حين نستعرض السيرة الجهادية النيّرة لأهل البيت ( عليهم السلام ) ، فإنّ القلم يعجز عن التعبير عن تضحياتهم العظيمة في سبيل إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى ، ودأبهم على نشر الدين المحمّدي الأصيل ؛ إذ إنّنا نقف أمام مدرسة عظيمة تنوّعت أدوار كلّ فرد من أفرادها ومواقفه ، إلاّ أنّ هدفها واحد ، وهو إقامة حكومة العدل الإلهي وتطبيق السُنّة المحمّدية ، مثل هذا المشروع الإلهي العظيم ، يتطلّب التضحية والفداء بالدم والروح والنفس والأهل ـ أحياناً ـ كما هي كربلاء الحسين ( عليه السلام ) ، وأحياناً أخرى بالكلمة ، والموقف ، والصبر ، والثبات ، كما هي السيرة الجهادية للإمام الحسن ( عليه السلام ) .
والأدوار التي قام بها أهل البيت ( عليهم السلام ) رغم اختلافها الظاهري ـ للوَهلة الأُولى ـ إلاّ أنّها في الحقيقة وحدة متكاملة ومنهجية متناسقة ؛ حيث كلّ عنصر فيها قام بإكمال دَور العنصر الآخر ، وبالتالي هي سلسلة محمدية واحدة تعمل على تحقيق الهدف المنشود ، أَلا وهو إقامة حكومة العدل الإلهي على يدَي صاحب العصر والزمان الإمام الحجّة المهدي ( عجّل الله تعالى فرَجه الشريف ) في آخِر الزمان .
فاختلاف الأدوار في السيرة الجهادية العطرة لأهل البيت ( عليهم السلام ) ، لا يعني ـ على سبيل المثال ـ أنّ الإمام الحسين ( عليه السلام ) رجل ثورة وقتال فقط ، بينما الإمام الحسن ( عليه السلام ) رجل مهادنـة وسلـم ، بل الواقع غير ذلك ، فالسيرة الحسينية الجهادية غلَب عليها طابع الصلح مع العدوّ لأسباب وظروف اقتضت ذلك ، بينما السيرة الحسينية غلب عليها طابع الثورة والجهاد لأسباب وظروف أخرى مختلفة ، وخير دليل على ذلك عند استعراضنا الحياة الجهادية للإمام الحسن ( عليه السلام ) ، فهي تارة مليئة بالمواقـف ، والبطـولات ، والتضحيات ، وتارة تستلزم
الصلح والمسالمة ، ولكن في كلتي الحالتين يبقى الهدف واحد وهو : مصلحة الإسلام العليا .
( ... وقد يعتقد البعض بأنّ الحسن ( عليه السلام ) صاحب الصلح والمهادنة ، والإمام الحسين ( عليه السلام ) له الثورة والتمرّد ، إلاّ أنّه لو عكسنا الشخصين لقام كلٌّ منهما بنفس الدَور ، أي الظروف هي التي حكمت بأنّ كلّ منهما يتبع نهجاً ما ، أي الظروف هي تحكم بالحرب أو السِلم ، بينما الدافع والهدف هو واحد ، هو فقط المصلحة العامّة لا غير )(1) .
وعلى هذا الأساس نلاحظ بأنّه عند الحديث عن سيرة الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، فإنّه يتبادر مباشرة للذهن صُلحه مع معاوية ، وكأنّ حياته ( عليه السلام ) كلّها تُختزل في هذا الصلح ـ وذلك بغضّ النظر عن أهمّيتها ـ وبالتالي هو بعيد كلّ البُعد عن ساحات القتال والمواجهة ، لكن سيرته سلام الله عليه تحدّثنا بغير ذلك .
تحدّثنا بأنّه أعَدّ الجيوش والمقاتلين لقتال معاوية عندما سمحت له الظروف بذلك ، لكن عامل المفاجأة الذي برز في صفوف جيشه ( عليه السلام ) ـ كبروز حالات الخيانة والغدر ـ دفعه نحو الصُلح مع معاوية ، أليس هو القائل ( عليه السلام ) مجيباً أحد أصحابه العاتبين عليه بالصلح : ( والله لو وجدت أنصاراً لقاتلت معاوية ليلي ونهاري ) ؟(2) .
وفي موقع آخر يردّ ( عليه السلام ) على أحد أعدائه ، وهو ( عبد الله بن الزبير ) ، الذي كان يُعلن مناوئته لآل محمد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فكان ممّا أجابه به قوله ( عليه السلام ) : ( وتزعم أنّي سلّمت الأمر ، وكيف يكون وويحك كذلك ؟ ، وأنا ابن أشجع العرب ، وقد ولدتني فاطمة سيدة نساء العالمين ، لم أفعل ذلك ويحك جُبناً ولا ضعفاً ، ولكنّه باغٍ مثلك ... ) (3) .
ومع كلّ هذا وبعد وقوع الصلح مع معاوية ، استمرّ الإمام الحسن ( عليه السلام ) في مسيرته الجهادية ضده ، بل عمل على تمهيد الأرضية المناسبة للثورة الحسينية الكربلائية ، وشهادته ( عليه السلام ) ، وقتله مسموماً خيرُ دليل على ذلك ، وإلاّ لماذا قُتل الحسن ( عليه السلام ) لو كان رجل مسالمة وصُلح مع العدوّ ؟! فأيّ تأثير له على نظام معاوية ما دام كذلك ؟! .
فالجواب : واضح وبديهي ، هو أنّ الإمام الحسن ( عليه السلام ) هو رجل ثورة ضد الظلم بكلّ ما للكلمة من معنى ، سواء كان ذلك الجهاد بالكلمة أو بالسيف ؛ ولهذا أصبح استمرار جهاد الإمام الحسن ( عليه السلام ) ضد معاوية ونظامه المتغطرس عامل خوف ورعب عليهم ، بل شكّل خطراً يهدّد كيان النظام الأموي ، ما دفع معاوية لوضع حدٍّ له ، فكانت الشهادة المباركة .
