يقوم الإسلام على أساس التوحيد وسيادة الإنسان تحت حكم الله والتقاء القيم الروحيّة مع القيم المادّيّة، وقيم الإسلام هي تطبيقيّة قابلة التحقيق والتكيّف مع كلّ مستجدّات التقنيّة والتطوّر والنظام، وهي قيم تنظّم حياة الفرد مع ذاته ثمّ مع الجماعة التي ينتمي إليها، تحمل نظرة متوازنة شموليّة للمجتمع وحركته، ولا تمييز فيها لقيمة على أخرى وهدفها تحقيق النموّ المتكامل في شخص الفرد وهويّة المجتمع ككلّ. وعندما نقرأ القيم الإسلاميّة ورؤيتها للعلم في سلبه وإيجابه، نراها تندرج تحت مصطلح الفضائل والأخلاق والآداب وتعود كلّها إلى مفهوم العدالة، ويتباين ترتيب القيم داخل الهرم القيميّ في الإسلام عن غيره نظرًا لتباين الاهتمامات والأولويّات وموقع الجانب الروحيّ فيها تحديدًا.
ويمكننا تقسيم القيم إلى قيم نظريّة، اقتصاديّة، جماليّة، اجتماعيّة، سياسيّة وتربويّة وهي تتّخذ أبعادًا ستّة: روحيّة، بيولوجيّة، عقليّة، انفعاليّة، اجتماعيّة وسلوكيّة. أمّا خصائص القيم الإسلاميّة فهي إلهيّة المصدر، وسطيّة، متوازنة، شاملة، إنسانيّة، ثابتة ومستمرّة.
وفيما أكّد الإسلام على أنّ القيم ثابتة وأنّها مرتبطة بالطبيعة البشريّة ذات البعدين المادّيّ ومعه أبعاد عقليّة وروحيّة تتأكّد معها علاقة القيم بالواقع[1]، تنطلق غالبيّة الفلسفات الغربيّة إلى تفتيت القيم وتجعل من المجتمع المصدر الوحيد للقيم وتعتبرها نسبيّة تزيل عنها قدسيّتها وقوّتها الإلزاميّة وتعتبر أيضًا أنّ الواقع هو مصدر القيم، فهي مقبولة إذ عادت بالمنفعة للصالح العامّ ومذمومة إذا لم تؤتِ ثمارها المحسوسة. فالمذاهب النفعيّة تعود بمعياريّة القيم إلى الميول والرغبات وتعتبر أنّ الطبيعة البشريّة تنحى باتّجاه أكبر قدر ممكن من اللذّة والمنفعة والأمر نفسه للمذهب البراغماتيّ الذي اعتمد المردود العمليّ معيارًا للخير والشرّ، أمّا علماء الاجتماع فقد جعلوا المجتمع مصدرًا للأخلاق.
ففي النظام الرأسماليّ، الناس متساوون أمام القانون حتّى ولو كانت أوضاعهم الاجتماعيّة مختلفة. وفي النظام الاشتراكيّ، فالاقتصاد مصدر القيم كلّها ولا سيّما الأخلاقيّة، وبالتالي، فالقيم لدى النظامين المذكورين هي قيم انتماء ذاتيّة فيما هي هي في النظام الإسلاميّ تخصّ الذات البشريّة في علاقتها مع الله ومع الآخرين وموقف الإسلام من القيم هو تعبّديّ عقائديّ لا مجرّد احترام وانتماء للجماعة، والله تعالى مصدر القيم ونموذجها الأسمى. مفاهيم العلم في الإسلام بالتالي هي كونيّة ملزمة، ولا تكون كذلك إلّا إذا استمدّت وجودها وإلزاميّتها من مصدرٍ متعالٍ. وإلى اليوم، لا زالت البيئة الثقافيّة والفكريّة في الغرب تعتبر أنّ الغرب وطن العلوم والمعارف وأنّ تاريخ العلوم هو تاريخ التجربة الغربيّة البايكونيّة والديكارتيّة، وكلّ ما عدا ذلك جهل وتصادم مع العلم بل ظلاميّة وغيبيّة تائهة...
بالمقابل، فلقد برهنت الفيزياء الحديثة منذ بداية القرن العشرين وإلى اليوم وبكلّ وضوح وجلاء أن لا وجود لحقيقة مطلقة في المادّة وأنّ كلّ النظريّات والمفاهيم التي أنتجها العلم هي محدودة وتقريبيّة، وقوّضت الاعتقاد بالحقيقة العلميّة الوحيدة من قبل أنصار ما اصطلح عليه العلمويّة النموذجيّة للحضارة الغربيّة، كما أكّدت أن لا إمكانيّة للفصل بين المادّة والروح، فيما قالت فيزياء الكمّ بشراكة العقل ومسؤوليّته في التسبّب في التجربة حيث تحصل لأنّ العقل معها وهو ليس بمعزل عنها.
لكنّ العلاقة بين مثلّث: العلم والدين والفلسفة علاقة تكامل لا تناقص ذلك أنّها جميعًا تحاول تفسير الوجود لكن على مستويات متعدّدة. فالدين يتناول الوجود على مستوى الماهية: ما هو الوجود، بدايته، نهايته، ماذا يترتّب على كلّ ذلك. والعلم يتناول الوجود على مستوى كيفيّ: البحث في ضوابط الحركة في الكون واتجاهاتها، والفلسفة تتناول الوجود على مستوى لماذا: أي لماذا العلاقة بين الوجود المطلق الماهويّ والوجود المحدود الكيفيّ.
وبالخلاصة، من السهل أن نلاحظ أنّ ثمّة اضطرابًا كبيرًا بين المفهوم الإسلاميّ حول القيم وسائر المفاهيم المتداولة عالميًّا، ويعود السبب في ذلك إلى التفاوت في فهم العلم وظيفة وهدف حيث أراد الغرب العلم أداةً للمنفعة ولم يفصل المسلمون العلم عن بُعده الإنسانيّ، ويزداد الاضطراب مع دعوات البعض لمسايرة الركب العالميّ في المضمون والشكل والاستفادة ممّا وصل إليه الغرب واعتبار أنّ قيم الإسلام اليوميّة باتت استثناءً في هذا المجال. ففي حين يعتبر البعض أنّ العولمة تسعى إلى فرض مجالٍ واحد من العلاقات الأخلاقيّة عن طريق سيطرة الاقتصاد الغربيّ وسيطرة تقنيّات العلم وفتح قنوات التواصل بين كلّ البشر، يؤكّدون على رياديّة القيم الإسلاميّة كمدخل للخلاص من أزمة الأخلاق التي تجتاح العالم ويبقى التسامح والتكتّل والتضامن والتعاون على البرّ والتقوى قيمًا نغربل وننتقي من خلالها القيم الواصلة إلينا دون إرادتنا، من فكر اقتصاديّ غربيّ علمانيّ إقصائيّ لا يقبل بمشاركة الآخر له ولا يمارس النقد على ادّعاءاته ولا يخدم إلّا أغراض القوى المهيمنة، مشكلته تبدأ من مصداقيّته التي يظهر ضعفها من خلال الشرخ بين القول والفعل وبين العلم والأخلاق.
أخلاقيّات العلم عند الإمام الخامنئي - د. عبد الله زيعور
[1] د. حاتم السعدي، القيم التربويّة من وجهة نظرة الفلسفة الإسلاميّة (مكتبة العتبة الحسينيّة المقدسة، موقع دار العراق).