توفيت السيدة خديجة (عليها السلام) وقد خلفت للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أغلى وأثمن ذكرى مقدسة، وهي الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين (عليها السلام). وقد أصبحت الزهراء (عليها السلام) قطب الرحى في حياة أبيها العظيم حتى أنه كان يسميها بأم أبيها. وقد قامت منه مقام البنت والأم فهي تجهد أن تعوضه بحنانها عما افتقده بافتقاد أمها خديجة (عليها السلام)، وهي تسعى أن تكون لرسالته كما كانت أمها من قبل، فلم تمنعها حداثة السن عن التعرف إلى جميع مشاكل أبيها وآلامه مهما كانت المشاكل مهمة ومهما كانت الآلام هائلة. لم تضعف ولم تهن ولم تتردد أو تتراجع. وقد جاء في رواية عن ابن مسعود قال: بينما رسول الله يصلي عند البيت وأبو جهل وأصحابه جلوس وقد نحرت جزور بالأمس فقال أبو جهل أيكم يقوم إلى سلى[1]جزور بني فلان فيضعه بين كتفي محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم فأخذه. فلما سجد النبي (صلى الله عليه وآله) وضعه بين كتفيه فاستضحكوا وجعل بعضهم يميل على بعض وأنا قائم أنظر، لو كانت لي منعة لطرحته عن ظهره، والنبي ساجد لا يرفع رأسه حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة (عليها السلام) فجاءت وطرحته عنه ثم أقبلت عليهم تؤنبهم على ذلك.
هذه إحدى الروايات التي تدل على منزلة الصديقة في قلب أبيها ومحلها من دعوته ورسالته وكأنها قد شعرت مع حداثة سنها بأنها مسؤولة عن أن تكون المحور الأساسي في حياة الله رسول (صلى الله عليه وآله) حيث واكبت سيره بكل شجاعة وإقدام.
لقد انصهرت الزهراء صلوات الله عليها بأفكار الإسلام روحياً وفكرياً فقد كانت، وهي بنت أعظم رجل عرفه التاريخ وريحانته الغالية والتي كان النبي يدعوها بأم أبيها ويقول: فاطمة بضعة مني من أرضاها فقد أرضاني ومن أغضبها فقد أغضبني وكان يقول حينما يقبلها إني أشم منها رائحة الجنة، وهي الحوراء الإنسية، كانت عنده بمنزلة ما فوقها منزلة، فكانت آخر من يراه عند سفره وأول من يلقاه عند رجوعه من السفر. وكانت هي من انحصر فيها نسله صلوات الله عليه ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله يجهل ذلك.
نعم كانت هي هكذا وكانت أكثر من هذا ولكنها ومع كل هذه المميزات الروحية والمعنوية كانت بسيطة في إسلوب حياتها لا تكاد تختلف عن أي امرأة فقيرة، فبيتها متواضع للغاية لا يحوي إلا النزر القليل من الأثاث الضروري الذي لا يمكن الاستغناء عنه.
فهي مثال المرأة المسلمة المترفعة عن المواد الدنيوية والصاعدة بروحها وروحياتها إلى أفق الكمال وسماء العصمة والفضيلة. فإن النفس البشرية إذا استنارت بنور الإسلام وإذا نفذت إلى مكنوناتها تعاليمه وحكمه استغنت بمعنوياتها عن كل ما تحتاج إليه النفوس الضعيفة من مقومات لشخصيتها.
نعم هكذا كانت فاطمة الزهراء وهي ريحانة النبوة وزهرة الهاشميين فتاة ترعرعت في أحضان الأبوة الرحيمة، وهكذا كانت وهي عروس تزف إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).
فاطمة الزهراء عليها السلام هي بحق القدوة الكاملة التي يجب أن يستلهم من سلوكها وحياتها كل الناس رجالاً ونساء، لأنها جسدت في فترة عمرها القصير أعلى نماذج التضحية والعطاء والزهد والعبادة والصبر والعرفان.. فاستحقت بسبب ذلك كل الألقاب التي لقبت بها والتي لم تكن ألقاباً عابرة، بل ألقاباً أطلقت عليها بعدما حملت مضمونها خلال مسيرة حياتها.
* نساء في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - بتصرّف
[1] السلى: جمعها أسلاء، جلدة يكون ضمنها الولد في بطن أمه إذا انقطع في البطن هلكت الأم والولد. يقال: « انقطع السّلى في البطن » أي ذهبت الحيلة وعظم الويل. المنجد