الإمام جعفر الصادق (ع) السادس من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) عالم جليل وعابد فاضل من ذرية النبي الاكرم محمد (ص) وله مكانة جليلة عظيمة لدى جميع المسلمين، وصاحب المدرسة العملاقة في الفكر والمنهاج، وقد استطاع أن يؤسس في عصره اكبر مدرسة فقهية، فتتلمذ على يده العديد من العلماء من جميع الطوائف.
الإمام جعفر الصادق (علیه السلام)، معین لا ینضب، بحر عجاج، متلاطم الأمواج، لا یسبر غوره، ولا یدرک ضفافه. وقد تخرج علیه فطاحل العلماء، وأساتذة المدارس الفقهیة ورؤساء المذاهب، وقد تتلمذ علیه ونهل من نمیر علومه وغزیر معارفه الجم الکثیر، أمثال هشام ابن الحکم، ومؤمن الطاق، ومحمد بن مسلم، وأبان بن تغلب، وأبو بصیر، وحمران ابن أعین، وأبو حنیفة النعمان، ممن یطول ذکرهم، وقد ترجمنا لبعض الثقات منهم فی فصل الثقات من أصحابه ورواته یربو على الثلاثمائة وخمسین. وقد أخذ هؤلاء العلماء عنه علم الحدیث والفقه والأصول والتفسیر، بالإضافة إلى العلوم الأخرى التی توسع (علیه السلام) فی تدریسها کالأخلاق والفلسفة والطب والکیمیاء والریاضیات والفلک وغیرها من العلوم الإنسانیة والحیاتیة. وقد اعترف بفضله العلماء، منهم: أبو حنیفة، حیث قال: لولا السنتان لهلک النعمان ، یرید بذلک السنتین اللتین تتلمذ علیه فی الکوفة.
ومن الأمور التی لا یختلف فیها اثنان کون شخصیته (علیه السلام) ذات أبعاد متعددة وجوانب مختلفة ظاهرة کالشمس فی رابعة النهار، إذا فهو الرائد الذی من أتى بعده فهو عیال علیه، منه أخذ وبه اقتدى. وأما مدرسته التی انتهجها وسار علیها، فهی امتدادا لمدرسة جده المصطفى وأبیه المرتضى صلوات الله علیهم أجمعین، وهم الذین أسسوا قواعدها وشیدوا بناءها، ثم جاء من بعدهم الإمام الصادق (علیه السلام) فأسس مدرسته الکبرى فی الکوفة بعد مدرسة المدینة المنورة حرم جده، وأرسى قواعدها یلقی فیها علومه على تلامذته وطلاب علومه، حتى بلغ عددهم ما ینیف على الأربعة آلاف طالب وراوی للحدیث عنه. قال الوشاء: دخلت مسجد الکوفة فوجدت تسعمائة شیخ، کل منهم یقول: حدثنی جعفر بن محمد (الصادق). ولولا وجود شبح الإرهاب السیاسی والإرعاب الفکری الضارب أطنابه حین ذاک على العالم الإسلامی لمنع الحدیث روایة وتدوینا بصورة عامة، وعلى مدرسة أهل البیت ومن ینتمی إلیها بصورة خاصة، لوجدت علم آل محمد (صلى الله علیه وآله) یشع نوره إلى عنان السماء، ویضئ وجه العالم کله. لقد نشط أهل الحدیث والمفسرون، ودونت المجامیع الحدیثیة، وتطورت الدراسات الفقهیة وترکت آثارها وبصماتها على العلماء حتى نشأت المذاهب الفقهیة المتعددة، ومع کل ذلک فهم یقرون بأعلمیة الإمام الصادق (علیه السلام) ویذعنون لآرائه ومرجعیته. وکان أبو حنیفة یقول: ما رأیت أحدا أفقه من جعفر بن محمد الصادق، بعد أن سأله عن أربعین مسألة من المسائل المعقدة المختلفة فأجاب عنها کلها بیسر وقدرة مبینا مختلف أوجه الآراء فیها، کما روى تلک المسائل ابن حجر العسقلانی فی تهذیب التهذیب. أما تصدی الإمام (علیه السلام) لحرکة الزندقة والإلحاد والغلو وأهل البدع والأهواء التی برزت بأعنف صورها فی عصر الإمام الصادق (علیه السلام)، والتی کادت أن تجرف عددا