وبناءً على ذلك ، هو أنّ الكثير من البحوث والدراسات ، يلاحظ بأنّ غالبيّتها تتناول الجانب الفكري والأخلاقي لأئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، بينما الجانب الجهادي والقتالي يبقى غامضاً في
كثير من الأحيان ، ومثال على ذلك سيرة الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، حيث أغلَب الدراسات والبحوث التي تناولت حياته المباركة ، تحمِل عنوان ( صلح الإمام الحسن ( عليه السلام ) ) ـ وذلك بغضّ النظر عن أهمية تلك الدراسات ـ ممّا يوحي بأنّ الحسن ( عليه السلام ) رجل صلح ومهادنة فقط .
ولكن واقع وحقيقة سيرته الجهادية أعظم وأشمل من ذلك ، بل هو كما عند بقية الأئمة ( عليهم السلام ) ، كسيرة الإمامين السجّاد والصادق ( عليهما السلام ) ؛ حيث برزت التكتّلات والتشكيلات السرّية تحت إشرافهم وتوجيهاتهم ، رغم أنّ عصر الإمام السجاد ( عليه السلام ) تميّز بنشر الفكر الأخلاقي والعبادي لمدرسة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وتميّز عصر الإمام الصادق ( عليه السلام ) بنشر فقه وعلوم أهل البيت ( عليهم السلام ) .
ويشير إلى تلك الحقيقة سماحة السيد القائد الخامنئي ( دام ظلّه الوارف ) بقوله : إنّ غُربة الأئمة ( عليهم السلام ) لم تقتصر على الفترة الزمنية التي عاشوها في حياتهم ، ولكنّها استمرّت ولعصور متمادية من بعدهم ؛ والسبب في ذلك يرجع إلى إهمال الجوانب المهمّة ، بل والأساسية من حياتهم .
من المؤكّد أنّ هناك كتُباً ومؤلّفات كثيرة قد حظِيَت بمكانةٍ رفيعة وقديرة وذلك ؛ لِما حملته بين طيّاتها من روايات تصف حال الأئمة ( عليهم السلام ) ، ولِما نقلته للأجيال المتعاقبة من أخبار تصف سيرتهم ، ولكن عنصر المواجهة والجهاد المرير ، والذي يمثّل الخطّ الممتد للأئمة ( عليهم السلام ) طوال 250 سنة من حياتهم ، كان قليل الذِكر في هذه الروايات التي تضمّنت فقط عناوين أخرى كالجوانب العلمية أو المعنوية من سيرتهم .
يجب علينا أن ننظر إلى حياة الأئمة ( عليهم السلام ) كأسوة وقدوة نقتدي بهم في حياتنا ، لا كمجرّد ذكريات قيّمة وعظيمة حدثت على التاريخ ، وهذا لا يتحقّق إلاّ بالاهتمام والتركيز على المنهج والأسلوب السياسي من سيرة هؤلاء العظماء ( عليهم السلام ) ...
إنّ مواجهة الأئمة ( عليهم السلام ) كانت واجهة ذات هدف سياسي ، فما هو هذا الهدف ؟ إذن الهدف هو عبارة عن تشكيل حكومة إسلامية ، ولا نستطيع أن نقول إنّه كلّ إمام كان بصدد تأسيس حكومة في زمانه وعصره ، ولكن هدف كلّ إمام كان يتضمّن تأسيس حكومة إسلامية مستقبلية ، وقد يكون المستقبل البعيد أو القريـب .
مثلاً كان هدف الإمام المجتبى ( عليه السلام ) تأسيس حكومة إسلامية للمستقبل القريب ، فقوله ( عليه السـلام ) : ( ما ندري لعلّه فتنة لكم ومتاع إلى حين ) في جوابه للمسيب بن نجيه ولآخرين عندما سألوه عن سبب سكوته ، هو خير دليل وإشارة إلى هذا المستقبل (4) .
ولذا كان هذا البحث المتواضع ليُسلِّط الضوء على الجانب العظيم من سيرة الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، أَلا وهو الجانب الجهادي لأعداء الإسلام طيلة فترة حياته المباركة ، وسوف نرى ذلك ـ مع القارئ العزيز ـ من خلال عَرْض أبرز المحطّات الجهادية من سيرته ( عليه السلام ) .
أَوّلاً : الملامح الشخصية للإمام الحسن ( عليه السلام ) :
وُلد الإمام أبو محمد الحسن بن علي بن أبي طالب ثاني أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وأَوّل السبطين ، في المدينة المنورة ، ليلة النصف من شهر رمضان المبارك من السنة الثالثة للهجرة .
وأُمّه هي سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) بنت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) .
وُلد ونشأ ( عليه السلام ) في كنف جدّه النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وفي رعاية أبيه علي ، وأُمّه فاطمة ، وهو أَوّل ولَد يولد من سلالة الرسالة؛ ليحفظ الله به وبأخيه الإمام الحسين ( عليه السلام ) نموّ تلك الشجرة الطيبة ، التي أصلها ثابت ، وفرعها في السماء .
ورعاه جدّه العظيم ، بعينه وقلبه ، فهو قطعة من وجوده ، وومضة من روحه ، وصورة تحكيه ، أَورثه هيبته وسؤدده ، حتى فَرِقَ منه أعداؤه ، وأعظمه مخلصوه وأحبّاؤه ، وأَعظِم بإنسانٍ جدّه محمد ، وأبوه علي ، وأُمّه فاطمة ، وأيّ فخر بعد هذا المفتخر ، وأيّ مجدٍ بعده لإنسان .
