الوضع السياسي للدولة العباسية في زمن الإمام العسكري (عليه السلام)

قيم هذا المقال
(0 صوت)
الوضع السياسي للدولة العباسية في زمن الإمام العسكري (عليه السلام)

سادت الكثير من مظاهر الفوضى والشغب والاضطراب في هذا المقطع التاريخي من عمر الدولة العباسية، تتمثل في انتقاض أطرافها، واستقلال بعض ولاياتها، والعدوان الأجنبي على بعض أعمالها، وكثرة الثورات الداخلية وعلى رأسها ثورة الزنج والخوارج إلى غير ذلك من مظاهر عدم الاستقرار السياسي الأمني الناجمة عن ضعف القدرة المركزية للسلطة وتلاشي هيبتها وتعدد الارادات السياسية فيها لتدخل قادة الجند الأتراك والمغاربة والفراغنة في شؤونها وإشاعتهم الظلم والقهر والاستبداد. وفيما يلي نعرض لأهم تلك المظاهر، ونذكر بعض الأمثلة من المصادر التي أرّخت لهذا العصر:

أولاً: انتقاض أطراف الدولة
صار أغلب العمال والولاة في هذا العصر غير مقيدين بالارتباط الوثيق بعاصمة الملك أو الموالاة للدولة، فكان بإمكانهم الانفصال ومناجزة الآخرين القتال، فكانت الحروب سجالاً بين اُمراء الجند والولاة والعمال في أطراف الدولة، فكثر المتغلّبون فيها، وأصبحت المدن الاسلامية تستقبل كلّ فترة عاملاً جديداً يحكمها ويدير شؤونها ويجبي خراجها.

فمثلاً كانت الأندلس تحت سيطرة الأمويين[1]، والشمال الأفريقي تحت إمرة آل الأغلب[2]، ومصر تحت سيطرة أحمد بن طولون التركي[3]، كما تغلب يعقوب بن الليث الصفار على خراسان ونيسابور حتى بلغت شوكته أن حارب جيش المعتمد في دير العاقول بعد أن استولى على واسط[4]، وسيطر الحسن بن زيد العلوي على طبرستان وأسس الدولة العلوية هناك[5]، وتغلب على آذربيجان محمد بن البعيث في زمان المتوكل[6]، وعلى تفليس إسحاق بن إسماعيل مولى بني أمية[7]، كما تغلب البطارقة على أرمينية[8]، واستحوذ محمد ابن واصل التميمي على الأهواز ثم على بلاد فارس[9]، كما خضعت مرو لشركب الحمّار وقيل: الجمّال[10]، وقد حصل كلّ هذا في الفترة من سنة 238 إلى سنة 259 ه‍ الأمر الذي يشير إلى تدهور السلطة في هذا العصر إلى حد بعيد.

ثانياً: ضعف الثغور الاسلامية
ومن مظاهر التدهور السياسي الكبير في هذا العصر إهمال المتصدين لقيادة الدولة للثغور الاسلامية إهمالاً أدى بالنتيجة إلى تعرض أطراف الدولة إلى غزوات راح ضحيتها آلاف المسلمين ونهبت أموالهم وانتكهت أعراضهم وسبيت نساؤهم، كما في غزو مصر من قبل الافرنج والسودان والروم مرات عديدة بما لا حاجة إلى تفصيلها[11].

ثالثا: أعمال الشغب والعصيان
وتمثل تلك الأعمال مظهراً آخر من مظاهر عدم الاستقرار الأمني والسياسي للدولة، وهي أعمال كثيرة في هذا العصر أدت إلى تفاقم الأوضاع وتدهورها.

فاليمامة مثلاً عاث بها بنو نمير[12] وأهل أرمينية قتلوا عاملهم وأعلنوا عصيانهم[13]، كما تعرض عامل حمص لقتال الحمصيين، وصارت حمص مسرحاً للقتل والصلب والتحريق[14]، كما شغب الأتراك والجند في زمان المستعين وقتل خلق كثير، وانتهبت أماكن كثيرة في عاصمة الدولة سامراء[15] كما تعرضت بغداد إلى شغب كثير في هذا العصر[16]، ولم تنج الموصل من ذلك أيضاً[17].