کبیرا من المسلمین، غیر أن تصدی الإمام وأصحابه ووقوفهم بوجه تلک التیارات الجارفة، ومناظراتهم بالأدلة الدامغة والبراهین الساطعة والحجج الواضحة، حتى استطاع أن یفوت الفرصة علیهم، وإفهامهم فساد مذاهبهم وبطلان حججهم، منهم من ذعن وآمن، ومنهم من لج وکفر، وقد ازدهر فی عصره (علیه السلام) علم الکلام وکان فی طلیعة تلامیذه وأصحابه هشام بن الحکم ومؤمن الطاق وغیرهم. کما استقطب الإمام الصادق (علیه السلام) نخبة طیبة من خیار أصحابه وتلامیذه، وأودعهم علومه ومرویاته، وکانوا على درجة کبیرة من التقوى والثقة والصلاح والضبط،
حسین الشاکری ذکرى ولادته (علیه السلام) - 17 ربیع الأول عام 1416 ه)
الفصل الأول:
ملامح شخصیة الإمام جعفر الصادق (علیه السلام)
الأسرة الکریمة:
الإمام أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام) من أسرة کریمة، هی من أشرف وأسمى أسرة فی دنیا العرب والإسلام، تلک الأسرة التی أنجبت خاتم النبیین وسید المرسلین، محمد (صلى الله علیه وآله وسلم) وأنجبت عظماء الأمة من الأئمة، وأعلام العلماء، وهی على امتداد التأریخ لا تزال مهوى أفئدة المسلمین وغیرهم، ومهبط الوحی والإلهام، ومبعث منهج الحق الذی تماوج فی بطاح البیداء، وأودیة الجبال وسفوح الروابی، فکان نورا على شاطئ السلام من مطلع الشمس حتى مغربها، تلک الأسرة التی کان یقودها سید العرب عبد المطلب بن هاشم، حیث قال: لا ینزل المجد إلا فی منازلنا * کالنوم لیس له مأوى سوى المقل وکما قال شاعر العرب - الفرزدق -: من یعرف الله یعرف أولیة ذا * فالمجد من بیت هذا ناله الأمم من هذه الأسرة التی أغناها الله بفضله، تفرع عملاق هذه الأمة، ومؤسس نهضتها الفکریة والعلمیة، الإمام الصادق (علیه السلام)، وقد ورث من عظماء أسرته خصالهم العظیمة، وسجایاهم السنیة، فکانت صفاته الحمیدة مل ء فم الدنیا.
والده: الإمام أبو جعفر محمد بن علی الباقر، ابن الإمام السجاد زین العابدین علی بن الحسین الشهید سبط رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم) وسید شباب أهل الجنة ابن علی ابن أبی طالب أمیر المؤمنین (علیه السلام)، وهو غنی عن التعریف، ورث المجد کابرا عن کابر، ومن أجدر بالإمام جعفر الصادق (علیه السلام) أن یفتخر بهذا النسب الرفیع المقدس، ویترنم بقول الفرزدق: أولئک آبائی فجئنی بمثلهم * إذا جمعتنا - یا جریر - المجامع لم تمض فترة طویلة من اقتران السیدة أم فروة بالإمام محمد بن علی الباقر (علیه السلام)، حتى حملت وعمت البشرى أفراد الأسرة العلویة بالمولود الجدید، ولما أشرقت الأرض بنور ولادته سارعت القابلة لتزف البشرى إلى أبیه فلم تجده فی البیت، وإنما وجدت جده الإمام زین العابدین (علیه السلام)، فهنأته بالمولود الجدید وأخبرته القابلة بأن له عینین زرقاوین جمیلتین، فتبسم الإمام (علیه السلام) وقال: إنه یشبه عینی والدتی (1). وبادر الإمام السجاد (علیه السلام) إلى الحجرة فتناول حفیده فقبله، وأجرى علیه مراسیم الولادة الشرعیة، فأذن فی أذنه الیمنى، وأقام فی أذنه الیسرى. والبدایة المشرقة للإمام الصادق (علیه السلام) أن استقبله جده، الذی هو خیر أهل الأرض وهمس فی أذنیه نشید الولاء للإسلام الخالد.