فلهذا كان المقام المقدّس الذي حظيَ به الإمام الحسن ( عليه السلام ) على لسان جدّه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، والذي يدفعنا لمزيد مِن التأمّل في سيرته المباركة ، بكلّ ما تحتويه من جوانب عظيمة وكمال ذاته وحِكمته ، وسدادٍ رساليّ ، والذي نراه ينسجم تماماً مع وصف رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) له وموضعه منه ، فيما ورد عنه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في حقّه ( عليه السلام ) منها :
عن زينب بنت أبي رافع عن أُمّها قالت : ( قالت فاطمة ( عليها السلام ) يا رسول الله ، هذان ابناك فانحلْهما ، فقال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم) أمّا الحسن فنحلتُه هيبتي وسؤددي ، وأمّا الحسين فنحلتُه سخائي وشجاعتي ) (5) .
ويقول الرسول الأعظم ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أيضاً في حقّه ( عليه السلام ) : ( لو كان العقل رجلاً لكان الحسن ( عليه السلام) ) (6) .
وقد نصّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) على إمامة الحسن المجتبى ( عليه السلام ) بقوله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( يا علي أنا وأنت وابناك الحسن والحسين ، وتسعة مِن وُلد الحسين أركان الدين ودعائم الإسلام ، مَن تبِعنا نجا ، ومَن تخلّف عنّا فإلى النار ) (7) .
وكان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يوجّه الأنظار إلى إمامة ولَده الحسن ( عليه السلام ) ومقامه السامي ، حيث كان ( عليه السلام ) يسأله عن المسائل المختلفة أمام مرأى ومسمع الملأ من أصحابه ، وقد تركّزت أسئلته على : الزهد والسداد ، والكرم والإخاء والمنَعة وغيرها ، وكان الإمام ( عليه السلام ) يجيب عليها بأجوبة مختصرة شافية (8) .
وكان ( عليه السلام ) يكلّف الإمام الحسن ( عليه السلام ) بالمهام الصعبة ، ويبعثه لحلّ الأزَمات ، ويُشركه في المواقف الحرجة ، فقد بعثه إلى أهل الكوفة لعزل الأشعري ، وأمره بإجابة عبد الله بن الزبير في الجَمَل ، وأمره بنقْض حُكم الحكَمَين ؛ لمخالفتهما القرآن .
وقد عهد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بالإمامة لابنه الحسن ( عليه السلام ) ، في اليومين الأخيرين من حياته ( عليه السلام ) ـ وبعد أن ضربه ابن ملجم ـ حيث أدناه وأوصى إليه قائلاً : ( يا بنيّ إنّه أمرني رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أن أوصي إليك ، وأدفع إليك كتُبي وسلاحي ، كما أوصى إليّ ودفع إليّ كتُبه وسلاحه ، وأمَرني أن آمرك إذا حضرك الموت أن تدفعها إلى أخيك الحسين ... ) (9) .
وأمّا مبايعة الحسن ( عليه السلام ) بالخلافة فقد كانت بعد استشهاد والده ( عليه السلام ) ودفْنه ، حيث وقف الإمام الحسن ( عليه السلام ) خطيباً بين الناس وقال : ( قد قُبض في هذه الليلة رجل لم يسبِقه الأوّلون ، ولا يدركه الآخِرون بعمل ... ) ، ثمّ خنقته العبرة فبكى وبكى الناس معه ، ثمّ قال : ( أيّها الناس ، مَن عرفني فقد عرفني ، ومَن لم يعرفني فأنا الحسن بن محمّد رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أنا ابن البشير ، أنا ابن النذير ... ) ، ثمّ قام عبد الله بن العبّاس بين يديه ، فدعا الناس إلى بيعته ، فاستجابوا ، وقالوا : ( ما أحبّه إلينا وأحقّه بالخلافة ! فبايعوه ) (10) .
وكان عدد المبايعين له أكثر من أربعين ألفاً ، كانوا قد بايعوا أباه على الموت (11) .
وبقي نحو سبعة أشهر خليفة بالعراق ، وما وراءه من خراسان والحجاز واليمن (12) .
وقد جاءت اعترافات معاصريه ( عليه السلام ) بمؤهّلاته وفضائله لتؤكّد استحقاقه للخلافة ، وخصوصاً أنّ بعض هذه الاعترافات كانت من قِبل شخصيات مخالفة لأهل البيت ( عليهم السلام ) بشكلٍ عام ، والفضل ما يشهد به الأعداء .
قال واصل بن عطاء : كان الحسن بن علي ( عليه السلام ) عليه سيماء الأنبياء وبهاء الملوك (13) .
وقال عنه ( عليه السلام ) مروانُ بن الحكم : أحلَم مِن هذا ـ وأشار إلى الجبل ـ (14) .
وأما مدح معاوية للحسن ( عليه السلام ) فقد كان يقول :
أمّا الحسن فابن الذي كان قبله ، إذا سار سار الموت حيث يسير (15) .
فتميّز الإمام الحسن ( عليه السلام ) بخصائص قيادية فريدة ، جعلت معاوية يوصي أصحابه باجتناب محاورته (16) ؛ لأنّه ( عليه السلام ) كان أحسن الناس منطقاً في زمانه ، وكان معاوية يخشاه ويتخوّف من عودة الخلافة إليه ؛ لتمتّعه بخصائص لا يتّصف بها غيره (17) ؛ لذا كبّر عند موته ( عليه السلام ) وقال : والله ما كبّرت شماتة لموته ، ولكن استراح قلبي ، وصَفَت لي الخلافة .
وكان ( عليه السلام ) دائم الارتباط بالله تعالى وأكثر الناس خشية منه ، إضافة لتميّزه سلام الله عليه بالزهد والخير والكرم والحِلم ، وفوق كلّ ذلك كان شجاعاً لا يخشى إلاّ الله تعالى ، فقد قال لمعاوية ( إنّ الخلافة لمَن سار بسيرة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ... وليست الخلافة لمَن عمَل بالجود وعطّـل الحـدود ) (18) .