رابعاً: الثورات الشعبية والحركات المتطرفة
تعددت الثورات الشعبية التي قادها الطالبيون ضد الدولة العباسية من جهة، وتنامت الحركات المتطرفة التي عصفت بالاُمّة من جهة اُخرى، مما نجم عنه إزهاق نفوس كثيرة، وتبديد ثروات طائلة، مع هدر الطاقات وفقدان الأمن، وشيوع حالة الفوضى والاضطراب.

أما عن الثورات والانتفاضات الشعبية التي انطلقت في هذا العصر لتقف بصلابه في وجه الحكم العباسي، فقد تزعمها الطالبيون، وكانت من إفرازات تردّي الأحوال العامة والقهر والاستبداد والطغيان والجور التي عمّت آثارها على الأمة بشكل عام وعلى الطالبيين بشكل خاص؛ لأنهم يعانون من شدة الوضع العام، ومن السياسة العباسية القاضية باضطهادهم ومطاردتهم واتباع شتى وسائل الضغط عليهم، فكانت واعزاً يحفّز الثوار منهم علي الخروج المسلّح بين آونة واُخرى.

وقد تعرضوا في زمان المتوكل لمحنة عظيمة، إذ فرض عليهم حصاراً جائراً، واستعمل لهذا الغرض عمر بن الفرج الرخجي، فمنعهم من التعرض لمسألة الناس ومنع الناس من البرّ بهم، فكان لا يبلغه أن أحداً أبرّ أحداً منهم بشيء إلا أنهكه عقوبة وأثقله غرماً، حتى كان القميص يدور بين جماعة من العلويات يصلين فيه واحدة بعد اُخرى[18].

وتعرض الكثير من آل أبي طالب في هذه الفترة لشتى أنواع الاضطهاد والتنكيل، واُنزلت فيهم أقصى العقوبات، فتفرّق كثير منهم في النواحي كي يتواروا عن الأنظار أو يعلنوا الثورة المسلحة ضد الدولة، وشُرّد بعضهم من المدينة إلى سامراء، وأودع بعضهم السجون حتى ماتوا فيها أو سُمّوا، هذا فضلاً عمن قُتِلوا على أيدي قادة العباسين ورجال دولتهم كموسى بن بغا على بن أوتامش وصالح بن وصيف وسعيد الحاجب وغيرهم، ممّا سنشير إليه في الفصل الثاني.

وقد تضمّنت كتب التاريخ أسماء ثمانية عشر ثائراً من الطالبيين في أقلّ من ثلاثين سنة (232 ـ 260 ه‍) وهو عدد يشير إلى حجم معاناة الطالبيين ومدى الحيف والظلم الذي لحقهم على أيدي السلطات، وإلا لما تطلّب جميع هذه التضيحات الجسام[19].
وأما عن الحركات المتطرفة التي ظهرت في هذا العصر، فتتمثل بحركة الزنج (255 ـ 270 ه‍) التي كانت من أشد الحركات المتطرفة التي عصفت بالحكم العباسي، فضلاً عن عدم مراعاة تلك الحركة لمثل الاسلام وقيمه العليا، نظراً لما قامت به تلك الحركة من انتها كانت خطيرة بحيث حرقت فيها حتى دور العبادة كالمساجد والجوامع فضلاً عن القتل الذريع وسبي النساء وفعل كلّ قبيح.

وكان صاحب الزنج من الأدعياء الذين زعموا الانتساب إلى الذرية الطاهرة في حين اجمع العلماء على كذبه ودجله وأنه دعيّ لا غير[20].

ويؤيد ذلك ما كتبه الإمام العسكري (ع) إلى محمد بن صالح الخثعمي في خصوص فرية صاحب الزنج، حيث بين (ع) في كتابه كذب هذا المفترى، إذ جاء في الكتاب: «صاحب الزنج ليس من أهل البيت»[21]. وفي هذا دليل قاطع على كذب وافتراء صاحب الزنج لعنه الله في انتسابه إلى الذرية الطاهرة.

ومن تلك الحركات المتطرفه التي عبثت كثيراً، هي حركة الخوارج الشراة الذين زعموا أنهم شروا الآخرة بالدنيا! فشنّوا حرباً شعواء على كلّ من خالفهم الرأي لا يفرقون في هذا بين العباسيين وغيرهم، وكانوا صورة لاسلافهم الذين مرقوا من الدين كما يمرق السهم من الرمية.

