الصّدقة وتغيّر المقادير

قيم هذا المقال
(2 صوت)
الصّدقة وتغيّر المقادير

بداية، نريد ب"الصدقة" الجانب التبرعي الذي يدفعه المسلم طوعاً للفقراء والمحتاجين. ولا نريد من الصدقة ـ هنا الشيء المفروض، أي الزَّكاة، إذ تطلق الصدقات ـ أحياناً ـ على الزَّكاة، كما في قوله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ َالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا...)[1].

والإمام الصادق (عليه السلام) كان قد أشار إلى ذلك بقوله: «ولكن الله عزّ وجلّ فرض في أموال الأغنياء حقوقاً غير الزكاة، فقال عزّ وجلّ: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ...)[2] فالحقّ المعلوم من غير الزكاة، وهو شيء يفرضه الرّجل على نفسه في ماله، يجب عليه أن يفرضه على قدر طاقته وسعة ماله، فيؤدّي الذي فرض على نفسه إن شاء في كلّ يوم، وإن شاء في كلّ جمعة، وإن شاء في كلّ شهر»[3].

والمتتبع لآيات القرآن يجد أنها تمجّد بكل من يدفع الصدقة سواءً أكان رجلاً أو امرأة، قال تعالى: (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ)[4].

والملاحظ أنّ الصدقة تسير في خطّ متوازٍ مع الزَّكاة لكفالة المحتاجين، وإذا كانت الزَّكاة حقاً واجباً، فهي- أي الصدقة - شيء مستحب يقدم عليه المسلم بطيبة قلب، طلباً للثواب، ومواساة لإخوانه المحتاجين.

وقد جعلت الشريعة للمتصدّق ثواباً عظيماً صرّح به الرسول المصطفى (صلى الله عليه وآله) بقوله: «من تصدّق بصدقة على رجل مسكين كان له مثل أجره، ولو تداولها أربعون ألف إنسان ثمّ وصلت إلى المسكين كان لهم أجراً كاملاً»[5].

وقال (صلى الله عليه وآله): «من مشى بصدقة إلى محتاج كان له كأجر صاحبها، من غير أن ينقص من أجره شيء»[6].

وهناك أحاديث عن أهل بيت العصمة: مفادها أن الله تعالى يبارك كثيراً في الصدقة ولو كانت قليلة، فليست العبرة في القلة والكثرة، وإنما في تحسس المسلم حاجات إخوانه وتكافله معهم، قال الإمام الصادق (عليه السلام): «قال الله عزّ وجلّ: إنّ من عبادي من يتصدّق بشقّ تمرة، فأربيها له كما يربّي أحدكم فِلوه حتى أجعلها له مثل أحد»[7].

ويفضّل أن تُعطى الصدقة للأرحام، وهم في الدائرة الأقرب من القرابة، روى الراوندي أن عليّاً (عليه السلام) قال: «أفضل الصدقة أختك وابنتك، مردودة عليك ليس لهما كاسب غيرك»[8].
 
  ولا شك أنّ التكافل مع القريب بمثابة السور الوقائي الذي يحمي العائلة من أخطار الفقر ويسهم في تقوية درجة الانسجام والتآلف بين أفرادها، لذلك يُضاعف ثواب التصدق على القريب، فقد سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله): أيّ الصدقة أفضل؟ فقال (صلى الله عليه وآله): «على ذي الرحم الكاشح»[9].

فهذا التوجه ينسجم مع اهتمام الإسلام بالأرحام، ودعوته لتمتين عوامل اللحمة معهم، وخطب ودهم. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لا صدقة وذو رحم محتاج»[10].

والإمام الصادق (عليه السلام) بدوره عمق هذا الاتجاه الذي يُفضّل القريب بالتكافل، فقد سُئل (عليه السلام) عن الصدقة على من يسأل على الأبواب، أو يمسك ذلك عنهم ويعطيه ذوي قرابته؟ فقال: «لا، بل يبعث بها إلى من بينه وبينه قرابة، فهو أعظم للأجر»[11].

وانطلاقاً من حرص الإسلام على كرامة الإنسان، وحرصه على أن لا يكون عالة على غيره، بل يكون إنساناً عاملاً يعيش من عرق جبينه، وكدّ يمينه، فقد حرم أخذ الصدقة على المسلم، وأباح له ذلك عند الضرورة. وبذلك سد الأبواب على بعض الأفراد الذين يعيشون على هامش الحياة، ويلقون عبء معاشهم على غارب الصدقة.

والضابط في ذلك أنّ من يمكنه الاستغناء عنها لا تحل له، سواء كان بمال أو صناعة أو حرفة بشرط أن يكون التكسب لائقا بحاله ومروءته[12].

