الإعلام الرسالي هو الجهر بالقيم التي يدعو إليها الوحي . ولعل الكلمة المرادفة له في المنطق الإسلامي الأذان . وإذا كانت الدعوة إلى اللـه هي الركيزة الأولى لرسالات اللـه ، فإن الإعلام جانب أساسي منها .
ولقد كانت واقعة الطف الرهيبة الفجيعة واحدةً من أعظم الإثارات الإعلامية . أولم يقل السبط الشهيد أنا قتيل العبرة ؟. أولم يتواتر عن أئمة أهل البيت (ع) فضلُ البكاء على الحسين (ع) وزيارة قبره ، والدعاء تحت قبته ؟.
وهذا الدور الإعلامي الذي كان الهدف من استشهاد الإمام الحسين (ع) اضطلع به الإمام زين العابدين (ع) ، ومعه البقية العائدة من كربلاء ، وبالذات عقيلة الهاشميين زينب الكبرى (ع) .
وبقي الإمام (ع) خمساً وثلاثين سنة قائماً بهذا الدور حتى رسَّخ في ضمير الأمة قواعدَ الإعلام الحسيني المبارك على النحو التالي :
ألف : كان أول وأعظم هدف لوسائل الإعلام الحسيني ، إظهار الجانب المأساوي لواقعة الطف ، لتبقى راسخة في ضمير الأجيال المتصاعدة ، ولتكون شعلة متقدة في أفئدة المؤمنين ، تستثير فيهم حوافز الخير والفضيلة ، وتدعوهم إلى الإجتهاد والإيثار ، وليقولوا على مدى العصور : يا ليتنا كنَّا معك فنفوز فوزاً عظيماً ، وليكونوا أبداً جنود الحق المتفانين في سبيل اللـه لكي لا تتكرر فاجعة الطف مرة أخرى ؛ أو ليكونوا . إذا وقعت مشاركين فيها بسهم واق ، ومدافعين عن الحق بكل قواهم .
ومن هنا نجد الإمام زين العابدين (ع) واحداً من البكَّائين الخمسة في عداد آدم ويعقوب ويوسف وفاطمة بنت محمد عليهم جميعاً صلوات اللـه وسلامه .
لقد بقي باكياً بعد واقعة الطف ثلاثاً وثلاثين عاماً ، ما وُضع أمامه طعام إلاّ وخنقته العبرة وقال : لقد قتل ابن بنت رسول اللـه جائعاً ، فإذا جيء إليه بشراب انهالت دموعه فيه وقال : لقد قتل ابن بنت رسول اللـه عطشاناً . وإذا مرّ على جزّار استوقفه وسأله : هل سقى الشاة ماءً ، ثم طفق يبكي ويقول : لقد قتلوا سبط رسول اللـه ظامئاً على شط الفرات .
وقد ضج لبكائه مواليه وأهل بيته . قال له أحد مواليه مرة : جُعلت فداك يابن رسول اللـه ، إني أخاف أن تكون من الهالكين ، قال : إنما أشكو حزني إلى اللـه ، وأعلم من اللـه مالا تعلمون . إني لم أذكر مصرع بني فاطمة إلاّ خنقتني العبرة [40] .
باء : ولم يكن البُكاء الرسالة الوحيدة التي حملها الإمام زين العابدين (ع) إلى التاريخ ، فقد كانت رسالة الكلمة الثائرة هي المشكاة الصافية التي تشع من خلالها رسالة الكلمة . فمنذ الأيام الأولى لملحمة كربلاء عملت كلماتُ آل البيت (ع) وفي طليعتهم الإمام السجاد والصديقة زينب الكبرى (ع) في هدم جدار الصمت والتردد والخوف ، في الكوفة ، وفي الشام ، ثم في المدينة المنورة .
وحينما فرّق عامل يزيد الأشدق أهل البيت في البلاد الإسلامية خشية انتفاضة أهل المدينة حسب بعض الروايات التاريخية ، رُفِعَ لظُلامة الحسين (ع) في كل حاضرة منبر وجهاز إعلامي مقتدر .
ومن أشهر خطب الإمام (ع) تلك الرائعة التي أوردها في مسجد الشام ، والتي تحتوي على منهاج المبنر الحسيني الذي لو اتَّبعناه ، لكان أبلغ أثراً وأنفذ في أفئدة الناس . وها نحن نتدبر في مفردات هذا المنهج قبل أن نستوحي معاً نص الخطاب :
ألف : حدد الإمام أهداف المنبر إذ قال للخاطب الذي سبقه إلى المنبر : اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق ، فتبوَّأ مقعدك من النار .. وتوجه إلى يزيد وقال له : أتأذن أن أصعد هذه الأعواد فأتكلم بكلام فيه لله رضاً ولهؤلاء الجلساء نفع وثواب .
