صلح الإمام الحسن (عليه السلام): التقييم والنتائج

قيم هذا المقال
(0 صوت)
صلح الإمام الحسن (عليه السلام): التقييم والنتائج

إن مراجعة بنود الصلح التي أفصح التاريخ عنها، تكشف بوضوح، عن مدى ما كان يتمتع به الإمام الحسن (عليه السلام) من دراية وحنكة، وقدرة على اتخاذ القرارات الصعبة، والتي يستطيع من خلالها أن يستفيد من عناصر الضعف، ويحولها إلى مواقع قوة، في مصلحة الدين والأمة، ذلك أنه على الرغم مما ابتلي به من تفكك في جيشه، وخيانة من قادته، وتذبذب وانهزام من أتباعه وأنصاره، فقد كان لا يزال يملك زمام المبادرة، حيث استطاع أن يفرض على معاوية شروطا هو الرابح فيها على كل حال، لأن معاوية قد أقر على نفسه بالبغي عليه وظلمه، سواء التزم ببنود الصلح أم لم يلتزم، إذ أقر على نفسه أنه ليس له أن يعهد بالأمر إلى أحد من بعده، بل يرجع الحق إلى أهله، ومعنى ذلك أنه قد اعترف بأنه ليس أهلا للخلافة أصلا. كما أن إلزامه بالعمل بسيرة الخلفاء الصالحين يكشف بالملازمة عن أنه لم يكن كذلك، أمام ملأ المسلمين، وخصوصا أهل الشام منهم.

وأما إذا لم يلتزم بالشروط المنصوص عليها، وهو ما حصل بالفعل، فإنه يكون قد فضح نفسه أمام جميع المسلمين، وأثبت من جديد أنه ليس أهلا لما زعمه من قدرة ودهاء، في السياسة كما اشتهر عنه، لأنه القادر في الحقيقة، على أن يصل إلى مبتغاه وغايته، من دون افتضاح ولا خيانة عهد، وقد أخذ على نفسه عهد الله وميثاقه على الوفاء بكل شرط شرطه الإمام الحسن (عليه السلام).

ثمة أمر آخر لا بد من الإشارة إليه، وهو أن الصلح قد أظهر بشكل جلي من هو أهل للقيادة فعلا، وهو الذي ينطلق من مبدأ الدين، وينتهي إلى أن يكون الدين غايته، مع الحفاظ على المتدينين، والخروج بأقل الخسائر، من معركة لم يكن ميزان القوى المادية لصالحه، هذا إن فرض في موقفه خسارة اصلا، وبين من يبحث على التسلط على رقاب الناس، ضاربا بأكل القيم الإنسانية، والمبادئ الإسلامية بعرض الجدار لأجل مصلحته الخاصة، وهو ما كشفه معاوية صريحا بعد إعلان الصلح، وانقلابه عليه حين صعد المنبر وقال لأهل العراق: "إني ما قاتلتكم لتصلوا أو لتصوموا وانكم لتفعلون ذلك، ولكن قاتلتكم لأتأمر عليكم وقد آتاني الله ذلك وأنتم له كارهون".

وفي المحصلة النهائية فإنه لولا صلح الحسن (عليه السلام)، لأمكن أن يظل معاوية مظهراً نفسه بمظهر الحريص على الدين وأهله أمام الناس، خصوصا بعد السيل الهائل من الأحاديث التي وضعت على لسان رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وما جرى عليه الخلفاء من قبله، من تصرفات كانت لصالحه، بحيث أعطته شرعية وقداسة في أذهان الناس، استمرت ما يزيد على العشرين عاما، خصوصا تلك التي تحرص على إظهاره من صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، معلنة عدالة كل صحابي وإيمانه وتقواه، وحجية رأيه مهما كان سلوكه مشينا، واعتقاده مهينا، والتي استفاد معاوية منها مدة طويلة.

وقد أسس هذا الصلح لإبطال بيعة يزيد في ما بعد، وعلى لسان معاوية نفسه، وهو الشرط الذي لم يبق لمعاوية أية مصداقية في نفوس الناس، بعدما نقض كافة الشروط الواردة في معاهدة الصلح، وهو ما أعطى ثورة الحسين (عليه السلام) الدفع القوي، والحجة الدامغة على جميع العابثين والمتربصين بهذا الدين من كل جانب.