وهناك جملة شروط ومعايير وضعها الإسلام لتمييز مستحقي الزكاة عن غيرهم، فعن عبدالرَّحمن العرزميّ، عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «جاء رجل إلى الحسن والحسين عليهما ‌السلام وهما جالسان على الصفا فسألهما فقالا: إن الصدقة لا تحلّ إلاّ في دين موجع، أو غرم مفظع، أو فقر مدقع، ففيك شيء من هذا، قال: نعم، فأعطياه»[13].

وينبغي أن تكون الأولوية في العطاء للأفراد الذين يكونون عِرضة للجزع والهلع والتحسس أكثر من غيرهم، كل ذلك من أجل القضاء على روح الاستياء عند العطاء، عن عنبسة بن مصعب، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: «أتي النبيّ (صلى الله عليه وآله) بشيء فقسّمه فلم يسع أهل الصُّفّة جميعاً، فخص به اُناساً منهم، فخاف رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يكون قد دخل قلوب الآخرين شيء، فخرج إليهم فقال: معذرة إلى الله عزّ وجلّ وإليكم يا أهل الصُّفّة، إنّا أُوتينا بشيء فأردنا أن نقسمّه بينكم فلم يسعكم، فخصصت به أُناسا منكم خشينا جزعهم وهلعهم»[14].

من جهة أخرى لم ينقطع أهل البيت: عن التذكير بالمعطيات الإيجابية لإعطاء الصدقة سواءً أكانت صدقة السِّر أو العلانية، ومنها: تكفير الخطيئة، ودفع ميتة السوء، ودفع البلاء، وحصول الشفاء، وزيادة الرزق وغيرها.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أكثروا من الصدقة تُرزقوا»[15]. وقال (صلى الله عليه وآله) موصياً: «داووا مرضاكم بالصدقة...»[16]. وجاء في وصية الرسول (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): «يا علي، الصدقة تردّ القضاء الذي اُبرم إبراماً، يا علي صلة الرحم تزيد في العمر...»[17].

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «. .. وصدقة السَّر فإنّها تُكفِّرُ الخطيئة، وصدقة العلانية فانّها تدفَعُ ميتة السَّوء»[18]. وعنه (عليه السلام): «استنزلوا الرزق بالصدقة»[19].

وقال الإمام الصادق (عليه السلام) لابنه محمّد: « يابنيّ كم فضل من تلك النفقة؟ فقال: أربعون ديناراً، قال: أخرج فتصدّق بها، قال: إنّه لم يبق معي غيرها، قال: تصدّق بها، فإنَّ الله عزّ وجلّ يخلفها... قال: ففعلت، فما لبث أبو عبدالله (عليه السلام) إلاّ عشرة أيّام حتّى جاءه من موضع أربعة آلاف دينار»[20].

ومما ورد من آثار الصدقة الأخرى أنها تذهب بنحس الأيام، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «من تصدق بصدقة حين يصبح أذهب الله عنه نحس ذلك اليوم»[21].

ومن هنا فإنّ للصدقة دورا في تطمين الخواطر وتبديد المخاوف عند السفر، عن عبدالرحمن بن الحجاج، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: «تصدق واخرج أيّ يوم شئت»[22].
 
 التكافل الاجتماعي في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) – بتصرّف يسير

[1] سور التوبة: 9 / 60.
[2] المعارج: 70 / 24.
[3] الكافي 3: 498 / 8.
[4] سورة الحديد: 57 / 18.
[5] ثواب الأعمال: 289.
[6] من لا يحضره الفقيه 4: 17.
[7] الأمالي / الشيخ المفيد: 354، المجلس الحادي والأربعون.
[8] النوادر / الراوندي: 83 دار الحديث ط 1، 1407 ه‍.
[9] ثواب الأعمال: 173 / 18، منشورات الشريف الرضي.
[10] من لا يحضره الفقيه 2: 68 / 1740.
[11] ثواب الأعمال: 142.
[12] المهذب البارع / ابن فهد الحلي 1: 530، جماعة المدرسين، قم 1407 ه‍.
[13] الكافي 4: 47 / 7 باب النوادر من كتاب الزكاة.
[14] الكافي 3: 550 / 5 باب تفضيل أهل الزكاة بعضهم على بعض من كتاب الزكاة.
[15] بحار الأنوار 74: 176.
[16] الخصال / الصدوق: 620.
[17] تحف العقول: 7.
[18] تصنيف نهج البلاغة / لبيب بيضون: 296.
[19] نهج البلاغة / الحكمة 137.
[20] الكافي 4: 9 / 3 باب في أنّ الصدقة تزيد في المال، من كتاب الزكاة.
[21] الكافي 4: 6 / 7 باب أنّ الصدقة تدفع البلاء من كتاب الزكاة.
[22] الكافي 4: 283 / 4 باب القول عند الخروج من بيته وفضل الصدقة، من كتاب الزكاة.

قراءة 6594 مرة