إنّ الاِيمان باللّه والعمل الصالح يُورث محبَّة في قلوب الناس، إذ للاِيمان أثر بالغ في القيام بحقوق اللّه أوّلاً، وحقوق الناس ثانياً، لا سيَّما إذا كان العمل الصالح نافعاً لهم، ولذلك استقطب المؤمنون حُبَّ النّاس، لدورهم الفعّال في إصلاح المجتمع الاِنساني. وهذا أمر ملموس لكلّ النّاس، وإليه يشير قوله سبحانه: (إِنَّ الّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحات سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمن وُداً)[1]. وبما أنّ الاَنبياء بلغوا قمَّة الاِيمان كما بلغوا في العمل الصالح ذروته، نرى أنّ لهم منزلة كبيرة في قلوب الناس لا يضاهيها شيء، لاَنّهم صرفوا أعمارهم في سبيل إصلاح أُمور الناس وإرشادهم إلى مافيه الخير والرشاد. هذا حال الاَنبياء ويعقبهم الاَوصياء والاَولياء والصلحاء.
أخرج أبو إسحاق السعدوي في تفسيره باسناده عن البراء بن عازب، قال:
قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) لعلي: «اللّهم اجعل لي عندك عهداً، واجعل لي في صدور المؤمنين مودة»، فأنزل اللّه تعالى الآية المذكورة آنفاٍ.
إنّ أهل البيت (عليهم السلام) لاَجل انتسابهم إلى البيت النبوي الرفيع حازوا مودة الناس واحترامهم بكلّ وجودهم. وقد أُشير إلى ذلك في آثارهم وكلماتهم.
روى معاوية بن عمّار عن الاِمام الصادق (عليه السلام) قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «إنّ حبّ علي (عليه السلام) قُذف في قلوب الموَمنين، فلا يُحبّه إلاّ مؤمن ولا يبغضه إلا ّمنافق، وانّ حبّ الحسن والحسين (عليهما السلام) قذف في قلوب الموَمنين والمنافقين والكافرين فلا ترى لهم ذامّاً»، ودعا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الحسن والحسين (عليهما السلام) قرب موته فقرّبهما وشمّهما وجعل يرشفهما وعيناه تهملان[2] وقد تعلقت مشيئته سبحانه على إلقاء محبتهم في قلوب الموَمنين الصالحين، حتى كانت الصحابة يميّزون المؤمن عن المنافق بحبّ علي أو بغضه.
روى أبو سعيد الخدري، قال: إنا كنّا نعرف المنافقين نحن معشرَ الاَنصار ببغضهم علىّ بن أبي طالب (عليه السلام)[3] . وقد تضافر عن علي أمير الموَمنين (عليه السلام) انّه قال: «واللّه فلق الحبة وبرأ النسمة، انّه لعهد النبي الاَمّي إليّ: انّه لا يحبني إلاّ موَمن ولا يبغضني إلاّمنافق». [4]واللّه انّه ممّا عهد إليَّ رسول اللّه (ص) انَّه لا يبغضني إلاّ منافق ولا يُحبّني إلاّ مؤمن .[5]
و قد أعرب عن ذلك الاِمام علي بن الحسين (عليهما السلام) في خطبته في جامع دمشق، عندما صعد المنبر وعرَّف نفسه فحمد اللّه وأثنى عليه، ثمّ خطب خطبة أبكى منها العيون، وأوجل منها القلوب، ثمّ قال: »أيّها الناس أُعطينا ستّاً وفُضِّلنا بسبع، أعطينا: العلم، والحلم، والسماحة، والفصاحة،والشجاعة، والمحبة في قلوب الموَمنين»[6].
و لا عجب في أنّه تبارك وتعالى سمّاهم كوثراً أي الخير الكثير، وقال: (إِنّا أَعْطَيْناكَ الكَوثر).. قال الرازي: الكوثر أولاده، لاَنّ هذه السورة إنّما نزلت على من عابه (عليه السلام) بعدم الاَولاد، فالمعنى انّه يعطيه نسلاً يبقون على مرّ الزمان فانظر كم قتل من أهل البيت (عليهم السلام) والعالم ممتلئ منهم ولم يبق من بني أُمية في الدنيا أحد يعبأ به، ثمّ انظر كم كان فيها من الاَكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضا (عليهم السلام)[7].
إنّ محبة النبي (صلى الله عليه وآله) للحسين (عليه السلام) لم تكن محبة نابعة من حبه لنسَبه بل كان واقفاً على ما يبلغ إليه ولده الحسين (عليه السلام) في الفضل والكمال والشهادة في سبيله، ونجاة الاَمّة من مخالب الظلم، والثورة على الظلم والطغيان، وهناك كلام للعلاّمة المجلسي يقول: إنّ محبة المقربين لاَولادهم وأقربائهم وأحبّائهم ليست من جهة الدواعي النفسانية والشهوات البشرية، بل تجرّدوا عن جميع ذلك وأخلصوا حُبَّهم، ووُدَّهم للّه. وحُبّهم لغير اللّه إنّما يرجع إلى حبهم له، ولذا لم يحُبَّ يعقوب من سائر أولاده مثل ما أحب يوسف (عليه السلام) منهم، و لجهلهم بسبب حبه له نسبوه إلى الضلال، و قالوا: نحن عصبة، ونحن أحقّ بأن نكون محبوبين له، لأنّا أقوياء على تمشية ما يريده من أُمور الدنيا، ففرط حبّه يوسف إنّما كان لحب اللّه تعالى له واصطفائه إيّاه فمحبوب المحبوب محبوب[8].
الشيخ جعفر السبحاني
[1] مريم:96
[2] المناقب لابن شهر آشوب: 3 | 383 ؛ سفينة البحار: مادة حبب: 1 | 492 .
[3] سنن الترمذي: 5 | 635 برقم 3717 ؛ حلية الاَولياء: 6 | 295 .
[4] أسنى المطالب: 54، تحقيق محمد هادي الاَميني
[5] بحار الاَنوار: 45|138.
[6] تفسير الفخر الرازي:32|124.
[7] تفسير الفخر الرازي: 32 | 124 .
[8] سفينة البحار: 1 | 496، مادة حبب .