إذاً لابد أن تكون توجيهات الخطيب خالصة لوجه اللـه ، وأن يبحث عما يرضي اللـه ، حتى ولو أسخط الطغاة ، وأن ينطق بما ينفع الناس لا بما يضرهم .
باء : ثم بدأ الحديث بذكر اللـه سبحانه ، وحذَّر الناس عقابه ، وذكَّرهم بالموت والفناء ، ولا أبلغ من الموت موعظة ولا من الفناء رادعاً .
وجاء في بعض الروايات أن الناس قد أجهشوا بالبكاء عندما أكمل الإمام (ع) حديثه عن الآخرة ، مما جعل قلوبهم خاشعة تستقبل ما بيَّنه بعدئذ من البصائر السياسية .
جيم : وبيَّن الإمام (ع) خطه السياسي الأبلج الذي ينتهي إلى سيد المرسلين محمد وأهل بيته المعصومين ( صلَّى اللـه عليه وعليهم اجمعين ) ، وأسهب في بيان صفاتهم التي هي المثل الأعلى في اليقين والإستقامة والجهاد .
دال : وأشهر الإمام (ع) ظُلامة السبط الشهيد ، وحملها راية حمراء تدعو الضمائر الحرة إلى الجهاد من أجل اللـه وفي سبيل نصرة المظلومين .. وهذه هي أشد محاور المنبر الحسيني : إثارةً للعواطف وتهييجا لكوامن الحزن والأسى .
هاء : وبعد أن أمر يزيد بأن يقطع عليه المؤذن حديثه لم يترك الإمام (ع) المنبر كما كان معهوداً ، وإنما استوقفه عند الشهادة الثانية وحمّل يزيد مسؤولية قتل والده ، مما يعني - في لغة العصر - وضع النقاط على الحروف . فلا يكفي للخطيب الحسيني أن يشير من بعيد إلى الحقائق السياسية ، بل لابد أن يصرّح بها بوضوح حتى يتبصر الناس وتتم الحجة عليهم .
وهكذا استطاع الإمام السجاد (ع) عبر هذا المنهاج الرائع أن يزلزل عرش يزيد زلزالاً حتى تنصَّل من جريمته النكراء ، وتوجه إلى الجماهير الغاضبة التي كادت تبتلعه قائلاً : أيها الناس ، أتظنون أني قتلت الحسين ، فلعن اللـه مَن قتله عبيد اللـه بن زياد عاملي بالبصرة [41] .
اما خطاب الإمام (ع) الذي ينبغي أن يُتخذ مثلاً للخطَب الحسينية ، فهو التالي :
أيها الناس أحذركم الدنيا وما فيها ، فإنها دار زوال ، قد أفنت القرون الماضية ، وهم كانوا أكثر منكم مالاً ، وأطول أعماراً . وقد أكل التراب جسومهم ، وغيَّر أحوالهم . أفتطمعون بعدهم ، هيهات هيهات ، فلابد من اللحوق والملتقى . فتدبَّروا ما مضى من عمركم وما بقي ، فافعلوا فيه ما سوف يلتقي عليكم بالأعمال الصالحة قبل انقضاء الأجل وفروغ الأمل ، فعن قريب تؤخذون من القصور إلى القبور ، وبأفعالكم تحاسبون . فكم - واللـه - من فاجرٍ قد استكملت عليه الحسرات ، وكم من عزيز قد وقع في مهالك الهلكات ، حيث لا ينفع الندم ، ولا يُفات من ظَلم .. ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربُّك أحداً [42] .
قالوا : فضج الناس بالبكاء لبالغ أثر مواعظه في أنفسهم ثم قال :
أيها الناس ، أُعطينا ستّاً وفُضِّلنا بسبع :
أُعطينا العلم ، والحلم ، والسماحة ، والفصاحة ، والشجاعة ، والمحبة في قلوب المؤمنين .
وفُضِّلنا بأن منَّا النبيَّ المختار محمداً ، ومنّا الصدّيق ، ومنّا الطيار ، ومنّا أسد اللـه وأسد رسوله ، ومنّا سبطا هذه الأمة .
