بسم الله الرحمن الرحیم
الحمدُ لله ربّ العالمین و الصلاة والسلام التامّین علی سیّد المرسلین محمّد المصطفی وعلی الأئمّة الأطهار من آله الطیّبین، والتحیّة والرضوان علی أصحابهم الأبرار والمؤمنین الأخیار.
والسلام علی الحفل الکریم ورحمة الله و برکاته.
إنّ الإمام أباعبدالله، الحسین الشهیدعلیه السلام و إمامته و نهضته ومشهده، و کربلاءه، و مجاوریه، وزائریه، وزیاراته، وکراماته، و مجالس عزائه، و شعائره، کلّها أمورٌ معروفةٌ کمّاً وکیفاٌ، یعیشها الشیعة، و قد تحدّثت عنها الکُتب و في مقدّمتها الكتب الإلهيّة المقدّسة، و الأحادیث الشریفة، و قد أُشبع البحث عنها في کتب السیرة والتاریخ، بجهود أعلام المؤلّفین من المحقّقین، ومن مختلف الأطیاف، و بأنواع الأسالیب نثراً و نظماً و روایة و حکایة، و استوفى الخُطباءُ الأجِلّاء إعلانها علی المنابر، حتی استوعبتها الجماهیرُ الموالیةُ، وَعیاً، واستیقنتها قلوبُهم وأنقسهم دَرْکاً، و بلّغوها للآخرین، و لایزالُون علی هذه السیرة، یُعیدون الحدیث علی طول المسیرة حتی یتحقّق الخلودُ المنشودُ الذي عبَّر عنه الشاعر:
کذبَ الموتُ فالحسینُ مخَلَّدْ
** ** کُلَّما أَخْلَقَ الزمانُ تَجدّدْ
و نحنُ تفتخرُ بأنّنا علی هذه المسیرة نتّبعُ سیرة الرسول الأکرم صلّی الله علیه و آله و أهل البیت ^ حیثُ أکّدوا علی ذلك کما فی الحدیث الشریف عن الإمام الصادق جعفر بن محمّد علیه السلام، قال: نَظَرَ النبيُّ صلّی الله علیه و آله إلی الحُسین بن عليّ - و هُوَ مُقبلٌ - فاُجْلسَهُ في حِجْرِه، و قال: «إنّ لِقتل الحُسینِ حرارةً في قُلُوبِ المؤمنینَ لاتَبردُ أَبَداً».
ثمّ قال الصادق علیه السلامُ: «بأَبي قتیلُ کلّ عُبْرة... لایذکرهُ مُؤمنٌ إلّا بکی». رواهُ في (مستدرك الوسائل) «10/318» الحدیث (1084) عن کتاب (الأنوار) للمحدّث ابن همّام.
فهذا الحدیث دلّ علی (تعمیم العبْرةِ علی الحسین) وعلی (استمرار الحُرقة علی قَتْله) إلی الابَدَ.
وبِهَدْیِهم اهتدَینا إلی تعظیم مُناسباتهم نَفرحُ لِفَرحِهم و نحزنُ لِحُزنِهم کما أرادوا، إحیاًءً لذکرهم، وفي کلّ المناسبات نُغرّج علی ذکر الحسین علیه السلام و مشهده، ویکون هو المحور، لیتحقّق ما أخبریه الرسولُ صلّی الله علیه و آله من «تعمیم العبرة علیه» و «تستمرُّ الحُرقة» ولا تخمدُ إلی الأَبَد.
والأسالیبُ التي نُؤدّي بها هذه الوظیفةَ، تتعدّد و تتنوّع - کما أشرنا - حسب الأذواق و التخصّصات والرغبات، وبحسب ما عند کلّ واحدٍ من الإمکانات، و ما یملکه من الثقافات.
وقد وفّقنی الله الی الوقوف علی أسالیب، سأعرضها هنا، أحسبُها الأُهمّ، لعدم وقوفي علی مَنْ زوالَها کما سأعرض.
