في أموالهم حقّ معلوم...

قيم هذا المقال
(0 صوت)
في أموالهم حقّ معلوم...

المال من الحاجات الأساسية التي بدونها لا يستطيع الإنسان أن ينفق على نفسه وعياله. وعلى ذوي المكنة والغنى وظيفة اجتماعية تتمثل بمساعدة السائلين والمحرومين. وقد أطلق القرآن الكريم على هذا الإنفاق صفة الحقّ، كما في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾[1].

ويظهر من الرواية التالية أن هذا الحق له وظيفة تكافلية، فليس هو من الزكاة والصدقات المفروضة، بل هو أمر تبرعي يقدم عليه المحسن طوعاً لأجل إشاعة مبدأ التعاون ومواساة المعوزين.

عن القاسم بن عبدالرّحمن الأنصاري قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: «إنّ رجلاً جاء إلى أبي علي بن الحسين عليهما‌السلام فقال له: أخبرني عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ ما هذا الحقّ المعلوم؟  فقال له علي بن الحسين عليهما ‌السلام: الحقّ المعلوم الشيء يخرجه من ماله ليس من الزّكاة ولا من الصّدقة المفروضتين. قال: فإذا لم يكن من الزّكاة ولا من الصّدقة، فما هو؟  فقال: هو الشيء يخرجه الرّجل من ماله إن شاء أكثر، وإن شاء أقلّ، على قدر ما يملك، فقال له الرّجل: فما يصنع به؟  فقال: يصل به رحما، ويقوي به ضعيفاً، ويحمل به كلاًّ، أو يصل به أخاً له في الله، أو لنائبة تنوبه، فقال الرّجل: الله أعلم حيث يجعل رسالته»[2].

وعن سماعة، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: «الحقّ المعلوم ليس من الزّكاة، هو الشيء تخرجه من مالك إن شئت كلّ جمعة، وإن شئت كلّ شهر، ولكلّ ذي فضل فضله، وقول الله عزّ وجلَّ: ﴿إِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾[3] فليس هو من الزكاة، والماعون ليس من الزكاة، هو المعروف تصنعه، والقرض تقرضه ومتاع البيت تعيره، وصلة قرابتك ليس من الزكاة، وقال الله عزّ وجلّ: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ﴾ فالحق المعلوم غير الزّكاة، وهو شيء يفرضه الرّجل على نفسه، يجب أن يفرضه على قدر طاقته ووسعه»[4].

والإسلام يحثّ على أن يكون إنفاق المال لغاية سامية أطلق عليها القرآن (سبيل الله)، فمثل هذا الإنفاق يباركه الله تعالى لكونه يخدم مبدأ التكافل، من خلال تقديم العون والمساعدة للآخرين بنية خالصة، وبشرط أن لا يصاحب مثل هذا الإنفاق المنّ أو الأذى، قال عزّ من قائل: ﴿مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾[5]. وعليه فالله تعالى يعتبر المال أمانة في يد حامله، وعليه أن يحسن التصرف بها، وأن ينفقها في سبيله، وليس من أجل الرِّياء أو السمعة الفارغة، لذلك يعتبر الذي ينفق أمواله من أجل الرِّياء من قرناء الشيطان، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينً﴾[6]. ولم يأل أئمة أهل البيت: جهداً من أجل توعية شيعتهم على إدراك وظيفة المال الاجتماعية، ورسالته التكافلية، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «فمن آتاهُ الله مالاً فليصل به القرابة، وليُحسن مِنهُ الضيافة، وليفُكَّ به الأسير والعاني، وليُعط مِنهُ الفقير والغارِمَ»[7]، وعنه (عليه السلام): «أفضل المال ما قضيت به الحقوق»[8].

ولم تكن وصايا أمير المؤمنين (عليه السلام) مجرّد كلمات تطلق في الفضاء كحال المنظرين، بل كانت تترجم إلى سلوك سويّ، شهد عليها التاريخ وسجلها الثقات، قال أبو صالح السمّان: « رأيت عليا دخل بيت المال فرأى فيه مالاً، فقال: هذا ها هنا والناس يحتاجون! فأمر به فقسّم بين الناس وأمر بالبيت فكنس فنضح وصلّى فيه»[9].

وعن هارون بن مسلم البجلي عن أبيه قال: «أعطى علي (عليه السلام) الناس في عام واحد ثلاث اُعطيات ثم قدم عليه خراج أصفهان فقال: أيها الناس، اغدوا فخذوا ما أنا لكم بخازن، ثم أمر ببيت المال فكنس ونضح، فصلى فيه ركعتين ثم قال: يا دنيا غري غيري...»[10].

كان (سلام الله عليه) يعتبر المال أمانة بيده، فيحرص أشد الحرص على إيصاله إلى مستحقيه، وتقسيمه بالسّوية فيما بينهم، ولما بويع بالخلافة، صعد المنبر في اليوم الثاني من البيعة، وهو يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقين من ذي الحجة، فقال: «فأنتم عباد الله، والمال مال الله، يقسَّم بينكم بالسوّية، لا فضل فيه لأحد على أحد، وللمتقين عند الله غداً أحسن الجزاء وأفضل الثواب»[11].

ومن كتاب له (عليه السلام) إلى قثم بن العبّاس، وهو عامله على مكّة: «وانظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله فاصرفه إلى من قِبَلَكَ من ذوي العيال والمجاعة، مصيبا به مواضع الفاقة والخلاّت، وما فضل عن ذلك فاحمله إلينا لنقسمه فيمن قبلنا»[12].
وكان (عليه السلام) يقول لمن أراد منه العودة إلى سنّة عمر في التمييز بين الناس في العطاء!!: «لو كان المال لي لسوّيت بينهم، فكيف وإنما المال مال الله»[13].

