الاستقامة الحسينية؛ وتشكيك الآخرين
كان لدى الإمام الحسين هدفٌ واضح؛ لكن الآخرين[1] كانوا يشككون بهذا الهدف الواحد تلو الآخر. وهؤلاء لم يكونوا من عامة الناس؛ كانوا من شخصيات الدرجة الأولى في عالم الإسلام؛ مثل: عبد الله بن الزبير وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن عباس؛ أشخاص لو طالعتم اليوم تاريخهم لرأيتم أنهم على قدر كبير من الشأن في عالم الإسلام.
وهؤلاء كانوا يلتقون الإمام الحسين (عليه السلام) الواحد تلو الآخر، ويناقشونه في هذا الهدف ويشككون فيه[2]! قالوا له: أيها السيد! ما هو الدليل على أن هذا اليوم هو اليوم الذي يجب عليكم أن تذهبوا وتقفوا في وجه يزيد؟ وعددوا شواهد كثيرة لإثبات نظريتهم بحيث كانت تهزّ من يسمعها!
قالوا له: أنت كابن النبي اذهب وبلّغ الأحكام الإلهية؛ أليس هذا أفضل لك من أن تُقتل؟ أليس الأفضل أن تبقى حيًا، - تحدّث وتبين الاحكام وتعظ؟ - من أن تُقْتَلْ ثمّ يأتي ذلك الرجل الظالم وينشد الزغاريد والأشعار على قبرك ويبدّل كلماتك؟ وإذا مدّ الله تعالى في عمرك 20 سنة أخرى؛ ففي هذه السنوات سيكون حجم المعارف التي ستبينها عظيمًا وكبيرًا؛ وهذا أفضل من ذاك!
انظروا، ليس من السهل أبدا ان يخلص الإنسان نفسه من ورطة هذه إشكالات ومصيدة هذه التشكيكات!
كانوا يقولون للإمام عليه السلام: الآن وقد عزمت على الرحيل؛ إرحل؛ في ختام المطاف سَتَرِدْ ميدان الجهاد وتبرز إلى القتل؛ لكن إلى أين تأخذ هذه النسوة وأولئك الأطفال؟ كيف ستكون عليه الحال؟ لماذا تذهب وتضع الناس على المذبح؟ لماذا تذهب إلى الكوفة؟
نعم؛ هذه الإشكالات ترتعد لها فرائص الإنسان. لقد أدرك الإمام الحسين (عليه السلام) وفهم حجم ومدى صعوبة القضية. قالوا له: حسن؛ أيها الإمام، عد وبايع يزيدًا. في النهاية قم وبايع؛ أأنت أفضل من الإمام الحسن (عليه السلام)! ما هي الموجبات والأسباب التي تدفعك لأن تذهب وتضع نفسك في هذه المعركة الكبيرة؟!
لقد واجه الإمام الحسين (عليه السلام) هذا النوع من الشبهات والإشكالات بشكل مستمر ومتواصل[3] - من حين خروجه من المدينة وحتى لحظة وصوله إلى مكة وإلى أن وصل إلى كربلاء، ومن لحظة وروده كربلاء والى يوم عاشوراء- من قبل شخصيات عاقلة لها شأنها، وناقشته بخلفية العقل المدبّر الناظر إلى المصالح وهو ليس غريبًا أبدًا عن العناصر القيمية!
في ذلك الوقت وقف الإمام الحسين (عليه السلام) أمامهم ثابتا- وهو الشخصية المجسّدة للقيم-؛ أي أنه لم ينس الهدف، ولم تدفعه هذه الكلمات إلى ترك الخط المستقيم الذي يعرفه هو؛ وهم لا يعرفونه[4].
الاستقامة الحسينية والأعذار الشرعية
فالإمام الحسين (عليه السلام) وقف أوّل الأمر بوجه هذه الحكومة، في وقت لم تكن المشاكل قد برزت بعد، ثم غدا يواجه المشاكل الواحدة تلو الأخرى. فكانت مسألة الاضطرار للخروج من مكة، ثم اندلاع المعركة في كربلاء وما تلاها من الضغوط التي تعرّض لها في تلك الواقعة.
أحد الأمور المهمة التي تعترض سبيل المرء في المواقف الكبرى هي الأعذار الشرعية. فالفروض أو التكاليف توجب على الإنسان أن يؤدّيها، ولكن حينما يستلزم مثل هذا العمل وقوع إشكال كبير- كأن يقتل فيه على سبيل المثال أشخاصٌ كثيرون - هنا يشعر المرء أنّه لم يعد مكلّفًا.
معروفة هي الأعذار الشرعية التي تتالت في وجه الإمام الحسين (عليه السلام) وكانت كفيلة بصرف أي إنسان سطحي الرؤية عن هذا السبيل؛ فقد واجه أولًا نكول أهل الكوفة ومقتل مسلم بن عقيل. وهنا كان بإمكان الإمام الحسين (عليه السلام) أن يقول: أنَّ العذر بات شرعيًا وقد سقط التكليف، فأنا كنت عازمًا على عدم البيعة، ولكن تبيّن لي أنّ موقفًا كهذا لا يمكن الاستمرار عليه في مثل هذه الأوضاع والظروف، والناس لا طاقة لهم على التحمّل. إذن فالتكليف ساقط وأنا أبايع مكرهًا.