مَن عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي .
أيها الناس ! أنا ابن مكة ومنى ، أنا ابن زمزم والصفا ، أنا ابن مَن حَمل الرُّكن بأطراف الرداء ، أنا ابن خير من ائتزر وارتدى ، أنا ابن خير من انتعل واحتفى ، أنا ابن خير من طاف وسعى ، أنا ابن خير من حجَّ ولبَّى ، أنا ابن من حُمل على الْبُراق في الهواء ، أنا ابن من أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، أنا ابن من بلغ به جبرئيل إلى سدرة المنتهى ، أنا ابن من دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ، أنا ابن من صلَّى بملائكة السماء ، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى ، أنا ابن محمد المصطفى ، أنا ابن علي المرتضى ، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا : لا إله إلا اللـه .
أنا ابن مَن ضرب بين يدي رسول اللـه بسيفَين ، وطعن برمحَين ، وهاجر الهجرتَين ، وبايع البيعَتين وقاتل ببدر وحنَين ، ولم يكفر باللـه طرفة عَين .
أنا ابن صالح المؤمنين ، ووارث النبيين ، وقامع الملحدين ، ويعسوب المسلمين ، ونور المجاهدين وزين العابدين ، وتاج البكائين ، وأصبر الصابرين ، وافضل القائمين من آل ياسين رسول رب العالمين . أنا ابن المؤيد بجبرئيل ، المنصور بميكائيل ، أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين ، وقاتل المارقين والناكثين والقاسطين ، المجاهد أعداءه الناصبين ، وأفخر من مشى من قريش أجمعين ، وأول من أجاب واستجاب لله ولرسوله من المؤمنين ، وأول السابقين ، وقاصم المعتدين ، ومبيد المشركين ، وسهم من مرامي اللـه على المنافقين ، ولسان حكمة العابدين ، وناصر دين اللـه ، وولي أمر اللـه ، وبستان حكمة اللـه ، وعيبة علمه .
سمحٌ ، سخيٌّ ، بهيٌّ ، بهلولٌ ، زكيٌّ ، أبطحيٌّ ، رضيٌّ ، مقدامٌ ، همامٌ ، صابرٌ ، صوام ، مهذبٌ ، قوامٌ ، قاطعُ الأصلاب ، ومفرقُ الأحزاب ، أربطهم عناناً ، وأثبتهم جَناناً ، وأمضاهم عزيمة ، وأشدهم شكيمة ، أسد باسل ، يطحنهم في الحروب إذا ازدلفت الأسنَّة وقربت الأعنَّة طحن الرحا ، ويذروهم فيها ذرو الريـح الهشيم ، ليث الحجاز ، وكبش العراق ، مكيٌّ مدنيٌّ خيفيٌّ عقبيٌّ بدريٌّ أحديُّ شجريٌّ مهاجريٌّ . من العرب سيدها ، ومن الوغى ليثها ، وارث المشعَرين وأبو السبطَين : الحسن والحسين ، ذاك جدي علي بن أبي طالب .
ثم قال : أنا ابن فاطمة الزهراء ، أنا ابن سيدة النساء ...
فلم يزل يقول : أنا أنا ، حتى ضج الناس بالبكاء والنحيب ، وخشي يزيد ( لعنه اللـه ) أن يكون فتنة ، فأمر المؤذن فقطع عليه الكلام . فلما قال المؤذن : اللـه أكبر قال علي : لا شيء أكبر من اللـه ، فلما قال: أشهد أن لا إله إلاّ اللـه ، قال علي بن الحسين : شهد بها شعري وبشري ولحمي ودمي ، فلما قال المؤذن : اشهد أن محمداً رسول اللـه ، التفت من فوق المنبر إلى يزيد فقال : محمد هذا جدِّي أم جدُّك يا يزيد ؟. فإن زعمت أنه جدك فقد كذبت وكفرت ، وإن زعمت أنه جدي فَلِمَ قتلتَ عِترَته ؟ قال : وفرغ المؤذن من الأذان والإقامة وتقدم يزيد فصلَّى صلاة الظهر [43] .
الدعاء مدرسة ومنبر
لقد بعث اللـه تعالى إلينا رسالته ، ترى كيف نستجيب له . ونرد إلى ربِّنا الرحمن التحية ؟.
نردُّها بالدعاء . فإنه منهج حديث العبد مع ربِّه عزَّ وجلَّ ، كما أن الوحي ذروة حديث الرب مع عباده .
