لا تفوّت على نفسك التوبة في شهر رجب الأصب

قيم هذا المقال
(0 صوت)
لا تفوّت على نفسك التوبة في شهر رجب الأصب

من المعلوم أن شهر رجب[1] من الأشهر الحُرُم[2]، قال الله - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾[3]. من ميزات هذه الأشهر الأربعة هو حرمة الظلم والقتال، ليكون ذلك سبيلًا إلى حرمة الظلم بشكل عام والنفس بشكل خاص[4].
 
والظلم للنفس هو هتك أي حرمة من حرمات الله، عبر اقتراف المعصية، فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "ظلم نفسَه من عصى الله وأطاع الشيطان"[5]، وفي رواية أخرى "ظَلَم نفسَه مَن رضِيَ بدار الفَناء عِوَضاً عن دار البقاء"[6]. والإنسان عندما يصدر منه الذنب، يُنزِل نفسه منزلة الحيوانية، ويخرجها عن حياض الإنسانية[7] - مهما كان مظهره الخارجي - فيتلبس بحقيقة أخرى قد تكون مساوية أو أقل من الأنعام؟!
 
ولا بدّ من الالتفات إلى أن باطن هذه الأشهر الرحمةُ، فكيف تقابَل الرحمة بالظلم؟! ومما يُدلل على هذه الرحمة قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "وَسُمِّيَ شَهْرُ رَجَبٍ‏ شَهْرَ اللَّهِ الْأَصَبَّ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ عَلَى أُمَّتِي تَصُبُّ صَبّاً فِيهِ"[8]، فالحريّ بنا أن نستفيد من هذه الرحمة النازلة لنكون عطرًا فواحًا، ينشر العبير فيفوح لك ولغيرك.
 
التوبة والاستغفار:
التوبة إلى الله، والعودة إليه، بحيث يلقي الإنسان في شهر رجب الأصبّ ما علق به من أدران الذنوب والخطايا، الصغيرة منها والكبيرة. إنها لفرصة كبيرة وذهبية ربما لا تعوّض ولن تتكرر، فمن يدري، ربما يكون هذا الشهر هو الأخير في حياتنا! قال النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عن هذا الشهر العظيم إنه شهر الاستغفار: "رَجَبٌ شَهْرُ الِاسْتِغْفَارِ لِأُمَّتِي. أَكْثِرُوا فِيهِ الِاسْتِغْفَارَ، إِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏"[9].
 
ومن الملاحَظ في هذا الشهر العظيم كثرة الاستغفار، بصيغ خاصة ومختلفة. وبالدخول إلى حقيقة الاستغفار يتمّ التغيير والانقلاب، فلا بدّ من أن يكون لنا مع الله تعالى وقفة؛ لنصلح ما أفسدنا معه، فنأوب إليه، ونعود إلى رضوانه، فنرجع إليه تائبين مستغفرين، وإن لم نعد فعلينا التنبُّه إلى ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: "تعطّروا بالاستغفار، لا تفضحكم روائح الذنوب"[10].
 
شهر رجب هو شهر الإنابة إلى الله - عزّ وجلّ -، ويسمّى بالأصبّ؛ لأن الرّحمة على أمتي تصب صبّاً فيه، كما في الرواية، فليستكثر من قول "أَسْتَغْفِر اللهَ وَأَسْأَلُهُ التَّوْبَةَ". لذا فإنه يجب على الإنسان، خلال هذا الشهر، أن ينظف بيت الروح الذي أهمله لتسعة أشهر، وذلك باتّخاذ أول خطوة وهي الاستغفار.
 
والاستغفار هو حقيقة بالقلب، يكشف عنها اللسان، ولا يكتمل إلا بالندامة الباطنية، والأخيرة لا تتمّ إلا بالتعرف على حقيقة الحرام. ومع التعرف عليه، يعرف الإنسان عظيم ما فعل، وجليل ما اكتسب، وكثير ما فرّط في جنبه، فيتألم عندها لما صدر منه، ويحترق القلب بعظم المصاب، فيقوم ليغسله بماء الأواب، ويذوب خجلًا أمام عظم النعم، فالتائب حين استغفاره يكون بين الخشوع لعظمته - عزّ وجلّ -، والذلّ لحقارته، فيبقى في داخله هذا الشعور، فينبري بطلب التوبة بمعنى حقيقي: "إِلهِي لَمْ أَعْصِكَ حِيْنَ عَصَيْتُكَ وَأَنا بِرُبُوبِيَّتِكَ جاحِدٌ، وَلا بِأَمْرِكَ مُسْتَخِفٌ، وَلا لِعُقُوبَتِكَ مُتَعَرِّضٌ، وَلا لِوَعِيدِكَ مُتَهاوِنٌ، لكِنْ خَطِيئَةٌ عَرَضَتْ، وَسَوَّلَتْ لِي نَفْسِي، وَغَلَبَنِي هَوَايَ، وَأَعانَنِي عَلَيْها شِقْوَتِي، وَغَرَّنِي سِتْرُكَ المُرْخَى عَلَيَّ، فَقَدْ عَصَيْتُكَ وَخالَفْتُكَ بِجُهْدِي، فَالانَ مِنْ عَذابِكَ مَنْ يَسْتَنْقِذُنِي، وَمِنْ أَيْدِي الخُصَماءِ غَداً مَنْ يُخَلِّصُنِي، وَبِحَبْلِ مَنْ أَتَّصِلُ إِنْ أَنْتَ قَطَعْتَ حَبْلَكَ عَنِّي"[11]، فتكون هذه الحركة الأولى في سبيل التطهير، ﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾[12].
 