ومن كفاءاته ( عليه السلام ) أنّه وجد أنّ مصلحة الإسلام تكمن في الصلح ، فصالح
معاوية ، وحقَن دماء أنصاره وأتباعه وسائر المسلمين ، ولم يدخل في معركة خاسرة لا تُحسم لصالحه ولصالح الوجود الإسلامي .
وعندما يُسأل الإمام الحسن ( عليه السلام ) عن رأيه في السياسة ، يقول ( عليه السلام ) : ( هي أن تراعي حقوق الله ، وحقوق الأحياء ، وحقوق الأموات ، فأمّا حقوق الله ، فأداء ما طلَب ، والاجتناب عمّا نهى . وأمّا حقوق الأحياء ، فهي أن تقوم بواجبك نحو إخوانك ، ولا تتأخّر عن خدمة أُمّتك ، وأن تخلص لوليّ الأمر ما أخلص لأُمّته ، وأن ترفع عقيرتك في وجهه إذا حادَ عن الطريق السويّ . وأمّا حقوق الأموات ، فهي أن تذكر خيراتهم ، وتتغاضى عن مساوئهم , فإنّ لهم ربّاً يحاسبهم ) (19) .
ثانياً : مواقف وتضحيات الإمام الحسن ( عليه السلام ) في أهمّ مراحل سيرته المباركة :
* في عهد جدّه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) :
عاش الإمام الحسن ( عليه السلام ) في عهد رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) سبع سنوات من عمره الشريف ، وكانت تلك السنوات على قلّتها كافية لأن تجعل منه الصورة المصغرّة عن شخصية الرسول الأكرم ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، حتى ليصبح جديراً بذلك الوسام العظيم ، الذي حباه به جدّه ، حينما قال له ـ حسبما روي ـ ( أشبهتَ خَلقي وخُلُقي ) .
فشِبهه ( عليه السلام ) لجدّه في الخَلق ، هو أمر واضح ، من ناحية التشابه بالملامح والمنطق ... أمّا شِبهه في الخُلُق يُعدّ وسام الجدارة لذلك المنصب الإلهي ، الذي هو وراثة وخلافة النبي الأعظم ( صلّى الله عليه وآلـه وسلّـم ) ، ثمّ وصيّه علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، نعم من هنا نعرف السرّ والهدف الذي يرمي إليه النبي الأعظم ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في تأكيداته المتكررة ، تصريحاً ، وتلويحاً على ذلك الدَور الذي ينتظر الإمام الحسن وأخاه ( عليهما السلام ) ، وإلى المهمّات الجليّة التي يتمّ إعدادهما لها ، حتى يصرّح ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بأنّهما ( عليهما السلام ) ( إمامان قاما أو قعَدا ) (20) .
وروي أنّه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أخبر بما يجري على الإمام الحسن ( عليه السلام ) من بعده ، فيقول : ( إنّ ابني هذا سيد ، وسيُصلِح الله على يديه بين فئتين عظيمتين ) (21) (**) .
وممّا يدخل في الحياة السياسية للإمام الحسن ( عليه السلام ) في عهد جدّه النبي ( صلّى الله عليه وآلـه وسلّـم ) ، قضية المباهلة مع علماء نصارى نجران الذين ناظروا رسول الله في عيسى ، فأقام عليهم الحجّة ، فلم يقبلوا... ثمّ اتّفقوا على المباهلة أمام الله ؛ ليجعلوا لعنة الله الخالدة على الكاذبين ، ففي اليوم
المحدّد خرج إليهم النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ومعه علي وفاطمة والحسنان ( عليهم السلام ) ، وأمام ذلك طلب نصارى نجران من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أن يعفيهم من المباهلة ... (22) .
ب ـ في عهد الخلفاء الثلاثة :
في عهد أبي بكر
كان للإمام الحسن ( عليه السلام ) موقف هامّ مع أبي بكر ، حيث جاء إليه يوماً وهو يخطب على المنبر ، فقال له ( عليه السلام ) : ( انزل عن منبر أبي ) ، فأجابه أبو بكر : صدقت والله ، إنّه منبر أبيك ، لا منبـر أبـي ، فبعث علي ( عليه السلام ) إلى أبي بكر : ( إنّه غلام حدث ، وأنا لم آمره ، فقال أبو بكر إنّا لم نتّهمك ) (23) .
مع التأمّل في ردِّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : أنا لم آمره ، أي أنّه لا يتضمّن أي إنكاراً على الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، ولا إدانة لموقفه ، بل الإمام الحسن لا يحتاج إلى أمر ، فهو يدرك كلّ الأحداث التي عايَشها بفِكره الثاقب ، وإنّ عليه مسؤولية إبقاء حقّ أهل البيت ( عليهم السلام ) على حيويّتها في ضمير ووجدان الأُمّة .
في عهد عُمَر بن الخطّاب :
بعد قضية الشورى على النحو المعروف ، ودعوة عمَر بن الخطّاب للمرشَّحين ومخاطبته لهم قائلاً : ( وأحضروا معكم من شيوخ الأنصار ، وليس لهم من أمركم شيء ، وأحضِروا معكم الحسن بن علي ، وعبد الله بن عباس ، فإنّ لهما قرابة ، وأرجو لكم البركة في حضورهما ، وليس لهما من أمركم شيء ويحضر ابني عبد الله مستشاراً ، وليس له من الأمر شيء ... ) فحضر هؤلاء .
فبالنسبة لقبول الإمام الحسن ( عليه السلام ) للحضور في الشورى ، فهو كحضور علي ( عليه السلام ) فيها ... فكما أنّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قد اشترك فيها من أجْل أن يضع علامة استفهام على رأي عُمَر ، الذي كان قد أظهره في أنّ النبوة والخلافة لا يجتمعان في بيت واحد أبداً ، بالإضافة إلى أنّه من أجل أن لا ينسى الناس قضيتهم .. كذلك فإنّ حضور الإمام الحسن ( عليه السلام ) في هذه المناسبة ، إنّما يعني انتزاع اعتراف من عُمَر بأنّه ممَّن يحقّ لهم المشاركة السياسية ، حتى في أعظم وأخطر قضية تواجهها الأُمّة (24) .