الأسلوب الأوّل:
إنّ المصادر المعتبرة والموثوقة، التي استوعبتْ ما یرتبطُ بالحسین علیه السلام و شؤون سیرته، والمرویّة عن المعصومین ^ علی کثرتها و أهمیّتها، لم نستوف نحن الاطّلاع علی جمیعها ’ لما جری علی تراثنا العزیز من الإبادة علی أثر غفلة الأولیاء، و حقد الأعداء،
لکنْ - و بفضل الله و حسن عنایته - إنّ المبتقی من التراث الحسینيّ، باقٍ في المخازن و دور الکتب، وکذلك في ثنايا التراث الإسلاميّ العامّ، الذي یحتوي طيًّ مباحثه وفصوله و أبوابه، روایات ومقاطع وأنباء وحوادث مهمّة، حول سیرة الحسین علیه السلام وشؤونه، فالمفروض علی العلماء والأدباء والمحقّقین للتراث أن یبذلوا جهوداً - أکثر ما مضی - في البحث عن ذلك وإحيائه وضبطه، ونشره.
وقد وقفتُ في تجوالي بین المصادر الحدیثیة علی حدیثٍ نبويّ شریف احتوی عناوین مهمّة، أطلقها الرسول الأکرم صلّی الله علیه و آله على «الحسین علیه السلام» هي علی منتهی الروعة، أوردهُ هُنا، وأذکر أسلوباً لعرض العناوین التي وردت فیه.
روی المحدّث الأقدم الشیخ محمّد بن عليّ بن الحسین القمّي ابن بابویه الشهیر ب (الشیخ الصدوق) (ت 381 هـ) في کتابه القیّم (عُیون أخبار الإمام الرضا علیه السلام) (1 ص 59 - 64) رقم (29) من الباب (6) حدیثاً طویلاً، بسند موصول إلی الإمام محمّد الجواد علیه السلام عن أبیه الإمام الرضا علیه السلام عن آبائه الأئمّة ^ عن الإمام الحسین علیه السلام، قال: دخلتُ علی رسول الله، وعنده أُبَيٌّ بن کَعْب، فقال لي رسول الله:
«مَرْحباً، یا أباعبدالله، یا زینَ السماواتِ والأرضینَ».
قال أبيّ: كيف يكون – يا رسول الله - « زینَ السماواتِ والأرضینَ» أحدٌ غيرك؟.
قال له رسول الله:
«يا أُبَيُّ، والذي بُعُثني بالحقَّ نبیّاً: إنّ الحُسین بن عليّ في السماء أکبرُ منهُ في الأرض.
وإنّهُ لمکتوبٌ عن یَمین عرشِ اللهِ عَزّوجَلّ:
« مِصْباحُ هُدَیً وسَفینةُ نَجاة».
« وإمام خَیْرٍ، و یُمْنٍ، و عِزٍّ، و فخرٍ، وعلِمٍ، وذُخْرٍ».
إنّ هذا الحدیث الشریف احتوی أُموراً عظیمة من شؤون الحسین علیه السلام بدأ بترحیب الرسول صلّی الله علیه و آله بذکره بالکُنیة «أبا عبدالله» التي هي تدلّ في العرف العَرَبي علی التعظیم والتبجیل، وقد أطلقها الرسول صلّی الله علیه و آله للحسین علیه السلام و هو صبيٌّ.
ثمّ خطاب الرسول صلّی الله علیه و آله للحسین: «یا زین السماوات والأرضین» الأمر الذي أدهش الصحابيَّ أبَیّاً، فتساءل بما ذکره وکان جواب الرسول صلّی الله علیه و آله، بما أقعد أبَیّاً عن الکلام لأن الرسول صلّی الله علیه واله فلم یُجبْه إلّا بعد أ ن أقسم ذلك القسم العظيم وصرح في تاجواب بأمر غيرالمسؤول عنه، فقال: «إنّ الحُسینَ في السماء اکبر منه في الأرضَ»!