التخلية[13] من المعاصي والذنوب:
بعد الاستغفار والتوبة، والوصول إلى الطهارة، أفضل ما يلتزم به المؤمن هو المحافظة على عدم الوقوع في الذنب والمعصية؛ ليلتزم مع الله - عزّ وجلّ -، ويعاهده بلسان الحال: "وَخُذْ بِي سَبِيلَ الصَّالِحِينَ، وَأَعِنِّي عَلى نَفْسِي بِما تُعِينُ بِهِ الصَّالِحِينَ عَلى أّنْفُسِهِمْ"[14]، وبلسان العمل بعدم ارتكاب الذنب والمعصية، وفي الرواية العلوية: "اجتناب السيّئات أَولى من اكتساب الحسنات"[15].
 
فيبدأ من أول رجب إلى منتصف شهر شعبان لمدة أربعين يومًا، على قاعدة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من أخلص لله أربعين يومًا فجّر الله ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه"[16]. فمن قدر على الأربعين قدر على غيرها، ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "ما ضَعُفَ بَدَنٌ عَمّا قَوِيَتْ عليهِ النيّة"[17].
 
تذكرة لمن يخشى...، دار المعارف الإسلامية الثقافية


[1] رجب من الترجيب، أي التعظيم، والمرجَب يعني المعظَّم.
[2] الأشهر الحُرُمْ هي أربعة أشهر من الأشهر القمرية، حُرِّمَ فيها القتال منذ عهد إبراهيم الخليل عليه السلام، وكان هذا التحريم نافذًا حتى زمن الجاهلية قبل الإسلام، وعندما جاء الإسلام أقرَّ حرمته، ولذلك تُسَمَّى بالأشهر الحُرُمْ. وقد أشار القرآن الكريم إلى حرمة ابتداء قتال الأعداء في هذه الأشهر، كما أشار إلى لزوم مقاتلتهم إذا إنتقضوا حرمة هذه الأشهر وبدؤوا القتال.
[3] سورة التوبة، الآية 36.
[4] معني "حرم" أنه يعظم انتهاك المحارم فيها أكثر مما يعظم في غيرها، وكانت العرب تعظمها حتى أن الرجل لو لقي قاتل أبيه لم يهجه لحرمته. وإنما جعل اللّه تعالى بعض الشهور أعظم حرمة من بعض لما علم في ذلك من المصلحة في الكفّ عن الظلم فيها، فعظّم منزلتها، وإنه ربما أدّ ذلك إلي ترك الظلم أصلًا، لانطفاء النائرة تلك المدة، وانكسار الحمية، فإن الأشياء تجرّ إلى أشكالها. الشيخ الطوسي، التبيان، ج5، ص214.
[5]  كافي الدين، ش أبي الحسن علي بن محمد الواسطي الليثي، عيون الحكم والمواعظ ، ص324.
[6] م.ن، ص324.
[7] عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إن الله - عزّ وجلّ -: ركّب في الملائكة عقلًا بلا شهوة، وركّب في البهائم شهوة بلا عقل، وركّب في بني آدم كليهما. فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، من غلبت شهوته عقله فهو شرّ من البهائم. علل ‏الشرائع، ج1، ص 5.
[8] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج94، ص39.
[9] المصدر نفسه.
[10] الشيخ الطوسي، الآمالي، ص372.
[11] من دعاء أبي حمزة الثمالي.
[12] سورة البقرة، الآية 222.
[13] التخلية: هي تطهير النفس من رذائل الأخلاق، كالحسد والرياء والكبر والعجب وحبّ الدنيا وغيرها من الرذائل التي يذكرها علماء الأخلاق. يعتبر علماء الأخلاق أن التخلية هي الخطوة الأولى، وبدونها لا تحصل الفائدة الكاملة، لأن النفس تكون غير مستعدة للفيوضات القدسية إذا لم تكن النفس صافية قابلة لانعكاس الفيوضات فيها. ويمثلون لذلك بالمرآة التي ما لم تذهب الكدورات عنها لا تستعدّ لارتسام الصور فيها، وكالبدن الذي ما لم تزل عنه العلة لم تتصور له إضافة الصحة، وكالثوب الذي ما لم يـنـقَ عن الأوساخ لم يقبل لوناً من الألوان. فالمواظبة على الطاعات الظاهرة لا تنفع بصورة كاملة ما لم تتطهّر النفس من الصفات المذمومة.
[14] من دعاء أبي حمزة.
[15] اليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص126.
[16] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 67، ص249.
[17] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج4، ص400.

قراءة 464 مرة