في عهد عثمان بن عفان
كان له ( عليه السلام ) مشاركات عدّة ، نذكر منها:
1 ـ مشاركته في الكثير من حروب الدفاع عن بيضة الإسلام ، وفي كثير من الفتوحات الإسلامية أيام خلافة عثمان ، منطلقاً من مقولة أبيه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في رعاية مصلحة الإسلام العليا ، التي كرّرها في أكثر من موضع : ( والله لأسلمنّ ما سلِمت أمور المسلمين ، ولم يكن جَور إلاّ عليّ خاصّة ) .
وقد نقلت كتُب التاريخ ومرويّاته هذه الحقيقة ، وممّا جاء في العِبر لابن خلدون : ( وتطلّع المسلمون إلى البصرة والفتح متفائلين بوجود صغير الرسول وحبيبه يجاهد معهم ، وكانت الغزوة ناجحة وموفّقة كما يصفها المؤرّخون ، وعاد الحسن منها إلى مدينة جدّه وقلْبه مفعَم بالسرور ، وعلامة الارتياح بادية على وجهه الكريم ؛ لانتشار الإسلام في تلك البقعة من الأرض ) (25) .
2 ـ كان موقفه من خلافة عثمان وما آلت إليه هو موقف أبيه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، معبِّراً فيه عن كامل الطاعة والالتزام بأوامره وتوجيهاته في تلك الفترة العصيبة والفتنة العمياء ، خصوصاً بعد أن ملّ المسلمون سياسة عثمان وعمّاله ، حيث إنّه بعد فشل كلّ المحاولات التي بذَلها المسلمون لإصلاح سياسة عثمان ، زحفوا إليه من جميع الأقطار ، ودخلوا في مفاوضات معه يطالبونه إمّا بإصلاح ما أفسده ، أو بالتخلّي عن السلطة .
وكان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وولَده الحسن ( عليه السلام ) وسيطَينِ بين الخليفة ، ووفود الأمصار في محاولة للإصلاح . إلاّ أنّ تدخّل مروان ونقْض كلّ ما أُبرم بين الطرفين من اتّفاقات ، فتعقّدت الأمور أخيراً ، وهاجمه الثوّار بتحريضٍ من عائشة وطلحة والزبير ، وقالت لهم عائشة : ( اقتلوا نعثلاً فقد كفر ) .
وأثناء ذلك أرسل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ـ كما يُذكر ـ ولَدَيه حَسَناً وحسيناً ؛ ليدفعا عن عثمان الثوار ، لدرجة أنّ الحسن ( عليه السلام ) قد أُصيب ببعض الجروح وهو يدافع عنه ، وذلك كما روى ابن كثير .
ولكن ممّا لا شكّ فيه أنّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وولَدَيه ( عليهما السلام ) ، كانوا كغيرهم من خِيار الصحابة ناقمين على تصرّفات عثمان وعُمّاله ، ومع ذلك لم يبلغ بأمير المؤمنين ( عليه السلام ) الحال إلى حدود الرضا بقتله والتحريض عليه ، بل وقف منه موقفاً سليماً وشريفاً (26) .
في عهد أبيه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) :
في هذا العهد كان الإمام الحسن ( عليه السلام ) ظِلاًّ لأبيه ، في كلّ ما تتطلّبه مسألة الولاء لإمامة خليفة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وجندياً واعياً مطيعاً لكلّ أوامره ، ويشهد على ذلك مهمّاته في تلك الفترة والتي منها :
1 ـ دَوره في حرب الناكثين المعروفة بحرب الجَمَل ، وهي الحرب التي استعرت على إثر تمرّد طلحة والزبير في البصرة ، ورفعهما السلاح بوجه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بقيادة عائشة ، فاحتاج الإمام علي ( عليه السلام ) إلى مساندة جماهير الكوفة للذَود عن الحقّ الذي يمثّله ، فاختار لهذه المهمّة
نجلَه الحسن ( عليه السلام ) ؛ وذلك لشحْذ هِمم أهل الكوفة ، وحمْلهم على دعم الموقف الإسلامي الأصيل .
فانطلق الإمام الحسن ( عليه السلام ) برِفقة عمار بن ياسر إلى الكوفة ، حاملاً كتاب علي ( عليه السلام ) إلى أبي موسى الأشعري عامله على الكوفة ، يبلّغه فيه باستغنائه عن خدماته ؛ بسبب تحريضه الناس على القعود عن نُصرة علي ( عليه السلام ) ، وقد نجح الإمام الحسن ( عليه السلام ) في استنفار الجماهير لنصرة الحقّ والذود عن الرسالة ، فخرج معه ( عليه السلام ) إلى البصرة اثنا عشر ألفاً كما جاء في بعض الروايات .
وشارك الإمام الحسن ( عليه السلام ) في هذه الحرب إلى جنب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وحمَل رايته وانتصر بها على الناكثين .
2 ـ دَوره في حرب القاسطين المعروف بحرب صفّين (27) : وهي حرب البُغاة التي قادها معاوية بن أبي سفيان خروجاً على خلافة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وهكذا أيضاً كان دَور الحسن ( عليه السلام ) فيها كدَوره في حرب الجَمَل ، بل زاد عليه ، حيث قام بتعبئة المسلمين للجهاد وبذَل جهده ؛ لإحباط مؤامرة التحكيم والاحتجاج على المناوئين به ، بل وقد عبّر الإمام الحسن (عليه السلام) عن ولائه المطلق لأبيه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في محنته هذه ، مستخفّاً بإغراء البُغاة له بالخلافة دون أبيه ، وذلك حين عرَض عليه عبد الله بن عُمَر أن يخلع أباه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وأن يتولّى هو بنفسه ( عليه السلام ) الأمر ، فأجابه الإمام الحسن ( عليه السلام ) ( كلاّ ، والله لا يكون ذلك أبداً ) .
