التفويض وتحقق البركة واليسر في الحياة

قيم هذا المقال
(0 صوت)
التفويض وتحقق البركة واليسر في الحياة

إنّ لله سبحانه نمطاً آخر من أنماط التعامل أيضاً وهو تدبير الأمور. فالله عزّ وجلّ يُدبّر شؤون عباده المتّقين بطريقةٍ تجعلهم يجنون أفضل النتائج من أعمارهم. وفي المقابل فعلى الرغم ممّا يتجشّمه بعض الناس من سعي حثيث فإنّهم لا يظفرون بمنافع دنيويّة جيّدة ولا يترقّون على الصعيد المعنويّ، وهم دائمو التذمّر - في العادة - من أنّ جميع أمورهم متوقّفة ولا تسير حسب الأصول.
 
أمّا أعمار أهل التقوى فإنّ فيها من البركة ما يُحيّر الألباب. يقول المرحوم آية الله بهجت (رضوان الله تعالى عليه): "كان المرحوم الشيخ محمّد حسين الأصفهانيّ (رضوان الله تعالى عليه) إذا لم يُشاهد أحدٌ غير عبادته ظنّ أن لا شغل له سوى العبادة، وإذا لم ينظر أحد إلاّ إلى أعماله العلميّة حَسِب أنّه لا وقت له لأيّ عبادة قطّ. فهو رحمه الله لم يترك قراءة زيارة عاشوراء وصلاة جعفر الطيّار حتّى آخر يوم من عمره المبارك.
 
كما ويقول المرحوم الحاج الشيخ محمّد البروجرديّ: "كان المرحوم الحاج الشيخ محمّد حسين يُقيم مجلس عزاء أسبوعيّاً وكان ملتزماً بصبّ الشاي وتقديمه للضيوف وصفّ أحذيتهم بنفسه. وكُنتُ ألاحظ حين استقباله للضيوف وإنجازه لبقيّة الأعمال أنّه كان باستمرار يُردّد مع نفسه ذكراً معيّناً. فنفد صبري ذات يوم فبادرته بالسؤال: أيّ ذكر هذا الذي تُصرّ إصراراً شديداً على ترديده؟ فقال لي بعد تأمّل بسيط: من المستحسن أن يقرأ المرء يوميّاً سورة ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾ ألف مرّة"! فهذا هو نموذج العمر المبارك.
 
كما أنّ لله شكلاً آخر من أشكال التعامل مع المؤمنين وهو أنّه يُدبّر أمورهم طبقاً لهذا التعامل بحيث يجعل الإنسان المتّقي يُنفق وقته في أفضل الأعمال. فالسعي وراء الرزق الحلال بالنسبة للإنسان المؤمن عبادة، لكن هناك فرق كبير بين هذه العبادة والعبادة الخالصة التي لا يكون فيها إلاّ العلاقة مع الله. فعندما يرى الله تعالى أنّ عبده يعشق العبادة حقّاً ويُريد أن يأنس به ولا يرغب في الالتفات إلى غيره، فإنّه يُدبّر أموره على نحو بحيث لا يُنفق كثيراً من الوقت في شؤون الدنيا. فهو يعمل طبقاً لتكليفه الشرعيّ ألا وهو السعي لكسب الرزق، ويفتح باب دكّانه، ويُمارس البيع والشراء بمقدار كفايته من الرزق لكنّ هذه الأعمال كلّها لا تُشكّل عائقاً لعبادته. فهذا التدبير يعجز عقل الإنسان بمفرده عن القيام به. فقد جاء في دعاء عرفة: "إلهي! أَغنِني بتدبيرك لي عن تدبيري وباختيارك عن اختياري". 

لا ينبغي الخلط خطأً بين التفويض والتقاعس
"قد يطلب الإنسان أحياناً مثل هذا الطلب لكنّه بدافع الرغبة في نيل الدنيا بسهولة وعن طريق التقاعس، ومن أجل ذلك فهو يسأل الله العون والمساعدة كي يصل أسرع إلى مبتغاه. فمثل هذا الشخص إنّما يسعى وراء راحته الدنيويّة.
  
أمّا أولياء الله فإنّهم يطلبون من الله مثل هذا الطلب لغرض التفرّغ للعبادة والقيام بالأعمال الأهمّ والأفضل. فأمثال هؤلاء لا يُحبّون أن يُحجَبوا عن الأعمال المهمّة. إنّهم يرغبون في أن يكونوا أشدّ انشغالاً بالأعمال التي يُحبّها الله أكثر من غيرها.
 
ومن هنا فإنّ الله يتعهّد بتدبير أمورهم من جهة ويرفع عنهم البلايا من جهة أخرى ويقيهم تأثير كيد أعدائهم كي لا يكون عائقاً لأعمالهم من جهة ثالثة. هذا المنهج مخصّص لأولئك الذين يتّكلون على الله من أعماق قلوبهم ويفوّضون أمورهم إليه. ففي مثل هذه الحالة يتولّى الله أمورهم بنفسه.
 
لقد ذكَرتْ إحدى الروايات خواصّ بعض الآيات، فقالت على سبيل المثال إنّ "الذكر اليونسيّ" ﴿لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾، ينتشل المرء من الهمّ والغمّ، ذلك أنّ نبيّ الله يونس عليه السلام بعد أن التقمه الحوت، وبقي في جوفه تضرّع إلى ربّه بهذا الذكر، فقال القرآن بعد ذلك: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾.

ثمّ تُعرّج نفس هذه الرواية على قول مؤمن آل فرعون حينما قال: ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾، فيقول القرآن الكريم بعد ذلك: ﴿فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ﴾، فعندما فوّض أمره إلى الله حفظه الله من مكر الأعداء ومخطّطاتهم الخطيرة التي رسموها له.

المهتدون، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

 

قراءة 621 مرة