والدعاء مخ العبادة ، ولباب التواصل ، وجوهر الصلاة . وكل دعاء حميد إلاّ أن اللـه تعالى أنعم علينا بأن هدانا لتعلم أدعية أوليائه ، وبما أورثنا من أدعية النبيِّ وأهل بيته عليه وعليهم الصلاة والسلام . ويبدو أنها جميعاً أدعية تَوارثها عباد اللـه من الأنبياء ، ومن ثم من الوحي الإلهي ؛ أولا أقل هي تجليِّات الوحي على أفئدة الهداة من عباد اللـه المقرَّبين ، وانعكاسٌ لمعارف الوحي على قلوبهم الزكية وألسنتهم الصادقة .
فالأدعية المأثورة - إذاً - هي الوجه الآخر للوحي ، وهي ظلاله الوارفة ، وأشعته المنيرة ، وتفسيراته وتأويلاته .
وهكذا كانت الأدعية كنوز المعارف الربانية ، وتلاد الحكم التي لاتنفذ ، وفي طليعتها أدعية الصحيفة السجادية التي جمعت من كلمات الإمام زين العابدين (ع) .
فإلى ماذا كان يهدف الإمام من تلك الأدعية ؟. لا ريب أنها كانت شعاعاً من قلبه المنير بالإيمان ، وفيضاً من فؤاده المتقد بحب اللـه ، وكانت كلماتُها تتزاحم على شفاه رجل كاد يذوب في هيام ربِّهِ ، ولم تكن تَكَلُّفاً منه .
بلـــى ، قد حققت أهدافاً عديدة أبرزها تعليم عباد اللـه كيف يدعون ربَّهم العظيم ، وكيف يتضرعون إليـــه ، ويتحببون إليه ، ويلتمسون رضاه . ويتوافون على أسمائه الحسنى .. وكيف يطلبون منـه حوائجهــــم ، وماذا يطلبون ؟.
وهذا الهدف الرباني تفرّع بدوره إلى عدة أمور حياتية يذكرها المؤرخون عادةً عند بيان حكمة الصحيفة السجادية ، ونحن نشير إليها باختصار شديد .
أ : أن الضغوط كانت بالغة الشدة في عهد الإمام السجَّاد (ع) إلى درجة أن عقيلة الهاشميين زينب الكبرى (ع) أصبحت لفترة ، وسيطة في شؤون الإمامة بين الإمام والمؤمنين . وفي مثل تلك الظروف العصيبة كان من الطبيعي أن يبث الإمام بصائر الوحي وقيم الرسالة عبر الأدعية التي مشت في الأمة ولا تزال كما يمشي الشذى عند نسيم عليل !!
ب - والإمام كثائر رباني لم يدع معارضة الطواغيت والوقوف بوجه الفساد الذي أوجدوه بسبب الظروف الصعبة ، بل عارضهم بالأدعية التي لم تستطع أجهزة النظام برغم قوتها صد الإمام عنها .
وهكذا أتم اللـه سبحانه الحجة علينا ، كي لاندع الوقوف بوجه الطغاة بأية وسيلةٍ ممكنة ، حتى في أشد العصور إرهاباً وقمعاً .
ج : وكانت الأدعية - إلى ذلك - وسيلة تربية الناس على التقوى والفضيلة والإيثار والجهاد وذلك بما تضمنت من مفاهيم متسامية ، ومواعظ ربانية ، فكان النخبة من أبناء الأمة يتغذون عليها كما يتغذى النبات الزاكي من أشعة الشمس . فإن حركات المعارضة تحتاج إلى زخم ثوري يدفع أبناءها قُدُماً في طريق المعارضة كالنشرات السرية والجلسات الخاصة ، والشعارات والبيانات ، فإن تلك الصحف المطهرة كانت غذاءً رساليّاً لتلك النخبة المؤمنة في مواجهة النظام الأموي .
ولا تزال أدعية الإمام (ع) التي جمعت في الصحيفة السجادية ، لاتزال هذه الأدعية ذلك الزخم الإيماني الذي يوفر لنا الروح الإيمانية في الأيام العصيبة . ولا أظن - بعد القرآن - أنَّ كتاباً يكون تسلية لفؤاد المحرومين ، وثورة في دماء المستضعفين ، ونوراً في افئدة المجاهدين وهدى على طريق الثائرين كالصحيفــــة السجاديـة ، فسلام اللـه على تلك النفس الزكية التي فاضت بها ، وسلام اللـه على من تبتـَّل بها مع كل صباح ومساء .