وبعد النزاع الذي ساد جيش أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على أثر قضية التحكيم في معركة صفين ، وانقسام الجيش بين مؤيّد ورافضٍ ، استطاع الإمام الحسن ( عليه السلام ) وبتكليفٍ من أبيه (عليه السلام) ، أن يحكي للقوم حقيقة الأمر في كون التحكيم فاسداً .
ثالثاً : الإمام الحسن ( عليه السلام ) في الحُكم
أجمع المؤرّخون على أنّ خلافة الحسن بن علي ( عليه السلام ) كانت في صبيحة اليوم الذي دُفن فيه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وبعد الفراغ من إنزال حكم الله بقتْل ابن ملجم ، فقد ضربه ضربةً واحدة قضت عليه كما أوصاه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
ومِن ثَمّ تجمّع عنده المسلمون ليبايعوه على الخلافة ـ كما أشرنا مسبقاً ـ وعندما بويع الإمام ( عليـه السـلام ) ، كان في الجانب الآخر معاوية بن أبي سفيان يترصّد الأخبار ، وعاصمته تحتفل بقتل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، ولكن خبر البيعة للإمام الحسن ( عليه السلام ) هزّه وأرعد فرائصه ، فعمل معاوية على بثّ الجواسيس في داخل المجتمع الإسلامي ؛ لنشر الإرهاب وإشاعة الدعايات ضد حكم أهل البيت ( عليهم السلام ) لصالح الفتنة في الشام ، لكن سياسة الإمام الحسن ( عليه السلام ) كشفت مخطّطات معاوية .
وكثُرت الرسائل المتبادلة بين الإمام ( عليه السلام ) و معاوية ، وكان أهمّها كتاب الإمام ( عليه السلام ) له بوجوب التخلّي عن انشقاقه والانضواء تحت لوائه الشرعي ، إلاّ أنّ معاوية رفض ذلك ، وكان جوابه الأخير لرسولَي الحسن ( عليه السلام ) إليه ، أنّه قال لهما : ( ارجعا فليس بيني وبينكم إلاّ السيف ! ) .
وهكذا ابتدأ معاوية العدوان ، ممّا دفع الإمام الحسن ( عليه السلام ) لإعلان التعبئة لحرب الباغية معاوية بن أبي سفيان ، ولكنّه ( عليه السلام ) أُصيب بخيبة أمل كبيرة حينما انكشف له واقع الجماهير التي يقودها ، والتي أثّرت فيها الدعايات الأُمَوية ، ولكن هذا النداء وصل إلى أسماع بعض المخلصين ، الذين عبّروا عن إخلاصهم بتأنيب الناس ، وتحريضهم على النهوض بمسؤولياتهم الرسالية ، وعاهدوا الإمام الحسن ( عليه السلام ) على المضي قُدُماً في نصرة الحقّ ومواجهة الطغيان .
فاستطاع الإمام ( عليه السلام ) أن يسير بعد ذلك بجيش كبير ، بلَغ حسب بعض الروايات أربعين ألفاً أو أكثـر ، ولكنّه ضعيف في معنوياته يستبدّ به التشتّت حتى بلغ النخيلة (28) .
فنظّم الجيش ورسم الخطط لقادة الفِرَق ، وتوجّهَ بعد ذلك إلى دير عبد الرحمن (29) . وهناك قرّر إرسال طليعة عسكرية كمقدّمة لجيشه إلى ( مَسكن ) (30) ، واختار لقيادتها ابن عمّه عبيد الله بن العباس وقيس بن سعد بن عبادة كمعاونٍ له ، وأقام هو في المدائن (31) ، واتّخذها مقرّاً لقيادته العليا ، وأمّا الطليعة التي أرسلها إلى ( مَسكن ) بقيادة ابن عمه عبيد الله ، فهي الميدان الذي سوف يواجه فيها معاوية وأهل الشام ، وليس بين المعسكرين إلاّ خمسة عشر فرسخاً ، وكان خيرة جنود الحسن ( عليه السلام ) في الركْب الذي سبَقه إلى ( مَسكن ) ، وأنّ الفصائل التي عسكر بها الحسن ( عليه السلام ) في المدائن كانت من أضعف الجيوش معنوية ، ومِن أقرَبها نزعة إلى النفور والقلق والانقسام .
وبما أنّ الإمام وجيشه كانوا في معزل عن بعضهما ، فقد تمكّن معاوية من بثّ الإشاعات المضلّلة في صفوف جيش الإمام ، فقد أُشيع بين جيش الإمام أنّ الإمام قد صالح معاوية ، فاضطرب جيش الإمام لهذه الإشاعة ، ما دفع عبيد الله بن العباس ابن عمّ الإمام إلى الوقوف إلى جانب معاوية وترْك جيش الإمام ، وفي هذه الأثناء أيضاً دارت على الألسُن إشاعةٌ تفيد بقبول قيس بن سعد للصُلح ، وهو قوّة المقاومة الوحيدة المتبقّية في مقابل معاوية .
وكانت هذه بمثابة الضربة القاضية التي وُجّهت إلى الوضع النفسي المنهار في جيش الإمام ، ولم يمضِ بعض الوقت حتى طغَت على السطح كلّ العِلَل ، التي تفشّت في معسكر الإمام ( عليه السلام ) على شكلِ تمزّقٍ وفِتن واضطراب وتآمر على القيادة ذاتها .
وهنا اطمأنّ معاوية بأنّ المعركة لو وقعت بين أهل الشام وأهل العراق ستكون لصالحه ، وسيكون الحسن بن علي ( عليه السلام ) والمخلصون له من جُنده ، خلال أيام معدودات بين قتيل وأسير تحت رحمته ، وأنّ السلطة صائرة إليه لا محالة .