والحکمة في هذا الجواب: أنّ الصحابيّ أُبَیّاً إذا لم یعرف للحسین مقامَه أن یکون زیناٌ للسماوات والأرضین، فکیفَ بغیره من الناس! وتصريح الرسول صلی الله علیه وآله بمقام الحسین في السماء وأنّه «أکبر منه فی الأرض» لیکشف عن عظمة الحسین هکذا وهو أعجب من التصريح السابق.
وأضاف الرسول علی ذلك ما ذکر من «العناوین» للحسین، مما وهبه الله عزّوجلّ، وأمربکتابتها عن یمین عرشه - وهو أرفع مکان في السماء - وفي هذا دلالة علی ربّانیّة (هذه العناوین) وکونها مقدّسة، لقُدس الموضع الذي کتُبت علیه.
ثمّ إنّ «العناوین» المعروفة عند المسلمین للحسین علیه السلام وسیرته کثیرة، وردت في النصوص المرویّة بطرق مشهورة، عن المعصومین ^، نذکر منها:
عنوان (الشهادة):
إن الشهادة في سبیل الله هي السِمَة العامّة للمعصومین الذین أعلنوا عن قولهم: «ما منّا إلّا مقتولٌ أو مسمومٌ » و قد سجّل التاریخ تحقّق ذلك لهم، ولکنّ الحسین علیه السلام تمیّز بلقب «سیّد الشهداء» فاجتمع له العنوانان «الشهادة» و «سیادة الشهداء».
عنوان (الوراثة عن الأنبیاء):
حیث نتلو في أشهر نصوص زیارات الإمام الحسین علیه السلام انّ الحسین «وارث آدم» و «نوح» و «إبراهیم» و «موسی» و «عیسی» و جدّه «محمّد» الأنبياء العظام عليهم السلام.
فلو أضیقت عناوین «الشهادة» و«السیادة» و«الإرث» هذه إلی ما مرّ في «العناوین التي ذکرت في حدیث الرسول صلی الله علیه و آله، لبلغت الکثرة.
وإذا کانت کلّ هذه «العناوین» متجسّدةً في شخص الحسین علیه السلام فقد کانت الهالة في وجود الإمام الحسین في مشهد کربلاء، فأصبح ذلك المحور، موضوعاً ملأ التاریخ، و سود صحف الکتب، وأعین قرآئها، و آذان مستمیعها، و عُدّ من أفجع «التراجید یا» المحزنة.
ولو نظرنا إلى الذین خطّطوا فصولها، و مثلوا أدوارها، کمّاً و عدداً، وکیفاً و صوراً، نجدُ أنّها قائمة حول شخص الإمام الحسین علیه السلام، وتدور علی فلك أصحاب الکساء، الذین اشترکوا في الأدوار المهمّة فیها:
فالرسول صلّی الله علیه و آله حضر فیها ممثّلاً بعليّ بن الحسین الاکبر، الذي کان أشبه الناس بالرسول خَلْقاً و خُلُقاً و منطقاً.
و تمثل الإمام أمیرالمؤمنین علیه السلام في ابنه العبّاس أبی الفضل السقّاء.
و مثلّت فاطمة بنت رسول الله: ابنتُها زینب الکبری بطلة کربلاء، التي:
(ورثتْ مصائب أمِّها * وغدتْ تُقابِلُها بِصَبر أَبِیْها)
وحضر الإمام الحسن المجتبی علیه السلام ممثّلاً في أولاده القاسم و إخوته.
والحسین خامس أصحاب الکساء - فقد حضّر بذاته المقدّسة لیقدّم نفسه «الفداء» في هذه «التراجید یا» المحزنة.
وأما (المشهد) مکاناً: فهو کربلاء، وزماناً: فهو یوم عاشوراء، والقائمون بها بعد اصحاب الکساء: هم الأنصار الأولیاء الأبرار.
وقام بأدوار الجريمة: أصحاب الجهل والطمع والطاعة العمیاء لولاة الفاسدین أعداء الدین.