والدته: السیدة المعظمة الجلیلة: فاطمة بنت القاسم بن محمد بن أبی بکر، وتکنى أم فروة، وأمها أسماء بنت عبد الرحمن بن أبی بکر؛ عن إسحاق بن جریر، قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام): کانت أمی ممن آمنت واتقت وأحسنت، والله یحب المحسنین. قال (علیه السلام): وقالت أمی: قال أبی [الإمام الباقر (علیه السلام)]: یا أم فروة، إنی لأدعو الله لمذنبی شیعتنا فی الیوم واللیلة ألف مرة، لأنا نحن فیما ینوبنا من الرزایا نصبر على ما نعلم من الثواب، وهم یصبرون على ما لا یعلمون (1). مرضها: فی سنة تسعین من الهجرة انتشر مرض الجدری فی یثرب، فأصاب مجموعة کبیرة من الأطفال، وکان الإمام الصادق (علیه السلام) فی السنة السابعة أو العاشرة من عمره، فخافت علیه أمه من العدوی، ففرت به إلى الطنفسة من ریف المدینة. ولما استقرت السیدة أم فروة مع ابنها الصادق فقد أصیبت هی بهذا المرض دون أن تشعر به فی بادئ الأمر، فلما ظهرت علیها الأعراض، تنبهت إلى خطورة الموقف، ولم تهتم السیدة أم فروة بعلاج نفسها، وإنما کان همها الوحید إنقاذ ولدها جعفر فأبعدته عنها إلى مکان آخر، وأخذت تعانی آلام
أعراض المرض، وسریانه فی جسمها. ولما انتهى الخبر إلى الإمام الباقر (علیه السلام)، أوقف بحوثه ودروسه العلمیة واتجه لعیادة زوجته، وقبل أن یغادر المدینة زار قبر جده رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم) ودعا الله تعالى أن ینقذ زوجته أم فروة من هذا المرض. ولما انتهى إلیها عظم علیها مجیئه، وخافت علیه من العدوی، وشکرته على تصدعه لزیارتها، والتفت إلیها الإمام وبشرها بالسلامة، قائلا: لقد دعوت الله عز وجل عند قبر جدی رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم) أن ینجیک من هذا المرض، وإنی واثق أن جدی لا یردنی، وسیقضی لی حاجتی، فثقی بأنک ستشفین من هذا المرض، وأنا أیضا مصون منه إن شاء الله . واستجاب الله دعاء ولیه الإمام، فقد عوفیت السیدة أم فروة من مرضها، ولم یترک أی أثر على جسمها. ومن الجدیر بالذکر إن هذا المرض لا یصیب الکبار إلا نادرا، فإن أصابهم کان خطرا على حیاتهم فلا ینجو منه إلا القلیل (1).