ولكن استيلاءه عليها بقوّة السلاح لا يعطيها الصبغة الشرعية ، ما دفعه إلى التقدّم بعَرض فكرة الصلح على الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، وترَك للإمام أن يشترط ما يريد ، وكان معاوية عارفاً بأنّ مثل هذه الفكرة ستثير الفِتَن بين صفوف أنصار الإمام ، بل سيفضلونها على الذهاب إلى الحرب والقتال ، وبالفعل أثمرت فكرة الصلح نتائجها ، حيث يذكر الشيخ المفيد في إرشاده والطبرسي في أعلام الورى : ( أنّ أهل العراق كتبوا إلى معاوية السمع والطاعة ، واستحثّوه على السَير نحوهم ، وضمنوا له تسليم الحسَن إليه إذا شاء ، عند دُنوّه من معسكرهم ، أو الفتْك به ) (32) .
لدرجة أنّ الحسن ( عليه السلام ) لمّا بلَغه ذلك ، كان لا يخرج بدون لامَة حرْبِه ( أي الدرع ) ، ولا ينزعها حتى في الصلاة ، وقد رماه أحدهم بسهم وهو يصلّي فلم يثبت فيه .
فالإمام الحسن ( عليه السلام ) لم يفكّر قطّ بالصلح مع معاوية أو مهادنته ، غير أنّه بعد أن تكاثرت لديه الأخبار عن تفكّك جيشه ، وانحياز أكثر القادة إلى جانب معاوية ، قرّر ( عليه السلام ) أن يدفع بأعظم الضرَرَين :
أوّلهما : الاستمرار بحرب خاسرة لا محالة فيها فناؤه ، وفناء أهل بيته وبقية الصفوة الصالحة .
والثانية : القبول بالصلح وحقن دماء أهل بيت النبوة والعصمة وبقية الصفوة الصالحة من شيعتهم ؛ ليتّصل حبلهم بحبل الأجيال اللاحقة ، وليصل إليها معالم الدين .
وهكذا اضطرّ الإمام الحسن ( عليه السلام ) للصلح ، في محاولة ناجحة لكشف حقيقة معاوية ، الذي انفرد بالحكم واستأثر بإدارة شؤون الأُمّة التي ساندته فرأت طبيعته وحكمه ، ومدى الفرْق الشاسع بينه وبين أيام الأمير علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، وبذلك يتحمّل الذين أطاعوا معاوية مسؤولية هذه المأساة التاريخية .
فإذاً ، لم يكن الناس قبل توقيع الصلح ينظرون إلى معاوية على أنّه حاكم جائر ، بل كانوا ينظرون إليه على أنّه رجل طالب للحياة والسلطة لا أكثر ، والذي كشف معاوية على حقيقته للناس هو ( صُلح الإمام الحسن ( عليه السلام ) ) وشروط الإمام الحسن ( عليه السلام ) .
وقد أثبتت الأيام غدر وخيانة معاوية ؛ وذلك عندما داس على بنود الصلح بقدَمَيه ولم يَعُد يعني له ذلك شيئاً ، ممّا أدّى ذلك لانتشار التململ بين أصحاب الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، بحيث إنّهم تجرّأوا على إمام زمانهم ووصفوه بمُذلِّ المؤمنين ، فصبر سلام الله عليه صبراً جميلاً ، وطفق يُبيّن لهم الحقائق التي خفِيَت عنهم في أجواء الانفعال والعاطفة والغضب ، الذي اعتراهم من تحدّي معاوية لهم ، ونقضه لوثيقة الصلح وتوهينه للإمام الحسن ( عليه السلام ) وأصحابه .
فعن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد قال : ( حدّثني رجُل منّا ، قال : أتيت الحسن بن علي ( عليه السلام ) فقلت : يا بن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أَذلَلْت رقابنا وجعلتنا معشر الشيعة عبيداً ، ما بقي معك رجُل ، قال ( عليه السلام ) : ومِمّ ذلك ؟ قال : قلت : تسليمك الأمر لهذا الطاغية ـ إشارة لمعاوية ـ قال ( عليه السلام ) : ( والله ما سلّمت الأمر إليه إلاّ أنّي لم أجد أنصاراً ، ولو وجدت أنصاراً لقاتلته ليلي ونهاري حتى يحكم الله بيني وبينه ) (33) .
رابعاً : الشهادة المباركة
انتقل الإمام الحسن ( عليه السلام ) بعد توقيع الصلح مع معاوية ، إلى مدينة جدّه المصطفى ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وودّعته الكوفة وأهلها وهُم يرون الذلّة قد خيّمت عليهم ، وتحكّمت الفتنة بهم ، وبوصول الإمام ( عليه السلام ) إلى المدينة بدأت نشاطاته ، وأعماله الفكرية ، والاجتماعية تأخذ جانباً مهماً في حياة المسلمين ، فأنشأ مدرسة وقيادة فكرية كبرى ؛ لتكون محطّة إشعاع للهدى والفكر الإسلامي .
ولكن أجهزة الحكم الأُمَوي لم يكن خافياً عليها ذلك ؛ ولأجل هذا عقد أقطاب السياسة المنحرفة اجتماعاً مع معاوية لتداول أمر وضع الحسن ( عليه السلام ) ، فكان حديثهم : ( إنّ الحسن قد أحيا أباه وذِكره : قال فصُدِّق وأمَر فأُطيع ، وخفقَت له النعال ، وإنّ ذلك لدافعه إلى ما هو أعظم منه ، ولا يزال يبلغنا عنه ما يسـيء إلينـا ) (34) .