و(المشاهدون): هم الؤمتون عبر التاریخ، والمحققون والمثبتون وقائعه ومواقعه، والباحثون عن أسبابه ونتایجه، مضافاً الی الجمهور من ذوي الوجد ان الصادق والضمیر الحيّ، الذین اعترفوا بانّ ا لعدلَ فضیلةٌ، والظلمَ رذیلةٌ.
وفي مقدمة هؤلاء جمیع الأنبیاء، والأوصیاء والأئمّة والأولیاء، والعلماء والمجاهدین، وتبعهم المظلومون والمنکوبون مدی التاریخ.
وقد أصبح المشهد:
«عَبرةً» لا ترقأ أبداً، کلّما تذکروا ذلك المشهد.
و «عِبْرةً» لکلّ من یتحلّی بالإنسانیّة.
إنّ (العناوین) المعدودة - في ما ذکرنا - لکلٍّ منها مساحة واسعة للبحث والتحلیل والتدقیق ومعرفة ما له من التأثیر، وما له من الدور في نفوس القارتین والسامعین، الطالبین للمعرفة والهدایة والاستبصار.
وسنذكر الهدف من عرض هذا الأسلوب في مقطع آخر من هذا المقال.
والآسلوب الثاني الذي أعرضه هنا:
هو ما التزمته في کتابي (الحسین علیه السلام سماته وسیرته) وهو: إنّ النُصوص التي نعتمدها فّي ما یرتبط بالسیرة الحسینیّة، نعرضها بأسلوب نربطها بما حولها من ظروف، ولا نکتفي بترجمة النصّ وتوضیح مفرداته و عرض ما فیه من معلومات قد تکون واضحة للسامع أو مسموعة له بشکلٍ مکرّر علی طول السنوات أو المجالس المتعدّدة والمتشابهة نوعا مّا.
بل، أن نجعل النصّ في الإطار الذي يجمع ما له من ظرف زمنيّ فيه صدر النصّ، و المکاني الذی طبق ووقع فيه مؤدى النض، و تأثیر قائله، و المخاطب الملقى لإليه، لتأثير كلّ ذلك في کشف المراد من النصّ.
ثمّ الدخول الی المتن وربطه، بما سبق من الزمان والمکان والقائل والمخاطب، وغیر ذلك من الأسباب والمسبّبات، وبالتالي الاستنتاج من النصّ للتعریج علی ما یرتبط بالحسین وسیرته حسب ما ثَبَتَ من أخبار المشهد.
وقد تمّ عملي ذلك علی هذا الأسلوب بالاعتماد علی ما رواه المؤرّخ ابنُ عساکر الدمشقيّ، في کتابه الکبیر (تاریخ دمشق) من تاریخ الإمام الحُسین علیه السلام.
وکان الهدف من هذا الاعتماد: إثبات أنّ في تُراث المسلمین عامّة ما فیه الکثیر ممّا یکمّل المقصود من استیعاب المنصوص حول سیرة الحسین علیه السلام.
و أمّا المصادر الأهمّ: فهي ما رُوي في التراث عن الذین لکلامهم حجیّة وقبول، وهم الصادقون الأمناء، وفي مقدّمتهم أصحاب العزاء والأحرص علی معرفة الواقع في تلك الواقعة ومحورها، وهم الواقفون علی ما کان عند الأنبیاء اولي العزم من أخبار الحسین وأسراره أولئك الذین (ورثهم الحسین) کما ورد في تلك العناوین لارتباطهم بالغیب الموحی إلیهم بالنبوّة، وفي مقدّمتهم سیّدالأنبیاء والمرسلین الرسول الأکرم صلّی الله علیه واله جدّ الحسین، الذي ربّاه في حِجره، وزقّهُ العلم زقاً، فهو الأعرفُ به وبما له من الشأن، وما سيجری علیه في مستقبل أمره لا طلاعه علی حاضره و مستقبله، فما أعلنه علیه من العناوین، هي الأصدقُ والأحقُّ والأفضلُ، کما رأینا في الحدیث الشریف المذکور، وحدیثُهُ أصدقُ الحدیث في حقّ سبطه وریحانته وقرّة عینه فما أکثر ما تحدّث عن الحسین قبل ولادته، و حینها یوم ولادته، وما أخبر عن أنباء الغیب في شأنه، وقد عُدَّ جمیع ذلك من (دلائل النبوّة) و (أعلام الرسالة) و(أنباء الغیب) ولو جمع کل ذلك فی کتاب باسم (الحسین علیه السلام في تراث النبيّ صلّی الله علیه و آله) لکان من أروع ما یُمکنُ.