ويمكن القول أنه لولا صلح الحسن مع معاوية، لما أمكن للحسين (عليه السلام) أن ينطلق بثورته المجيدة، ولو انطلق فعلا بدونه، لما أمكن لها أن تؤتي ثمارها المباركة، من إحياء الدين بعدما اندرست معالمه، وخفت نوره، والقضاء على ملك بني أمية، وفضح أكذوبتهم، وتزييف مقولتهم.

ذلك أن استمراره (عليه السلام) في القتال رغم ما حل به يعني لا محالة الدخول في المجهول، من دون أية ثمرة ترتجى، إذ لم يكن الناس مهيئين حتى ذلك الوقت لقبول أي تشكيك في سلوكيات من أعطى معاوية تلك الهالة والشرعية، وبالتالي ستكون النتيجة لصالح معاوية وحزبه، ولن تقوم للدين قائمة بعدها، لأنه سيتمكن حينها من تضليل الناس، على نحو لا خلاص منه مهما حاول المخلصون بعد ذلك أن يصححوا، إذ سيبدو أنه كان محقا، وأن الإمام (عليه السلام) باغ عليه، حيث إن منطق القوة والسيطرة هو السائد في أذهان الناس.

وهذا بخلاف المبادرة إلى إعلان الصلح بالشروط التي فرضها الإمام (عليه السلام)، فإنه أدى إلى فضح أكذوبته، كما تقدم، وهو ما سينعكس بالضرورة عند المنصفين، ويدعوهم إلى قراءة الفترة الماضية من جديد، بحيث تهتز ثقة الناس بجميع تصرفاتهم وأعمالهم، ويجعل من حالة النقد عليهم ورد آرائهم أمرا مقبولا ومنطقيا، وبذلك تتهيأ الظروف المناسبة للقيام بالحركة الحسينية فيما بعد وتأتي ثمارها المرجوة.

وهذا ما يفسر قوله (عليه السلام)، حين لامه بعض الناس على توقيع الصلح، فأجابهم بقوله: ويحكم ما تدرسون ما عملت، والله الذي عملت خير لشيعتي مما طلعت عليه الشمس أو غربت[1]...

وهو ما أكده الإمام الباقر (عليه السلام) في ما بعد، وكان ممن شهد وقعة كربلاء مع جده الحسين (عليه السلام)، قال: "والله الذي صنعه الحسن ابن علي (عليه السلام) كان خيرا لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس[2]".

وفي حديثه مع سدير، وقد بين فضائل الحسن (عليه السلام)، قال له سدير: كيف يكون بتلك المنزلة، وقد كان منه ما كان دفعها إلى معاوية؟ فقال (عليه السلام): أسكت، فإنه أعلم بما صنع، لولا ما صنع لكان أمر عظيم[3].

وقد أدرك معاوية، في ما بعد، حقيقة ما صنعه الإمام الحسن (عليه السلام) بصلحه هذا، ولهذا لم يقرر قراراً حتى عمد إلى سمه (عليه السلام) وقتله، بواسطة زوجته جعدى بنت الأشعث، ولولا ذلك لم يكن بحاجة إلى تسميمه بعدما حصل على ما يريد من الحصول على الخلافة بزعمه، خصوصا وأن الإمام (عليه السلام)، وهو المطلع على خفايا الأمور، قد علم بما ستقترفه يدا معاوية بحقه، فكان أن شرط عليه، أنه إن حدث للإمام الحسن شيء فالخلافة للحسين (عليه السلام) من بعده دون سواه.

وهكذا أطبق الإمام عليه كافة أبواب الدهاء والمكر، وألزمه لعنة ثابتة تلاحقه على مدى الأيام.
 
سماحة الشيخ حاتم اسماعيل

[1] بحار الأنوار، ج44، ص19
[2] المصدر نفسه، ص25
[3] بحار الأنوار, ج44, ص1

قراءة 1105 مرة