وهذا الحديث على وجازته يُعتبر أخطر تقرير قدّمه أقطاب البيت الأُمَوي وقادته إلى زعيمهم معاوية ، حول نشاط الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، بما دفع معاوية إلى ارتكاب إحدى أكبر الجرائم البشعة بحقّ آل محمد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وذلك من خلال خطّته الخبيثة التي دبّرها بالاتّفاق مع زوجة الإمام الحسن ( عليه السلام ) ـ جعدة بنت الأشعث (35) ـ التي دسّت له السم (36) ، فقضى شهيداً وكان ذلك سنة ( 49 للهجرة ) .
وتشير الروايات بأنّ هذه ليست المرّة الأُولى التي يتعرّض فيها الإمام الحسن ( عليه السلام ) لمحاولة اغتياله بالسمّ ، حيث ورد عن اليعقوبي : ( ولمّا حضرته الوفاة قال لأخيه الحسين : ( يا أخي إنّ هذه آخِر ثلاث مرّات سُقيت فيها السمّ ، ولم أُسقَه مثل مرّتي هذه ، وأنا ميّت من يومي ) .
وقال ابن سعد في طبَقاته : ( سمَّه معاوية مِراراً ) .
ومِن ثَمّ باشر الإمام الحسين ( عليه السلام ) أمر تجهيزه ، وأخرجه ليُجدّد به عهداً بجدّه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، ولم يشكّ بنو أمية ، أنّهم سيدفنونه هناك ، فاجتمعوا لذلك ، ولبسوا السلاح ، وأقبلوا ومعهم عائشة على بَغْل وهي تقول : ( ما لي ولكم ، تريدون أن تُدخلوا بيتي ـ أي عند قبر الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ـ مَن لا أحبّ ) ، وكادت الفتنة أن تقع ، بين بني هاشم ، وبني أمية ، إلاّ أنّ الحسين ( عليه السلام ) تدارك ذلك ومضى بأخيه الحسن إلى البقيع ، ودفنوه هناك عند جدّته فاطمة بنت أسد .
ــــــــــــــــــــ
* اقتباس وتصحيح شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي ، والمقالة مقتبسة من : مجلة الكلم الطيب ، العدد 21 ، السنة الخامسة 2005 م .
1 ـ جولة في سيرة الأئمة الأطهار ، الشهيد مطهري ، ص39 .
2 ـ الاحتجاج ، للطبرسي ، ص151 .
3 ـ المحاسن والمساوئ ، للبيهقي ، ج1 ، ص60 و 65 .
4 ـ الدروس العظيمة من سيرة أهل البيت ، الإمام الخامنئي ، ص143 ـ 146 .
5 ـ البحار ، 43 ـ 263 ، ج11 .
6 ـ فرائد السمطين ، ج2 ، ص 68 .
7 ـ أمالي المفيد ، ص 217 .
8 ـ تُحف العقول ، ص 158 .
9 ـ أعلام الورى بأعلام الهدى ، ص 207 .
10 ـ الكامل في التاريخ ، ج3 ، ص 170 .
11 ـ شرح نهج البلاغة ، ج16 ، ص30 ـ 31 .
12 ـ أسد الغابة ، ج1 ، ص 491 .
13 ـ تاريخ ابن كثير ، ج8 ، ص 37 .
14 ـ تحف العقول ، ص166 .
15 ـ ابن أبي الحديد ، ج4 ، ص73 .
16 ـ بحار الأنوار ، ج43 ، ص 338 .
17 ـ وفيات الأعيان ، ج2 ، ص 99 .
18 ـ ربيع الأبرار ، ج2 ، ص 837 .
19 ـ الحياة السياسية للإمام الحسن ( عليه السلام ) ، السيد جعفر مرتضى العاملي ، ص 7 .
20 ـ الإرشاد للمفيد ، ص 22 .
21 ـ أسد الغابة ، ج2 ، ص 13 .
(**) هنا أشارة لصلح الحسن مع معاوية مستقبلاً .
22 ـ المباهلة من البهلية ، أي اللعنة .
23 ـ تاريخ الخلفاء ، السيوطي ، ص 80 .
24 ـ الحياة السياسية للإمام الحسن ( عليه السلام ) سيد جعفر العاملي ، ص 125 ـ 126 .
25 ـ يراجع تاريخ الأمم والملوك ، ج5 ، ص 57 . والكامل لابن الأثير ج3 ، ص 109 . والفتوحات الإسلامية ، ج1 ، ص 175 .
26 ـ يراجع سيرة الأئمة الاثني عشر ، للحسني ، ج1 ، ص 485 ـ 486 .
27 ـ صفّين: اسم موضع على شاطئ الفرات ، حيث كان ميدان لحروب طاحنة بين الكوفة والشام .41
28 ـ النخيلة ، موضع قريب من الكوفة ، باتجاه الشام .
29 ـ دير عبد الرحمن : هو مفرق طرق بين معسكري الإمام ( عليه السلام ) في المدائن ومسكن .
30 ـ مَسْكن : هي تقع على نهر وجبل ، ويقصد بـ ( مسكن ) القرية الكثيرة البساتين والشجر .
31 ـ المدائن : وهي عاصمة الساسانية ، وفيها مرقد الصحابي الجليل سلمان الفارسي .
32 ـ المفيد ، الإرشاد ، ص 190 .
33 ـ الطبرسي ، الاحتجاج ، ج2 ، ص 291 .
34 ـ حياة الرسول وأهل بيته ، حياة الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، ص 47 .
35 ـ جَعدة بنت الأشعث : هي إحدى زوجات الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، أقدمت على جريمتها النكراء ... بحكم بُنوَّتها للأشعث بن قيس ـ المنافق المعروف ـ الذي أسلم مرّتين ، وفي مقابل ذلك وعَدَها معاوية بتزويجها ابنه يزيد ، وإعطائها مِئة ألف درهم ، ولكنّها لم تلقَ من ذلك شيء .
36 ـ السم : وهو عبارة
بقلم: فاضل عباس
مركز الإمام الحسن عليه السلام للدراسات التخصصية