وکذلك ما روی عن الأئمّة المعصومین ^ الذين حافظوا علی المشهد الحسینيّ، وآعادوا ذکره، وأحْیَوا أمره علی طول قترة الإمامة:
فهذا أمیرالمؤمنین علیه السلام قد ورد في سيرته ما ذکره عن الحسین علیه السلام و شهادته محدّداً لمکان المشهد علی أرض کربلاء، لما وقف في طریق صِفّين علی تلك التُربة في ذلك الوادي، وتحدّث عن قدسیّة تلك التربة، وعظمتها وأخبر الجیش الذي کان یصحبُه عمّا یجري علیها ومایرتبط بفصول ذلك المشهد الرهیب، منادیاً الحسین علیه السلام و معزّیّاً.
والإمام الحسن المجتبی علیه السلام في ما روي عنه ممّا یرتبط بأخیه الحسین، أعلن - و هو في أشدّ حالاته یُعاني من السُمّ الذي دَسَّهُ إلیه معاویة - و ذکر الحسین و یومه، فقال: « لا یومَ کیومك! أبا عبدالله».
وأمّا السجّاد زین العابدین علیه السلام ابن الحسین والمناضل معه في معرکة ذلك المشهد، حتّی (أرْثُثَّ) أي أخرج من المعرکة جریحاً، کان وهو الشاهد لکلّ فصول ذل المشهد، والذي کان عضواً ممثلاً فیه، وأصبح السفیر الناطق عن مجریاته، قولاً، و عملاً، و نقل تفاصیل انفرد بها، عن ذلك المشهد.
والأئمّة الباقون ^ لم تخلُ روایات کلّ منهم عن ذکر الحسین و مشهده، بطرق شتّی، من الاحتفال للحزُن علی المصیبة الراتبة، أو حَثّ الشعراء علی رثائه، أو تشجیع القُرّاء والخطباء والمعزّین علی القیام بذلك، فکان منهم:
المُفجَّع، والمُستَرِقّ، المُنَشَّدُ، واَلمُسْتَعْطِفُ، والمُسَلَّي، وغیرهم.
وحتّی القائم المنتظر الحجّة المهديّ عجّل الله فرجه، فإنّه قد ورد عنه في (النُدّبَة) علی الحسین ومشهده، ما یقرح الجفون وهو المطالب بثاره من الأعداء عند ظهوره، جعلنا الله من أنصاره.
وأمّا الحسین علیه السلام نفسُه: فقد أتمّ الحُجّة في التعریف بالمشهد بکلّ ما یرتبطُ به، في تعریف شخصه الشریف - محور المشهد - وتقدیم ذاته في کلّ جزئیاته هدفاً و مرمی، وذلك في خطبه وإعلامه و نداءاته و حدیثه وإقداماته، و تضحیاته وماجری علیه و أمامه علی أصحابه، بل یجري علی أهله و عیاله، وما أخبر عن ما یصيب أصحابه وأهل ولائه في مستقبل الأیّام والعصور، في الدنیا وبعدها في الآخرة.
إنّ الإمام الحسین علیه السلام بذلك هو من أعظم المصادر وأقواها حجّة ودلالة واحتواءً لکلّ العناوین المتصوّرة، المعروف منها المذکور، والمجهول غیرالمعروف.