المرحلة الثانيّة هي واقعة كربلاء بذاتها، حيث كان بمقدور الإمام الحسين (عليه السلام) عند مواجهة ذلك الموقف أن يتصرف على شاكلة الإنسان الذي يحلّ معضلة المواقف الكبرى بمثل هذا المنطق ويقول: إنّ هؤلاء النسوة والصبية لا قبل لهم بتحمل هذه الصحراء المحرقة، وعلى هذا فالتكليف مرفوع. فيميل نحو التسليم ويقبل بما لم يكن قبله حتى ذلك الحين. أو حتى بعد اندلاع القتال في اليوم العاشر واستشهاد ثلة من أصحابه فهناك تكاثرت عليه المصائب وبات بإمكانه التذرع بأنَّ القتال لم يعد ممكنًا، ولا إمكانية للاستمرار، ولا محيص من التراجع. أو حينما تكشّف للإمام الحسين (عليه السلام) بأنّه سيستشهد، ومن بعد استشهاده ستبقى حُرَم الله وحُرَم النبي (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) بيد الرجال الأجانب. وهنا يعرض له موضوع الشرف والعرض. وكان له - باعتباره إنسانًا ذا غيرة - القول بارتفاع التكليف: لأنني إذا واصلت هذا الطريق وقُتِلتُ فإنَّ النساء من آل الرسول وبنات أمير المؤمنين وأطهر نساء الإسلام سيقعن سبايا بيد الأعداء من الرجال الذين لا أصل لهم ولا فصل ولا يفقهون شيئًا من معاني الشرف والغيرة؛ إذن فالتكليف مرفوع.
لو شاء الإمام الحسين (عليه السلام) النظر إلى بعض الحوادث الشديدة الألم والمصائب المرة كحادثة استشهاد ابنه "علي الأصغر" وسبي النساء وعطش الصبية ومقتل الشبان وغيرها من الحوادث الأخرى المروّعة في كربلاء، بمنظار المتشرّع العادي ويتغاضى عن عظمة دوره ورسالته، كان باستطاعته التراجع خطوة بعد خطوة، ثم يقول سقط التكليف عني، والآن لا مناص من مبايعة يزيد، وإنّ «الضرورات تبيح المحظورات». إلاّ أنّه (عليه السلام) لم يتصرف على هذه الشاكلة. هذه هي استقامة الإمام الحسين (عليه السلام) وهذا هو معنى الاستقامة.
ليست الاستقامة بمعنى تحمّل المشاكل في أي موضع كان، لأنّ تحمّل المصائب بالنسبة للإنسان الفذ العظيم أيسر من تحمل المسائل التي تبدو في المقاييس- المقاييس الشرعيّة والعرفيّة والعقليّة البسيطة- خلافًا للمصلحة، وإن تحمّلها أصعب من تحمّل سائر المصائب.(14/3/1375).
افرضوا أنهم عرضوا القضية على الإمام الحسين (عليه السلام) على الشكل التالي: تريد أن تجاهد في سبيل الله، هذا جيد جدًا، تريد مواجهة يزيد، بالطبع هذا جيد أيضا، تريد ان تضحي بنفسك، وأنت مستعد وحاضر، هذا جيد جدا، لكن ذلك الطفل ذي الستة أشهر الذي كان يتململ من شدة العطش، بأي مقياس ودليل يظهر على هذا النحو؟! قل كلمة وأرح هذا الطفل!
لاحظوا، فالاستقامة تظهر وتتجلى على هذا النحو، أي عندما تعترض طريق الإنسان فجأة مسألة، يمكن أن تجعل الإنسان، حتى الفذ والفطن[5]، عرضة للشك والتردد.(14/3/1375).
الاستقامة والبصيرة، مقتطف من كلمات سماحة الإمام القائد السيد علي الخامنئي (دام ظله) حول البصيرة والاستقامة
[1] -(من الصحابة والوجوه)
[2] - مناقشة عبد الله بن الزبير مع ابي عبد الله الحسين (عليه السلام): شرح الأخبار، ج3، ص143؛ الكامل، ج4، ص38؛ بحار الانوار، ج44، ص364. مناقشة عبد الله بن جعفر مع ابي عبد الله الحسين: الفتوح، ج5، ص67؛ الارشاد، ج2، ص 68-69.
[3] - الطبقات الكبرى، الخامسة1، صص 444-447؛ أنساب الاشراف، ج3، صص163؛ تاريخ الطبري، ج4، ص 253، و 286-287؛ مروج الذهب، ج3، ص67؛ مناقب آل أبي طالب، ج3، ص56 و60؛ دلائل الامامة، ص182؛ مقتل الحسين، الخوارزمي، ج1، صص 271-273؛..
[4] -في لقاء أعضاء الشورى المركزية، الجهاد الجامعي، 8/10/1376. (29/12/1997).
[5] - في لقاء قادة ومسؤولي الحرس الثوري،14/12/1376 – 5/3/1998