الشعر منبر سيَّار
تناغم الحياة ينعكس في ضمير الإنسان بحبك أوزان الشعر ومعانيه البديعة . وكانت العرب في الجاهلية وفي العصور الإسلامية الأولى ، بالغة الإهتمام بالشعر . وقد مدح ربُّنا سبحانه في سورة الشعراء أولئك المؤمنين منهم الذين ينتصرون للمظلوم . وقد اهتم أئمة الهدى (ع) بالشعر كمنبر سيار يمشي بين الناس بانسياب . كما أن الطغاة بدورهم استخدموا الشعراء مطية لإعلامهم المضلَّل . وقد قيل إن الإمام زين العابدين (ع) نظم الشعر . واشهر ما ينقل عنه تلك الرائعة التي يقول فيها :
نحن بنو المصطفى ذوو غصص يجرعها في الأنام كاظمنا***عظيمة في الأنام محنتنا أولنا مبتلى و آخرنا
يفـــرح هذا الورى بعيدهمُ و نحن أعيادنا مآتمنا***و الناس في الأمن و السرور،و ما يأمن طول الزمان خائفنا
و ما خصصنا به من الشرف الطا ئل بين الأنام آفتنا***يُحْكم فينا ، و الحكم فيه لنا جاحدُنا حقَّنا و غاضبنا [44]
ونسب إليه ابن شهر اشوب في المناقب قوله :
لكم ما تدَّعون بغير حَقٍّ إذا مِيز الصحاحُ من الْمـِراضِ***عرفتمْ حقَّنا فجحدتمونا كما عرف السواد من البياضِ
كتابُ الله شاهدُنا عليكم وقاضينا الإله ، فنعم قاض [45]
أما تأييده للشعراء المدافعين عن الحق ، فنعرفه من خلال قصة مع الفرزدق الذي كان محسوباً على بلاط الأمويين ، إلاّ أنه كان ينتمي تاريخيّاً إلى البيت العلوي . فلما وجد فرصة فاضت قريحته بالرائعة المعروفة . فلما غضب عليه هشام بن عبد الملك والسلطة الأموية واعتقل ، بادر الإمام بجائزته . وبقي إلى آخر حياته يعيش في ظل الإمامة الإسلامية حسبما يذكر بعض المؤرخين .
أما رائعته وقصتها . فهي التالية :
رواها السبكي في طبقات الشافعية بسند متصل إلى ابن عائشة عبد اللـه بن محمد عن أبيه ، قال : حج هشام بن عبد الملك فطاف بالبيت فجهد أن يصل إلى الحجر فيستلمه فلم يقدر عليه ، فنُصب له منبرٌ وجلس عليه ينظر إلى الناس ومعه أهل الشام ، إذ أقبل علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، وكـــان من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم أرجاً ، فطاف بالبيت فلما بلغ الحجر تنحَّى له الناس حتى يستلمــه ، فقال رجل من أهل الشام مَن هذا الذي قد هابه الناس هذه الهيبة ؟. فقال : هشام لا أعرفه ، مخافة أن يرغب فيه أهل الشام . وكان الفرزدق حاضراً فقال الفرزدق : ولكني أعرفه. قال الشامي : من هو يا أبا فراس ؟. فقال الفرزدق ( وقد توافقت روايتا سبط ابن الجوزي والسبكي إلاّ في أبيات يسيرة ، وهذا ما ذكراه ) :
هذاالذي تَعرف البطحاءُ وطأتهُ والبيت يعرفه والْحِلُّ والحَرمُ***هذا ابنُ خير عبادِالله كُلِّهمُ هذا التقيُّ النقيُّ الطاهرُ العلَمُ
يكادُ يَمْسِكُه عِرفانُ راحَته ركنُ الحطيم إذا ما جاءَ يَستلمُ***إذا رأتْهُ قريشٌ قالَ قائِلُها إلى مَكارمِ هذا يَنتهي الكــرَمُ