وقد ظهروا في هذا العصر في الموصل سنة 248 ه‍ وقويت شوكتهم حتى وصلوا قرب العاصمة سامراء واشتبكوا مع العباسيين في معارك طاحنة، واستولوا على مناطق كثيرة من السواد، مما ترك هذا أثره البالغ في تدهور الأمن وضياع الهدوء والاستقرار[22].
  
الإمام الحسن العسكري (ع) سيرة وتاريخ

[1] سير أعلام النبلاء 8: 260 ـ 263.
[2] الكامل في التاريخ 6: 66 و 89 و 102 و 126 و 132 و 155.
[3] الكامل في التاريخ 6: 195 و 213 و 227 و 238، سير أعلام النبلاء 13: 94 / 53.
[4] تاريخ اليعقوبي 2: 504، الكامل في التاريخ 6: 114 و 151 و 193 و 197 و 232 و 242 و 246، سير أعلام النبلاء 12: 513 / 191.
[5] تاريخ الطبري 9: 271، ومروج الذهب 4: 410، 426، 431 و 542، والكامل في التاريخ 6: 158 و 204 و 227 و 233 و 238 و 246 و 336، البداية والنهاية 11: 6 و 15 و 24 و 30.
[6] الكامل في التاريخ 6: 100 و 104، البداية والنهاية 10: 312.
[7] تاريخ اليعقوبي 2: 489، الكامل في التاريخ 6: 116.
[8] تاريخ اليعقوبي 2: 489.
[9] البداية والنهاية 11: 24 و 29.
[10] تاريخ الطبري 9: 502، الكامل في التاريخ 6: 244، البداية والنهاية 11: 31.
[11] راجع في ذلك: تاريخ الطبري 9: 509 و 511، وتاريخ اليعقوبي 2: 488، والكامل في التاريخ 6: 117 و 131 و 245، والبداية والنهاية 10: 317 و 324 و 342 و 11: 31، وتاريخ الخلفاء / السيوطي: 269 و 283.
[12] الكامل في التاريخ 6: 90، البداية والنهاية 10: 308.
[13] الكامل في التاريخ 6: 111، البداية والنهاية 10: 315.
[14] الكامل في التاريخ 6: 120 و 122 و 151 و 161، البداية والنهاية 10: 319 و 323 و 11: 2 و 6، تاريخ اليعقوبي 2: 490 و 495.
[15] الكامل في التاريخ 6: 150 و 154، البداية والنهاية 11: 2.
[16] الكامل في التاريخ 6: 153 و 201 و 203، البداية والنهاية 11: 3 و 17 و 18.
[17] الكامل في التاريخ 6: 191 و 247.
[18] مقاتل الطابيين: 396.
[19] راجع أسماء الثائرين (الثمانية عشر) على بني العباس في تلك الفترة في تاريخ الطبري 6: 158 و 204 و 227 و 238 و 246 و 336، وتاريخ اليعقوبي 2: 497 و 506، ومروج الذهب 4: 406 ـ 410 ـ 424 ـ 428 ـ 429، ومقاتل الطالبيين: 397 و 406 و 419 ـ 424 و 429 ـ 432 و 435، والفخري في الآداب السلطانية: 240، والكامل في التاريخ 6: 107 و 156 ـ 158 و 161 و 179 ـ 181 و 192 و 213 و 226 ـ 227 و 242، والبداية والنهاية 10: 314 و 11: 5 ـ 6 و 9 و 12 و 15 ـ 16 و 24 و 30.
[20] راجع أخبار ثورة الزنج في: مروج الذهب / المسعودي 4: 438، تاريخ الخلفاء / السيوطي: 282، تاريخ اليعقوبي 2: 507، الفخري في الآداب السلطانية: 250، البداية والنهاية 11: 18 وما بعدها، وأحداث سنة 255 ـ 270 في تاريخ الطبري والكامل وسائر التواريخ.
[21] المناقب / ابن شهر آشوب 4: 462 ـ دار الأضواء ـ بيروت ـ ط 1 ـ 1421 ه‍.
[22] راجع حركة الخوارج تلك في: تاريخ اليعقوبي 2: 497 و 502، والكامل في التاريخ 6: 186 و 190 و 195 و 205 و 212 و 219 و 234 و 272 و 345 و 346 والبداية والنهاية 11: 22 و 30.

قراءة 1496 مرة