مولده وصفاته
مولده:
لقد أشرقت نور الإمامة، وفجر الإمام العظیم ینابیع العلم والحکمة والأخلاق، ولقد ازدهرت دنیا الإسلام بهذا المولود العظیم الذی تفرع من شجرة النبوة والدوحة الهاشمیة، کما قال الشاعر: إذا ولد المولود منهم تهللت * له الأرض واهتزت إلیه المنابر إنه من معدن الحکمة والعلم، ومن بیت أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم
تطهیرا. لو کان یوجد عرف قبلهم * لوجدته منهم على أمیال إن جئتهم أبصرت بین بیوتهم * کرما یقیک مواقف التسآل نور النبوة والمکارم فیهم * متوقد فی الشیب والأطفال (1) اختلف المؤرخون فی سنة ولادة الإمام الصادق (علیه السلام)، وما أدری هل هذا الاختلاف مقصود ومتعمد، أو غیر مقصود؟ ولکن الثابت عند أئمة أهل البیت (علیهم السلام) وتأریخهم الراجح، أن ولادته کانت فی یوم السابع عشر من ربیع الأول سنة 82 ه على قول، أو غرة رجب، وفی أقوال أخرى أنه ولد بالمدینة المنورة سنة 80 ه أو سنة 83 ه. بعد استعراض هذه الأقوال، نقول: إن القول المشهور عند اتباع أهل البیت هو الیوم السابع عشر من شهر ربیع الأول، وهو الیوم الذی ولد فیه رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم)، کما هو ثابت عند أئمة أهل البیت، وأهل البیت أدرى بما فیه، ومجمل القول فإن أئمة السیر والتأریخ مجمعون على أن ولادته (علیه السلام) بین سنین ثلاثة 80 و82 و83 هجریة. اسمه وألقابه وکناه: الاسم: أما اسمه الشریف جعفر ، ونص کثیر من المؤرخین أن النبی (صلى الله علیه وآله وسلم) هو الذی سماه جعفر ولقبه ب الصادق .
ألقابه:
1 - الصادق: لقبه بذلک جده رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم) لأنه أصدق إنسان فی حدیثه وکلامه، 2 - الصابر (2): ولقب بذلک لأنه صبر على المحن الشاقة والخطوب المریرة التی تجرعها من خصومه الأمویین والعباسیین. 3 - الفاضل (3): لقب بذلک لأنه کان أفضل أهل زمانه وأعلمهم لا فی شؤون الشریعة وإنما فی جمیع العلوم. 4 - الطاهر (4): لأنه أطهر إنسان فی عمله وسلوکه واتجاهاته. 5 - عمود الشرف (5): لقد کان الإمام (علیه السلام) عمود الشرف، وعنوان الفخر والمجد لجمیع المسلمین. 6 - القائم (6): من ألقابه الشریفة، لقیامه بإحیاء الدین والذب عن شریعة
المسلمین. 7 - الکافل (1): إنما لقب بذلک لأنه کان کافلا للفقراء والأیتام والمحرومین، فقد قام بالإنفاق علیهم وإعالتهم. 8 - المنجی (2): من ألقابه الکریمة، المنجی من الضلالة، فقد هدى من التجأ إلیه، وأنقذ من اتصل به. هذه بعض ألقابه الکریمة التی تحکی بعض صفاته ومعالم شخصیته. کناه: وکنی الإمام الصادق (علیه السلام): 1 - أبو عبد الله. 2 - أبو إسماعیل. 3 - أبو موسى. اسمه جعفر، وفی المناقب ومحاسن البرقی: قال الصادق (علیه السلام) لضریس الکناسی: لم سماک أبوک ضریسا؟ قال: کما سماک أبوک جعفرا، قال: إنما سماک أبوک ضریسا بجهل، لأن لإبلیس ابنا یقال له ضریس، وإن أبی سمانی جعفرا بعلم، على أنه اسم لنهر فی الجنة، أما سمعت قول ذی الرمة؟: أبکى الولید أبا الولید أخا الولید فتى العشیرة * قد کان غیثا فی السنین وجعفرا غدقا ومیرة (3)
وکذلک کنیته - بأبی عبد الله - صارت کالاسم له، یستغنى بها عن اسمه ولقبه لا سیما فی الأحادیث، ویلقب أیضا بالفاضل، والقائم، والکامل، والمنجی، وغیرها. ویکنى أبا عبد الله، وأبا إسماعیل، وأبا إسحاق، وأبا موسى، والکنیة الأولى هی أشهر کناه، وأکثرها ورودا فی الروایات والأحادیث. ولعل ذکره بغیر هذه الکنیة کان بدافع التقیة، فالظروف ما کانت تسمح بالتصریح باسم الإمام الصادق وکنیته المشهورة، ولهذا السبب کان البعض یستعمل الکنى غیر المشهور بها رعایة للظروف.