ومن مصادر المشهد الحسینيّ هو المرويّ عن سیدة الموقف (زینب بنت أمیرالمؤمنین) التي دلّت بوجودها في المشهد علي (عناوین) فریدة، من البطولة والجُرأة، والرزانة والإدارة، والدعم والعزم، فکانت (بطلة کربلاء) حقّاً، وقد أدّت دوراً مهمّاً في الإعلان عن جوانب من المواقف، وفي بلاط الحکّام الظلمة، بکلّ صراحة وطلاقة وفصاحة وبلاغة، حتّی قال أحدهم عنها:
«لمْ أرَخَغِرةً - والله - أنطقَ منها، کانّما تنطِقُ وتُفْرِغ علی لسانأمیرالمؤمنین علیه السلام»
وبهذه النبرة واللهجة، کشفتْ عن واقع«المشهد» وفضحتْ القتلة والظلمة، و كشفت جرائم الحکّام الفسدة، وعبّرتْ بکلّ صراحة عن ظُلامات أهل البیت ^ وهي الصدقة المصدّقة لکونها ممّن حضر و مثّلَ في ذلك المشهد الرهیب الفیجع.
إنّ ما تحتویه هذه الشهادات والإعلانات والتصریحات والأعمال من هؤلاء الطیّبین الطاهرین، أهل البیت ^، تحتوي علی عشرات (العناوین) التي تحتویها، مضافاً إلی المصرّح بها في ما أوردنا من النصوص.
والهدف من ما عرضنا من الأساليب:
والذي نركرُ علیه - بعد هذه الجولة - هو أن تراثنا الموثوق یحتوي علی الکثیر من أخبار المشهد الحسینيّ وعناوینه المهمّة، ممّا لو قام جیلنا الحاضر بالبحث عنه، في ما بأیدینا من التراث، أو في ما هو مخطوطٌ منه، أو في عموم التراث الإسلامي، بحثاً دقیقاً مستوعباً لعثرنا علیه، وفیه من العناوین المهمّة التي تنیر جوانب أهمّ من المشهد الحسینيّ.
هذا من جهة، ومن جهة آخری: فانه لابدّ من عرض العناوین مع تدقیق و تحقیق و بحث عمیق عن متؤدّی کلّ (عنوان) وأبعاده، و مبدءه و سببه ومغزاه وآثره و نتیجته، وتطبیقه، وتعیين موقعه من المشهد الحسینيّ، حتّی یکون لنشره وعرضه علی المجتمع الإسلاميّ، بل الإنسانيّ، فضلاً عن مجال المجتمع المؤمن الحسینيّ، مؤثراً ومفیداً ومنتجاً.
ونداؤنا لکلّ من یحمل فکراً، و منهجاً و أسلوباً یوصل الی هذا الهدف، فالمطلوب والمفروض أن یقوم کلّ منهم بما یحمله من التخصّص، والقُدرة العلمیّة التي یحملها، کي يؤدّي الوظیفة بأحسن ما یُرام و یقوم بالعمل علی إعداد علميّ بعد الاعتماد النصوص الموثّقة بدقّة علمیّة، وأن تکون الأعمال مرکّزة علی العناوین المنتقاة بالبحث الدقیق الوافي، مع التطبیق علی المشهد الحسینيّ المعروف والموثوق، لیکون نشره مؤکّداً ومقبولاً لدى أهل الخبرة.
فمثل هذا هو المراد من کلّ الجهود التي تبذل من أجل المشهد الحسینيّ، فلابدّ أن یقوم علی اسس التوثیق، والتبیین، والتطبیق، بالأسلوب المطلوب.
إنّ العمل الحسینيّ من خلال (العناوین) المعتمدة علی أوثق المصادر والنصوص هو من الأعمال الصالحة، ونحن الشیعة - علی مدی القُرون - بل کلّ الذین قرأوا أو سمعوا عن الحسین ومشهده من خلال (العناوین) تلك، تعلّموا المعارف الدینیّة، والمعلومات الصحیحة من أصول الدین وفروعه والتاریخ الصحیح و تحلیله، کما تعلّموا الأخلاق والجهاد والصبر حتی الشهادة في میادیق التضال والتضحیة، وکلّ مکارم الأخلاق والسیرة الطیّبة المستلهة من السیرة الحسینیّة.
