لقد جاء القرآن الكريم مخاطبا العقل البشري، مستثيرا مكامن قدرته، محاولا أن ينفض غبار التقاليد الموروثة التي اكتسبها الانسان من آبائه ومجتمعه عنه، وليس ذلك فقط، بل نراه يعتمد كثيرا من الاشارات إلى الاستدلالات العقلية، حسبما يقتضيه المقام، من قبيل قوله تعالى "قل لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا"[1]، وقوله تعالى: "وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم، قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم"[2] وغيرها كثير من الآيات .
ولقد كان الرسول الأعظم (ص) يتولى الاجابة عن مختلف الاسئلة والشبهات التي تعرض لأصحابه أثناء حياته الشريفة، بل كانت له مناظرات واحتجاجات كثيرة مع قريش ومع أهل الكتاب.
وبعد ارتفاعه إلى الرفيق الأعلى أخذت قضية الامامة والخلافة مكان الصدارة في المناظرات والمباحثات بين المسلمين وفي مقدمتهم الامام علي (ع) حيث سلبه الآخرون حقه فيها، فأخذ يجاهد في سبيل اثبات حقه بين المسلمين، فكانت مسألة الإمامة أولى المسائل الكلامية التي بحثت في تلك الفترة المبكرة، خلافا لما يذكره الكثير من الباحثين من أن مسألة الجبر والاختيار هي أولى المسائل الكلامية، وتجدر الاشارة هنا إلى أن متكلمي أهل السنة لا يرون ان مسألة الامامة من المسائل العقائدية والكلامية، ولذلك يقول ابن خلدون: "قصارى أمر الإمامة انها قضية مصلحية اجماعية ولا تلحق بالعقائد"[3]، خلافا لما يراه الشيعة كما هو معلوم.
والمسائل الكلامية التي تحدث فيها أمير المؤمنين (ع) كثيرة كما يظهر ذلك جليا في نهج البلاغة، وأهمها المسائل التي تتحدث عن الباري تعالى وصفاته.
كما كان للفتوحات الاسلامية في ذلك الزمان أثرا مهماً في اتساع البحث والنقاش في مختلف المسائل التي أثيرت في وجه الفاتحين من قبل الأمم الأخرى نتيجة الاختلاط الحاصل بينهم وبين المسلمين، وقد كان فيهم الكهنة والأحبار والباحثون في الأديان والمذاهب.
وبعد عصر الامام علي (ع) ـ أي في حدود منتصف القرن الأول الهجري ـ أخذت المذاهب الكلامية والعقائدية بالظهور، من القدرية والمرجئة والمعتزلة، وتبلورت المسائل العقائدية لحركة الخوارج التي ظهرت كمذهب سياسي أول أمرها بعد التحكيم سنة 37 للهجرة.
وهكذا يظهر عدم صحة ما يدعيه كثير من المؤرخين لعلم الكلام أنه قد نشأ بعد عصر الترجمة، نتيجة تأثر المسلمين بالفلسفة اليونانية التي بدأت بشكل فعلي على يد المنصور العباسي المتوفي سنة 158هـ .وبلغت ذروتها على عهد المأمون العباسي المتوفي سنة 218م، اللذين عرفا بمناصرتهما للمعتزلة في مقابل أهل الحديث الذين تمسكوا بحرفية النصوص سواء القرآنية والنبوية.
ويبدو أن اسراف المعتزلة في تحكيم العقل في المسائل الدينية، واستنادهم إلى الحكام في فرض عقائدهم على الناس واستخدام القوة في فرضها، كما أن لجوءهم إلى الاضطهاد الديني لمخالفيهم، ادى إلى انقلاب الناس ضدهم وتعاطفهم مع ما يذهب إليه أهل الحديث، ففي سنة 218هـ كتب المأمون إلى اسحاق بن ابراهيم ببغداد في امتحان القضاة والمحدثين بالقرآن فمن أقر أنه مخلوق محدث خلى سبيله، ومن أبى أعلمه به ليأمره فيه برأيه[4].
وكان من جملة الممتحنين الإمام أحمد بن حنبل، فانه لما أبى أن يقول بخلق القرآن، شده اسحاق مع جماعة بالحديد، واشخصهم إلى طرطوس ليقيموا بها إلى أن يخرج المأمون من بلاد الروم ويرى فيهم رأيه، فلما وصلوا إلى الرقة بلغهم موت المأمون، فرجعوا إلى بغداد[5].
وفي سنة 219هـ أحضر المعتصم ـ وكان يناصر المعتزلة أيضا ـ أحمد بن حنبل، وامتحنه بالقرآن، فلم يجب إلى القول بخلقه، فأمر به فجلد جلداً عظيما حتى غاب عقله وتقطع جلده، وحبس مقيدا[6].
وكانت هذه الحادثة مما لفتت الأنظار إلى أحمد بن حنبل وغيره من المحدثين، الذين تعاطف العامة معهم في هذه المحنة، وأدت بالتالي إلى ارتفاع شأنهم على حساب المعتزلة.
فلما آلت الخلافة إلى المتوكل العباسي أصدر أمره "بترك النظر والمباحثة في الجدال وترك ما كان عليه الناس أيام المأمون والمعتصم والواثق، وأمر الناس بالتسليم والتقليد، أمر الشيوخ والمحدثين بالتحديث واظهار السنة والجماعة[7]".
سماحة الشيخ حاتم إسماعيل - بتصرّف
[1] سورة الأنبياء آية 22.
[2] سورة يس آية 87-79.
[3] مقدمة ابن خلدون ص465.
[4] الكامل في التاريخ ج6 ص423.
[5] الكامل في التاريخ ج6 ص423.
[6] نفسه ص 445.
[7] يراجع مروج الذهب ج5 ص5 طبعة شارل بلا.