نبوغه وذکائه:
کان الإمام الصادق (علیه السلام) نابغة زمانه، وآیة من آیات الذکاء فی سنیه المبکرة من صباه، فلم یجاریه أحد بمثل سنه على امتداد الزمن، وقد کان یحضر دروس أبیه وهو یافع لم یتجاوز عمره الشریف ثلاث سنین، وقد فاق بتلقیه لدروس أبیه جمیع تلامیذه من کبار العلماء والرواة، مما أدهش الولید بن عبد الملک عندما زار المدینة المنورة ووقف على حوزة أبیه الإمام الباقر (علیه السلام) واستیعاب الإمام الصادق ما یلقیه أبوه من دروس، ومناقشته. ومن الجدیر بالذکر أن دروس الإمام الباقر (علیه السلام) وبحوثه لم تقتصر على علم الحدیث، والفقه، والتفسیر فحسب، وإنما شملت جمیع أنواع العلوم، من فلسفة، وطب، وعلم الکیمیاء، وعلم النجوم والجغرافیا، والفلک وغیرها. وقد ألم بها الإمام الصادق (علیه السلام) إلماما کاملا، ومما یدل على ذلک ما نقله الرواة أن الولید بن عبد الملک عندما زار المسجد النبوی بصحبة عامله على المدینة عمر بن عبد العزیز،
وقد رأى الإمام الباقر (علیه السلام) على المنبر یلقی دروسه ومحاضراته على تلامیذه، فسلم علیه، فرد الإمام السلام علیه، وتوقف عن الدرس تکریما له، فأصر الولید علیه أن یستمر فی تدریسه، وکان موضوع الدرس الجغرافیا فاستمع الولید، وبهر من ذلک فسأل الإمام ما هذا العلم؟! . فأجابه الإمام (علیه السلام): إنه علم یتحدث عن الأرض والسماء والشمس والنجوم. ووقع نظر الولید على الإمام جعفر الصادق، فسأل عامله عمر بن عبد العزیز: من یکون هذا الصبی بین الرجال؟! . فأجابه قائلا: إنه جعفر بن محمد ، وأسرع الولید قائلا: هل هو قادر على فهم الدرس واستیعابه؟ ، فعرفه عمر بما یملک الصبی من قدرات علمیة، قائلا: إنه أذکى من یحضر درس الإمام وأکثرهم سؤالا ونقاشا . بهر الولید وتعجب، فاستدعاه بالوقت، فلما مثل بادر قائلا: ما اسمک؟ ، أجابه الصبی بطلاقة قائلا: اسمی جعفر . وأراد الولید امتحانه، فقال له: أتعلم من کان صاحب المنطق ومؤسسه؟ فأجابه الصبی: کان أرسطو ملقبا بصاحب المنطق، لقبه إیاه تلامیذه وأتباعه . ووجه الولید إلیه سؤالا ثانیا قائلا: من صاحب المعز؟ ، فأنکر علیه الإمام ذلک وقال: لیس هذا اسما لأحد، ولکنه اسم لمجموعة من النجوم، تسمى ذو الأعنة (1). واستولت الحیرة والذهول على الولید، فلم یدر ما یقول، وتأمل کثیرا
لیستحضر مسألة أخرى یسأل بها سلیل النبوة، وحضر فی ذهنه السؤال الآتی، فقال له: هل تعلم من صاحب السواک؟ ، فأجابه على الفور: هو لقب عبد الله ابن مسعود صاحب جدی رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم) . ولم یستحضر الولید مسألة یسأل بها الإمام، ووجد نفسه عاجزا أمام هذا العملاق العظیم، فراح یبدی إکباره وإعجابه بالإمام الصغیر، ویرحب به وهو مرغم، وأمسک بیده، ودنا من الإمام الباقر (علیه السلام) یهنئه بولده قائلا: إن ولدک هذا سیکون علامة عصره (1). وصدق توسم الولید، فقد أصبح الإمام جعفر الصادق نابغة عصره وأعلمهم على الإطلاق. ولیس هناک تعلیل مقنع لهذه الظاهرة، التی اتصف بها سلیل النبوة فی حال طفولته، إلا قول شیعة أهل البیت من أن الله تبارک وتعالى منح أئمة أهل البیت (علیهم السلام) العلم والحکمة فی جمیع أدوار حیاتهم، کما منح أنبیائه ورسله، فإن الطفل بحسب تکوینه السایکولوجی من غیر الممکن أن تکون له مثل هذه القدرات العلمیة، ومهما اتصف بالذکاء الحاد. معرفته بجمیع اللغات: وکان من السمات البارزة التی تمیز بها فی ذکائه ونبوغه، تعلمه فی سنیه المبکرة لجمیع لغات العالم، وکان یتکلم مع أهل کل لغة کأنه واحد منهم، وهذه بعضها:
1 - النبطیة. 2 - العبریة. 3 - الفارسیة. 4 - معرفته بکل لغة. فقد روى أبان بن تغلب قال: غدوت من منزلی بالمدینة المنورة، وأنا أرید أبا عبد الله الصادق، فلما صرت بالباب وجدت قوما عنده لم أعرفهم، ولم أر قوما أحسن زیا منهم، ولا أحسن سیماء منهم [جالسین] کأن الطیر على رؤوسهم، [فکان] فجعل أبو عبد الله (علیه السلام) یحدثنا بحدیث فخرجنا من عنده، وقد فهم خمسة عشر نفرا، متفرقوا الألسن، منهم العربی، والفارسی، والنبطی، والحبشی، ، فقال العربی: حدثنا بالعربیة، وقال الفارسی: حدثنا بالفارسیة، وقال الحبشی: حدثنا بالحبشیة، وقال الصقلی: حدثنا بالصقلیة. وأخبر (علیه السلام) بعض أصحابه بأن الحدیث واحد، وقد فسره لکل قوم بلغتهم (1). ودار حدیث بین الإمام وبین عمار الساباطی باللغة النبطیة، فبهر عمار وراح یقول: ما رأیت نبطیا أفصح منک بالنبطیة . فقال (علیه السلام) له: یا عمار، وبکل لسان (2). ولقد ملک الإمام الصادق (علیه السلام) فی طفولته وشبابه وشیخوخته من النبوغ وقوة الذکاء ما لا یوصف، فقد فاق بهذه الظاهرة جمیع عباقرة الأرض.
هیبته ووقاره:
کانت الوجوه تعنو لهیبة الإمام الصادق (علیه السلام) ووقاره، فقد حاکى هیبة الأنبیاء، وجلالة الأوصیاء، وما رآه أحد إلا هابه لأنه کانت تعلوه روحانیة الإمامة، وقداسة الأولیاء، وکان ابن مسکان وهو من خیار الشیعة الثقات، لا یدخل علیه شفقة أن لا یوافیه حق إجلاله وتعظیمه، فکان یسمع ما یحتاج إلیه من أمور دینه من أصحابه، ویأبى أن یدخل علیه (1)، فقد غمرته هیبته. شمائله: فی المناقب: کان الإمام جعفر الصادق (علیه السلام) ربع القامة (2)، أزهر الوجه، حالک الشعر (3)، جعد أشم الأنف (4)، أنزع رقیق البشرة، دقیق المسربة (5)، على خده خال أسود، وعلى جسده خیلان حمرة (6). وفی الفصول المهمة: صفته معتدل [القامة] آدم (7).
وقد صدر کتاب حول الإمام الصادق (علیه السلام)، اشترک فی تألیفه عدد من الشخصیات الغربیة، باللغة الأجنبیة، وترجم الکتاب إلى عدة لغات منها العربیة والفارسیة، باسم الإمام الصادق عند علماء الغرب ، وفی ذلک الکتاب شرح واف حول شمائل الإمام وصفاته وعلومه (علیه السلام).