وقد أصبح هذا الأمرُ حقیقةً اعترف بها حتّی الأجانب: بأن الملتزمین بالمذهب الشیعيّ، وببرکة الحسین ومشهده و مجالس مأتمه: یحملون ثقافة عالیة من شؤون المجتمع المدنيّ والإنسانیّة، وقد سجّل ذلك المتشرقُون الغربیّون - الذین وقفوا علی الشرق - ومنهم المستشرق الفرنسي (جوزیف) في کتابه (الإسلام والمسلمون) فقال:
ولونظرنا الیوم في أقطار العالم نری أنّ الأفراد التي هي أولی بالمعرفة والعلم والصنعة والثروة، إنّما توجد بین الشیعة»
وقال: «لایمضي علی هذه الفرقة زمان قلیل إلا وتفوق سائر المسلمین من حیث العدد».
ونقول: إنّ ذلك من خلال المدرسة الحسینیّة العامّة والمفتوحة، والتي یطّلع المنتمون الیها علی (العناوین) الموثوقة التي حفظها الله للبشر، وحفظ معها الحقّ والعدل والصلاح، ومنَّ بها علی المستضعفین الذین جعلهم الوارثین للأرض، وجعلهم أئمّة یهدون إلی الحقّ، وبه یعملون.
وإنّ ما یسرّه الله للبشرمن الإمکانات في هذا العصر من وسائل الإعلام الحُرُّ، والشبکة المعلوماتیة الواسعة، وأدوات الاتصال المتنوعة هو التمهید لنشر الثقافة الحسینیّة علی العالم، من خلال عناوین المشهد الحسینيّ.
وإنّ الدور الذي تؤدیه الشعائر الحسینیّة المقدّسة، التي بهرتْ أهل عالمنا الیوم، وقد عرف الکثیرُ من الناس فصولا من المشهد الحسینيّ، فإنّ أطّلاعهم علی (العناوین) المذکورة، وکشف أسرارها هي من أفضل الشعائر الحسینیّة، وأقواها وأنفذها في قلوب الناس، الذین خلقهم الله علی الفطرة الصالحة، بل هي تزیل کلّ الأدران والشبهات، والجهل الذي استولی علی تلك الفطرة الإلهیّة التي فطر الناس علیها.
وتحقیق هذا الهدف السامي یتوقّف علی الهمم العالیّة من أصحاب العلم والقلم والسعي والإرادة أن یسعوا في هذا المجال، باستخراج ما في هذه (العناوین) من أسرار و آثار وأهداف و نتائج، وکذلك غیرها من (العناوین) المبثوتة في التراث الخالد.
وعلی العلماء والخطباء والمثقّفین والباحثین في التراث من عارفي الحسين عليه السلام أنّ یتمیّزوا بالعلم والدقّة وبذل الجهد في سبیل ذلك وأن يتسابقوا في هذا المجال.
ثمّ إنّ مثل هذا العمل الصالح العظیم یتوقّف علی الصلاح، والإخلاص والبراءة من التظاهر والتنافُس لأنّ الهدف منه هو النُصح للأمّة، وللمؤمنین بالحسین ومشهده، کي یتحقّق من خلاله ما قصده الحسین علیه السلام وأطلقه في ندائه الأوّل الذي أعلنه عند الخروج إلی مشهده العظیم، وبیّن قيه منهجه القویم، وهو: (طلب الإصلاح في أمة جدّه وشیعة أبیه).
وفّقنا الله عزّوجلّ للقیام بهذا الأمر بأفضل صورة وأنفسها، وفي الختام دعو بهذا الدعاء الشریف:
اللّهم ارزقنا عقلاً کاملاً، ولُبّاً راجحاً، وعملاً کثیراً، وأدباً بارعاً، واجعل ذلك کلّهُ لنا، ولا تجعله علینا، برحمتک یا أرحم الراحمینَ. اللهم آمین، والسلام علیکم ورحمة الله وبرکاته.
حرّر في 4/ شهر رجب المرجّب/1436هـ
وکتب السیّد محمّد رضا الحُسينيّ الجلالي