يبدو من أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله) أنّه وسّع من دائرة الصدقة، لتشمل الغني فضلاً عن الفقير، ولكن ليس بمعناها المادي بالضرورة، فهو يعتبر كل معروف صدقة، فيكون المعروف كالواحة الوارفة الظلال لمبدأ التكافل، وفي هذا الجانب يقول: « كلّ معروف صدقة إلى غنيّ أو فقير، فتصدّقوا ولو بشقّ تمرة»[1].
والصدقة قد تكون معنوية، ككف الأذى عن الغير، بدليل قول الرسول (صلى الله عليه وآله) لأبي ذرّ الغفاري رضياللهعنه: «تكفّ أذاك عن الناس، فإنه صدقة تصدّق بها عن نفسك»[2].
وعمّقت الشريعة مسألة الصدقة بربطها مع الإنسان منذ ولادته، فقد ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنّه لما حلق شَعْرَ ريحانتيه الحسن والحسين عليهماالسلام بعد ولادتهما، تصدق بزنة أشعارهما فضة[3].
هذا، ومن الآيات المشيدة بصدقة ولي الله الأعظم وخليفة الرسول الأكرم، قوله تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)[4].
فقد أجمعت الأمة على أنّ هذه الآية نزلت في حقّ أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، لما تصدق بخاتمه في المسجد على أعرابي وهو راكع[5]، في حين تصدّق غيره من الصحابة بأربعين خاتماً طمعاً بأن ينزل فيه وحي، ولكن لم ينزل شيء بحقّه البتة.
وعن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَٰلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[6] في حق علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: أُمروا أن لا يناجي النبي (صلى الله عليه وآله) أحد حتى يتصدق بصدقة، فأمسك القوم، وذلك قبل أن تنزل الزكاة، وتصدق عليّ (عليه السلام) بدينار ثم ناجاه عشر مرات، فكان علي (عليه السلام) يقول: «والله لهن أحبّ إليّ من حمر النعم بصبابتهن»[7].
وعن مجاهد، قال علي (عليه السلام): « آية في كتاب الله لم يعمل بها أحد قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدي: آية النجوى، كان لي دينار فصرفته بعشرة دراهم، وكنت كلما أُناجي النبي (صلى الله عليه وآله) تصدّقت بدرهم، ونسخت الآية ولم يعمل بها أحد قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدي»[8].
كان (عليه السلام) يجسد في صدقته التربية النبوية الأصيلة، ويقتفي أثر مربيه النبي (صلى الله عليه وآله) في كثرة الإنفاق حتى أن بعض أصحابه قال له: « كم تَصَّدّق؟! ألا تُمسِك؟![9].
وكان (عليه السلام) في طليعة العباد الذين يذكرون الله من خلال الإحسان إلى عباده، فنزلت في حقه هذه الآية: (رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ...)[10] بشهادة ابن عباس الذي قال: هو والله أمير المؤمنين.. وذكر سبب النزول[11].
واستغل أهل البيت: الشعائر والشهور المقدسة كرمضان وشعبان لتأجيج العواطف والمشاعر الدينية طلباً للثواب؛ فيوظفون هذا الظرف لحث الناس على التصدق، كاشفين لهم أبعادها العبادية وثمارها الأخروية، فعلى سبيل الاستشهاد لا الحصر: كان الإمام السجاد (عليه السلام) إذا دخل شهر رمضان تصدق في كل يوم بدرهم...[12].
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «من تصدق في رمضان صرف (الله) عنه سبعين نوعاً من البلاء»[13].
وهناك أوقات يستلزم التصدق فيها الثواب الكثير كوقت الليل، ويبدو أن لذلك علة عميقة، وهي حرص الإسلام على صون كرامة المحتاجين، فتحت جنح الظلام يستطيع المحتاج أن يحصل على بغيته دون أن يكشف عن هويته، ولا أن يريق ماء وجهه، والمعطي بدوره يحصل على الثواب ويرضي ربّه، قال الإمام الصادق (عليه السلام):«صدقة الليل تطفي غضب الرّب، وتمحو الذّنب العظيم، وتهون الحساب..»[14].
وكان أهل البيت: يسلكون هذا السبيل فيفضلون صدقة الليل، عن هشام بن سالم، قال: كان أبو عبدالله (عليه السلام) إذا اعتم وذهب من الليل شطره أخذ جراباً ثم ذهب به إلى أهل الحاجة من أهل المدينة، فقسّمه فيهم ولا يعرفونه، فلمّا مضى أبو عبدالله (عليه السلام) فقدوا ذلك، فعلموا أنّه كان أبا عبدالله (عليه السلام)[15].
وتستحبّ الصدقة أيضاً عند حلول شهر شعبان، فقد سئل الإمام الصادق (عليه السلام): «يابن رسول الله، ما أفضل ما يُفعل فيه؟ ـ أي في شهر شعبان ـ قال: الصدقة والاستغفار، ومن تصدق بصدقة في شعبان رباها الله تعالى كما يربي أحدكم فصيله حتى يوافي يوم القيامة وقد صار مثل أحد»[16].
وصفوة القول إنّ أئمة أهل البيت: كانت لهم اليد الطولى في نشر ثقافة الصدقة على نطاق واسع بين الناس وتربية صغار السنّ عليها، لتكون لهم خلقاً في المستقبل وعادة حسنة، عن محمّد بن عمر بن يزيد، قال، قال الإمام الرضا (عليه السلام): « مُر الصّبي فليتصدّق بيده بالكسرة والقبضة والشيء وإن قلّ، فإن كلّ شيء يراد به الله وإن قلّ بعد أن تصدق النيّة فيه عظيم»[17].
التكافل الاجتماعي في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)
[1] الأمالي / الشيخ الطوسي: 458 / 1023 المجلس السادس عشر.
[2] النوادر / الرواندي: 87.
[3] مناقب أمير المؤمنين عليهالسلام / الكوفي 2: 272.
[4] سورة المائدة: 5 / 55.
[5] مناقب آل أبي طالب / ابن شهر آشوب 2: 208، المطبعة الحيدرية في النجف ـ 1376 ه.
[6] سورة المجادلة: 58 / 12.
[7] مناقب أمير المؤمنين / محمّد بن سليمان الكوفي 1: 187، مجمع إحياء الثقافة الإسلامية، ط 1 ـ 1412 ه.
[8] مناقب أمير المؤمنين / محمد بن سليمان الكوفي 1: 188.
[9] الغارات / إبراهيم بن محمّد الثقفي 1: 90، تحقيق: السيد جلال الدين المحدث، مطبعة بهمن، إيران.
[10] سورة النور: 24 / 37.
[11] راجع: مناقب آل أبي طالب 1: 349.
[12] إقبال الأعمال / ابن طاووس 3: 150، مكتب الاعلام الإسلامي، ط 1 / 1414 ه.
[13] عدة الداعي / ابن فهد الحلي: 92، مكتبة الوجداني ـ قم، تحقيق: أحمد الموحدي القمي.
[14] الكافي 4: 9 / 3، باب صدقة الليل من كتاب الزكاة.
[15] الكافي 4: 8 / 1، باب صدقة الليل من كتاب الزكاة.
[16] إقبال الأعمال 3: 394.
[17] الكافي 4: 4 / 10، باب فضل الصدقة من كتاب الزكاة.