إنْ عُدَّ أهلَ التُّقى كانواذوي عددٍ أو قيل مَن خيرُ أهلِ الأرضِ قيلَ هُمُ***هذاابنُ فاطمةٍ إن كنتَ جاهلَهُ بِجَدِّه أنبياءُ الله قدخُتِموا
وليـسَ قولُك مَنْ هذا بِضائِرهِ أَلْعرْبُ تَعرف مَن أنكرتَ والعجَمُ***يُغضي حَياءً ويُغْضمِنْ مَهابَتِهِ فَمَا يُكلَّمُ إلاّ حينَ يَبتسمُ
يُنْمَى إلى ذروةِ العزِّ التي قَصُرَتْ عنهاالأكفُّ وعن إدراكِهاالقدَمُ***من جدَّه دان فضل الأنبياءلهوفضل أمته دانت له الأممُ
ينشقُّ نورُ الهدى عن صَبْحِ غُرَّتِهِ كالشمس تَنْجابُ عن إِشرافِها الظُّلَمُ***مشتقَّةٌ من رسولِ اللـه نبعتُه طابتْ عناصرُه والْخيمُ والشِّيَمُ
الله شرَّفَهُ قِدْماً وفضَّله جرى بذاك له في لوحِهِ القلَمُ***كِلتا يَديهِ غيـاثُ عمَّ نفعُهما يَستوكَفانِ ولا يَعروهما العدَمُ
سهلُ الخليقةِ لا تُخشى بوادرهُ يَزينه اثنانِ حُسْنُ الْخُلقِ والكرَمُ***حمّالُ أثقالِ أقوامٍ إذا فُدِحوا رحبُ الفِناء،أريبٌ حين يَعتزمُ
ما قال : لا ، قطُّ إلاّ في تشهّدهِ لولا التشهدُ كانتْ لاؤه نَعَمُ
عَمَّ البريةَ بالإحسان فانقشعتْ عنه الغيابةُ لا هلقٌ ولا كَهَمُ***مِنْ مَعشرٍ حبُّهمْ ديٌ ، وبُغضُهُمُ كفرٌ ، وقربهمُ ملجاً ومُعْتَصَمُ
لا يَستطيـع جوادٌ بَعْدَ غايتِهم ولا يُدانيهمُ قومٌ وإن كَرُمُوا ***همُ الْغُيـوثُ إذا ما أزمةٌ أزمتْ والأسْدُ أُسدُالشرىوالرأي ُحْتدِمُ
لايُنقص العسرُبَسْطاًمن أَكُفِّهم سِيَّانِ ذلك إن أَثْرَوْاوإنْ عُدِمُوا***يَستدفع السوءُ والبلوى بحُبِّهـِمْ ويُستربُّ به الإحسانُ والنّعَمُ
مَقّدَّمٌ بعدَذِكَرِالله ذِكْرُهُمُ في كلِّ بَدْءٍ،ومَختومٌ بِهِ الْكَلِمُ***يَأبَى لهمْ أن يَحُلَّ الذمُّ ساحتَهم خيمٌ كريمٌ،وأيدٍ بالنَّدى هُضُمُ
أيُّ الخلائــقِ ليستْ في رقابهمُ لأَوَّلِيَّةِ هَذا أولهُ نَعَمُ***مَن يَعُـرِفِ الله يَعْرِفْ أَوَّلِيَّة ذا أَلدِّيْنَ مِنْ بَيْتِ هَذا نَالَهُ الأُمَمُ
هذا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) ، فغضب هشام وأمر بحبس الفرزدق بعسفان بين مكة والمدينة ، فبعث إليه علي بألف دينار فردها وقال : إنما قلت ما قلت غضباً لله ولرسوله ، فما آخذ عليه أجراً . فقال علي : نحن أهل بيت لا يعود إلينا ما أعطينا ، فقبلها الفرزدق وهجا هشاماً فقال :
أَيحسبنـي بيـن المدينةوالتي إليها قلوبُ الناس يَهوي مُنِيبُها***يًقَلِّـبُ رأساً لم يكن رأسَ سَيْدٍوعَيناً له حولاءَبادٍ عُيـوبُها
فأُخبر هشامُ بذلك فأطلقه . ولكنه قطع راتبه من الديوان ، وكان ألف دينار سنويّاً ، فاشتكى إلى الإمام فأعطاه أربعين ألف دينار وقال له : لو كنت تحتاج إلى أكثر لأعطيتك . فعاش الفرزدق أربعين عاماً ثم مات رحمه اللـه تعالى .
______________________
([43]) ناسخ التواريخ : ( ج 2 في حياة الإمام زين العابدين ص 241 ) .
([44]) بحار الأنوار : ( ج 45 ، ص 138 - 139 ) .
([45]) في رحاب أهل البيت : ( ج 3 ، ص 249 ) .