نقش خاتمه:
الله خالق کل شیء (1). عن أبی الحسن الرضا (علیه السلام)، قال: قوموا خاتم أبی عبد الله (علیه السلام) فأخذه أبی بسبعة، قال: قلت: بسبعة دراهم؟ قال: سبعة دنانیر (2). عن محمد بن عیسى، عن صفوان، قال: أخرج إلینا خاتم أبی عبد الله الصادق (علیه السلام)، وکان نقشه: أنت ثقتی فاعصمنی من خلقک (3). عن إسماعیل بن موسى، قال: کان خاتم جدی: جعفر بن محمد (علیه السلام) فضة کله، وعلیه: یا ثقتی قنی شر جمیع خلقک (4). ابن الصباغ المالکی: نقش خاتمه ما شاء الله لا قوة إلا بالله، أستغفر الله (5).
العدد القویة: نقش خاتمه: الله عونی وعصمتی من الناس وقیل نقشه: أنت ثقتی فاعصمنی من خلقک ، وقیل: ربی عصمنی من خلقه (1). هذه مجمل ما عثرنا علیها من الروایات الواردة بهذا الشأن.
وصیة الإمام الباقر لابنه الصادق (علیه السلام
) بعدة طرق، منها: الکافی، علی بن إبراهیم، عن محمد بن عیسى، عن یونس بن عبد الرحمن، عن عبد الأعلى، عن أبی عبد الله الصادق (علیه السلام)، قال: إن أبی (علیه السلام) استودعنی ما هناک (2). فلما حضرته الوفاة قال: ادع لی شهودا، فدعوت له أربعة من قریش، فیهم نافع مولى عبد الله بن عمر، فقال: اکتب: هذا ما أوصى به یعقوب بنیه: *(یا بنی إن الله اصطفى لکم الدین فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون)*. وأوصى محمد بن علی إلى جعفر بن محمد، وأمره أن یکفنه فی برده الذی کان یصلی فیه الجمعة وأن یعممه بعمامته، وأن یربع قبره، ویرفعه أربع أصابع، وأن یحل عنه أطماره عند دفنه. ثم قال - للشهود -: انصرفوا، رحمکم الله. فقلت له: یا أبت - بعدما انصرفوا - ما کان فی هذا بأن تشهد علیه؟ فقال: یا بنی؟ کرهت أن تغلب، وأن یقال: إنه لم یوص إلیه، فأردت أن تکون لک حجة (3).
فی ظلال جده وأبیه: أدرک الإمام الصادق (علیه السلام) خمسة عشر سنة من حیاة جده الإمام علی بن الحسین السجاد (علیه السلام)، وقد سمع الشیء الکثیر منه، ومنها: أدعیته المذکورة فی الصحیفة السجادیة. فقد قال الإمام الصادق (علیه السلام) یوما لابنه: قم یا إسماعیل، فأتنی بالدعاء الذی أمرتک بحفظه، فقام إسماعیل، فأخرج صحیفة کأنها الصحیفة التی دفعها إلی یحیى بن زید، فقبلها الإمام أبو عبد الله، ووضعها على عینیه، وقال: وهذا خط أبی، وإملاء جدی (علیه السلام) بمشهد منی مما یستفاد منه أنه کان یحضر مجلس جده الإمام زین العابدین (علیه السلام) ویستمع إلى أحادیثه وأمالیه. کما أن الإمام الصادق (علیه السلام) عاش فی خدمة والده وتحت ظله أربعا وثلاثین سنة، وکان یتبعه اتباع الفصیل أثر أمه، ویرافقه فی حله وترحاله، فی سفره وحضره، مرافقة التلمیذ أستاذه، وکان صامتا، ولا یتصرف فی شیء من الشؤون فی حضرة والده، وکثیرا ما کان الوالد یهدی لولده أفضل المواعظ، وأغلى النصائح، وأحسن الدروس فی الحکم والمعرفة. ولیس معنى ذلک أنه (علیه السلام) کان یجهل تلک الأمور، فقد یکون سرد المواعظ والنصائح من الإمام إلى آخر من قبیل إیاک أعنی واسمعی یا جارة . هذا ما کان من علاقة الإمام الصادق بجده وأبیه (علیهم السلام).