الخير، ويصنع الخير لمن يعرفه ومَن لا يعرفه، خصوصاً الزائرين.
رأى في بعض الأيّام أحد زوّار ذلك البلد المقدّس لم يحصّل على فندقٍ أو محلّ مسكنٍ يسكنه في مدّة زيارتهم هو وعائلته.
وكانت تلك الزيارة أوّل زيارتهم لذلك البلد المقدّس الذي لم يعرف فيه أحداً ولم يتعرّف على أحد.
وكانوا قد جلسوا على رصيفٍ في الطريق ينتظرون الحصول على غرفةٍ فارغة.
فصادفهم هذا التاجر المؤمن، وسألهم: لماذا أنتم جالسون هنا؟
قالوا: ننتظر الحصول على مكانٍ نستأجره ونسكنه.
فقال لهم: ـ لي بيتٌ واسع، ومكانٌ مناسب، ودارٌ مفروشة مع وجبات الطعام.
ففرحوا وأجابوا بالقبول، بعنوان أن يسكنوا في بيته، ثمّ يعطون له الاُجرة التي تدفع إلى الفنادق للسكن والطعام، ظنّاً منهم أنّ بيته معدّ لإيجار الزائرين.
فذهب بهم ذلك التاجر إلى بيته، وأكرمهم غاية الإكرام، وبقوا عنده عشرة أيّام، يخدمهم فيها بالإطعام والإكرام، بغاية الحفاوة والاحترام.
وحينما أرادوا الانصراف والرجوع إلى وطنهم حضّروا له النقود، لدفع ثمن الإيجار والوجبات الغذائيّة، لكنّه لم يقبل منهم أيّ مال، وأدنى نقود.
وبالرغم من أنّهم أصرّوا عليه كثيراً بالقبول، لم يستجب لهم ذلك، وأجابهم بأنّي آخذ ثمن الإيجار والخدمة من الإمام عليه السلام بأكثر ممّا آخذه منكم، فليطيب خاطركم بذلك.
فتشكّروا منه، وودّعوه راجعين إلى بلدهم.
ومضت على ذلك الأيّام والسنين، ثمّ إنّ ذلك التاجر حدثت له مشكلة سياسيّة أدّت إلى أن يُسجن، ويحتمل عليه الإعدام..
واُجريت عليه لقاءات مع المسؤولين، وسؤال وجواب، ورتّبت له ملفّات شدّدت عليه الأمر.
وفي آخر الأمر جاء عنده في السجن أحد المسؤولين الكبار الذي كانت له درجة عسكريّة رفيعة، وبيده ملفّةٌ كبيرة تخصّني.
فنظر إليَّ مليّاً، ثمّ سألتي ألست أنت الحاجّ فلان، من أهل مدينة كذا، وتسكن دار كذا، في محلّة كذا؟
وأنا في كلّ المسائل اُجيبه بنعم، وتخيّلت أنّه يعرف هذه الخصوصيّات من الأسئلة التي طُرحت عليَّ سابقاً..
لكنّه قال لي: أتعرفني؟
قلتُ في دهشةٍ: لا مع الأسف.
فرفع قُبّعته العسكريّة، وقال: هل عرفتني الآن؟
قلت: ملامحكم مأنوسة عندي، مَن أنتم؟
قال: أنا ذلك الشخص الذي نزلتُ مع عائلتي عندك في سنة كذا، وبقيتُ في بيتك عشرة أيّام، استضفتني فيها بكلّ كرامة.
ثمّ قال: هذه ملفّة إضبارتك التي تنتهي بإعدامك، لكن أنا اُمزّقها، واُسقط حكم الإعدام قِبال ذلك العطف والإكرام، فمزّقها أمامي وحكم بتسريحي.
فنجوت من الإعدام والسجن بفضل السبق إلى ذلك العمل الخيري الذي عملته أنا محبّةً للإمام عليه السلام وزائريه.
المصدر: أخلاق أهل البيت (عليهم السلام) - بتصرّف
[1] سورة المائدة: الآية 48.
[2] سورة الواقعة: الآيتان 10 و 11.
[3] ميزان الحكمة / ج 7 / ص 444.
[4] مستدرك السفينة / ج 8 / ص 233.
[5] تفسير الصافي / ج 5 / ص 120، وإحقاق الحقّ / ج 3 / ص 114.
[6] سُئل بعض العلماء: متى أسلم عليّ عليه السلام؟ فأجاب: ومتى كفر؟ حتّى يكون أسلم، إنّه جدّد الإسلام. فهو عليه السلام وُلد على الإيمان وفطرة الإسلام ودين رسول الله صلى الله عليه وآله، وجدّده في البعثة.
[7] الكنى والألقاب / ج 2 / ص 368.