وقام (عليه السلام) خطيباً بالمدينة حين رجعت إليه خلافته، بعد أن حمد الله وأثنىٰ عليه: «إنّي والله لا أرزؤكم من فيئكم درهما ما قام لي عذق بيثرب، فليصدقكم أنفسكم، أفتروني مانعاً نفسي ومعطيكم؟! فقام إليه عقيل (كرّم الله وجهه) فقال له: والله لتجعلني وأسود بالمدينة سواءً؟! فقال له: أجلس، أما كان ها هنا أحد يتكلّم غيرك؟ وما فضلك عليه إلاّ بسابقة أو بتقوى!!»[14].

وعن ابن دأب قال: ولّى أمير المؤمنين (عليه السلام) بيت مال المدينة عمّار بن ياسر وأبا الهيثم بن التيّهان، فكتب: «العربي والقرشي والأنصاري والعجمي وكل من كان في الإسلام من قبائل العرب وأجناس العجم سواء فأتاه سهل بن حنيف بمولى له أسود فقال: كم تعطي هذا؟  فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): كم أخذت أنت؟  قال: ثلاثة دنانير وكذلك أخذ الناس، قال: فأعطوا مولاه مثل ما أخذ ثلاثة دنانير»[15].

 وروى أبو إسحاق الهمداني أنّ امرأتين أتتا عليّاً (عليه السلام)، إحداهما من العرب، والأخرى من الموالي، فسألتاه فدفع إليهما دراهم وطعاماً بالسواء، فقالت إحداهما: إنّي امرأة من العرب وهذه من العجم، فقال عليّ (عليه السلام): «والله لا أجد لبني إسماعيل في هذا الفيء فضلاً على بني إسحاق»[16].

وعموما فقد كان أئمة أهل البيت: يحثّون أتباعهم على بذل الأموال سواءً المفروض منها أو المستحب، ويكشفون لهم الحكمة من وراء ذلك، والفائدة المرجوّة، قال الإمام الصادق (عليه السلام) لعمّار الساباطي: «يا عمّار أنت ربّ مال كثير، قال: نعم جعلت فداك، قال: فتؤدي ما افترض الله عليك من الزّكاة، فقال: نعم، قال: فتصل قرابتك؟  قال: نعم، قال: فتصل إخوانك؟  قال: نعم، قال (عليه السلام): يا عمّار، إن المال يفنى، والبدن يبلى، والعمل يبقى، والدّيان حيّ لا يموت. يا عمّار، أما أنّه ما قدمت فلن يسبقك، وما أخرّت فلن يلحقك»[17].

ولما كان البخل والشح يكبحان طريق الإنفاق، عَمَلَ أهل البيت: على التسامي بنفوس أتباع مدرستهم وحثهم على قلع جذور البخل من خلال التكافل، لكي ينجحوا في الابتلاء ويجتازوا الامتحان.

عن جميل بن درّاج، عن أبي عبدالله (عليه السلام)، قال: «ما بلى الله العباد بشيء أشدّ عليهم من إخراج الدّراهم»[18].

وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) يشنع أشد التشنيع بالشحيح، ويعتبر الشحّ أقبح من الظلم، يروى أنه (عليه السلام) سمع رجلاً يقول: إنّ الشحيح أعذر من الظالم، فقال له: «كذبت، إنّ الظالم قد يتوب ويستغفر ويردّ الظلامة إلى أهلها، والشّحيح إذا شحّ منع الزّكاة والصّدقة وصلة الرّحم وقري الضّيف والنفقة في سبيل الله، وأبواب الخير، وحرام على الجنّة أن يدخلها شحيح»[19].
 
التكافل الاجتماعي في مدرسة أهل البيت عليهم السلام

[1] سورة المعارج: 70 / 24 ـ 25.
[2] الكافي 3: 500 / 11.
[3] سورة البقرة: 2 / 271.
[4] من لا يحضره الفقيه 2: 48 / 1666.
[5] سورة البقرة: 2 / 261 ـ 262.
[6] سورة النساء: 4 / 38.
[7] تصنيف نهج البلاغة / لبيب بيضون: 648.
[8] عيون الحكم والمواعظ: 122.
[9] انساب الأشراف / البلاذري: 133، مؤسسة الأعلمي، بيروت، والدعوات / الراوندي: 60، مدرسة الإمام المهدي (عليه السلام)، ط 1 ـ 1407 ه‍ ق.
[10] الغارات / إبراهيم بن محمّد الثقفي 1: 83، مطبعة بهمن ـ إيران، ونحوه في شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 2: 198، دار إحياء الكتب العربية.
[11] شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 7: 37.
[12] نهج البلاغة، كتاب 67.
[13] نهج البلاغة / الخطبة 126.
[14] روضة الكافي 8: 182 / 204.
[15] الاختصاص / الشيخ المفيد: 152، طبع جماعة المدرسين في الحوزة العلمية.
[16] شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 2: 200، دار إحياء الكتب العربية.
[17] الكافي 3: 501 / 15 باب فرض الزكاة وما يجب في المال من الحقوق، من كتاب الزكاة.
[18] الخصال / الشيخ الصدوق: 80.
[19] الكافي 4: 44 / 1 باب البخل والشحّ، من كتاب الزكاة.

قراءة 2311 مرة