كان على الإمام السّجّاد عليه السلام، من أجل حفظ تيّار الإسلام الأصيل والمذهبيّ والواقعيّ، أن ينهض للجهاد، ويجمع كلّ هذا الشّتات الإسلاميّ،
الإجراءات التنفيذيَّة للإمام السجّاد عليه السلام
كان على الإمام السّجّاد عليه السلام، من أجل حفظ تيّار الإسلام الأصيل والمذهبيّ والواقعيّ، أن ينهض للجهاد، ويجمع كلّ هذا الشّتات الإسلاميّ، ويتّجه بهم نحو الحكومة العلويّة، أي نحو الحكومة الإسلاميّة الواقعية. لقد عمل الإمام السّجّاد عليه السلام في ظلّ هذه الظّروف طيلة 34 سنة. وسنكتفي بذكر بعض المقاطع البارزة من حياة الإمام السّجّاد عليه السلام، ومواقفه المشرّفة.
إعادة بناء المجتمع الإسلاميّ
1- تدوين الفكر الإسلاميّ الأصيل، وحفظه:
إنّ أعظم الأدوار الّتي مارسها الإمام السجّاد عليه السلام هي أنّه دوّن الفكر الأصيل للإسلام: كالتوحيد، والنبوّة، وحقيقة المقام المعنويّ للإنسان، وارتباطه بالله. وأهمّ دور أدّته الصّحيفة السجّادية هو في هذا المجال. فانظروا إلى هذه الصّحيفة، ثمّ جولوا ببصركم في أوضاع النّاس على صعيد الفكر الإسلاميّ في ذلك الزّمن، ستجدون مدى المسافة الّتي تفصل بين الاثنين.
قام الإمام السجّاد عليه السلام بعملٍ كبيرٍ لأجل أن يحفظ الفكر الأصيل للإسلام في فضاء المجتمع الإسلاميّ.
ويظهر هذا الأمر في كلمات الإمام عليه نجد رسالة الحقوق، وهي رسالة مفصّلة بحجم رسالةٍ حقيقية بحسب اصطلاحنا، وهي رسالة كتبها الإمام لأحد أصحابه، يذكر فيها حقوق الأفراد والإخوان بعضهم على بعض، ويذكر فيها أيضًا حقّ الله علينا، وحقّ أعضائنا وجوارحنا، وحقّ العين واللسان واليد والأذن... كما يذكر حقّ حاكم المجتمع الإسلاميّ، وحقّنا عليه، وحقّنا على جيراننا، وحقّنا على أسرتنا. لقد ذكر كلّ هذه الأنواع من الحقوق الّتي تُنظّم العلاقات بين الأفراد في النّظام الإسلاميّ. فالإمام، وبهدوءٍ تامّ، ومن دون أن يأتي على ذكر الحكومة والجهاد والنّظام المستقبليّ، قد ذكر في هذه الرسالة أسس علاقات النّظام المقبل، بحيث إنّه لو جاء يومٌ وتحقّق نظام الحكومة الإسلاميّة في عصر الإمام السجّاد نفسه - وهو بالطبع احتمالٌ بعيد - أو في العصور اللاحقة، فهو يُعرّف النّاس إلى الإسلام الّذي ستُحقَّق حكومته في المستقبل، ليلقي في أذهانهم مسبقًا طبيعة العلاقات الّتي تربط بينهم في ذلك النّظام. هذا نوعٌ آخر من كلمات الإمام السجّاد الّتي تلفت الأنظار كثيرًا.
كما أنَّ الصحيفة السجّادية أيضاً تتضمّن مجموعة من الأدعية في المجالات الّتي ينبغي أن يلتفت إليها الإنسان اليقظ والفطن كافة، وأكثرها في الروابط والعلاقات القلبية والمعنوية للإنسان. في هذه الأدعية والمناجاة، توجد مطالب معنوية وتكاملية كثيرة، لا حصر لها. والإمام عليه السلام في ثنايا هذه الأدعية، وبلسان الدّعاء، يُحيي في أذهان النّاس الدوافع نحو حياة إسلاميّة، ويوقظها. إحدى النتائج الّتي يُمكن أن تحصل من الأدعية، وقد ذكرناها مراراً، هي إحياء الدوافع السليمة والصحيحة في القلوب. فعندما ندعو: "اللهمّ اجعل عواقب أمورنا خيراً"، فإنّ هذا الدّعاء يُحيي في القلوب ذكر العاقبة، ويدفع أصحابها للتفكّر في المصير. فقد يغفل الإنسان أحيانًا عن عاقبته، ويعيش ولا يلتفت إلى مصيره. فإذا تلا هذا الدعاء، يستيقظ فجأة إلى ضرورة تحسين عاقبته. أمّا كيف يتمّ ذلك فهذا بحثٌ آخر. فقط أردت أن أضرب مثلاً حول الدور الصادق للدعاء. وهذا الكتاب المليئ بالدوافع الشريفة للأدعية، كافٍ لإيقاظ المجتمع، وتوجيهه نحو الصلاح. وإذا تجاوزنا ذلك، وجدنا روايات قصيرة وعديدة نُقلت عن الإمام السجّاد عليه السلام. منها ما ذكر سابقاً: "أوَلا حرٌّ يدعْ هذه اللماظة لأهلها"1. انظروا كم هو مهمٌّ هذا الحديث. فالزخارف الدنيويّة، والزبارج كلّها، ما هي سوى بقايا لعاب الكلب التي لا يتركها إلا الحرّ. وكلّ أولئك الّذين يدورون في فلك عبد الملك، إنّما يريدون تلك اللماظة. وأنتم أيها المؤمنون لا تنجذبوا إليها. ونجد الكثير من مثل هذه الكلمات الثورية والملفتة في خطب الإمام السجّاد عليه السلام2.
2- إصلاح النّاس، وإرشادهم:
انتشر الانحطاط الفكريّ، والفساد الأخلاقيّ، والفساد السياسيّ في المجتمع الإسلاميّ، كما ذكرنا. فأغلب الشخصيّات الكبار قد تشبّثوا بفضلات الحياة المادية لرجال الحكومة آنذاك. شخصيّات كبيرة مثل محمّد بن شهاب الزهريّ، الذي كان في مرحلة من المراحل، من تلامذة الإمام السّجّاد عليه السلام، أصبح تابعًا للجهاز الحاكم.
ونقل العلّامة المجلسيّ في البحار على ما يبدو عن جابر بن عبد الله أنّ الإمام السّجّاد عليه السلام قال: "ما ندري كيف نصنع بالنّاس، إن حدّثناهم بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضحكوا"، فهم لا يكتفون بالرّفض، بل يضحكون استهزاءً، "وإن سكتنا لم يسعنا"3. ومن ثمّ يذكر حادثةً حيث نقل الإمام حديثًا لجماعةٍ، كان فيها شخصٌ استهزأ ورفض ذلك الحديث. ثمّ يذكر بشأن سعيد بن مسيّب، والّزهريّ أنّهم كانوا منحرفين، وبالطّبع لا نقبل ذلك بشأن سعيد بن مسيّب، فهناك شواهد عديدة على أنّه كان من حواريّي الإمام، لكن ما يتعلّق بالزّهريّ وكثيرين غيره كان الأمر كذلك. ويُعدّد ابن أبي الحديد أسماء عدد من الشخصيّات ورجال ذلك الزمان من الّذين كانوا من أتباع أهل البيت عليهم السلام ثمّ انحرفوا فيما بعد.
في ظل هذه الظروف، كان يجب على الإمام الإنطلاق لإصلاح دين النّاس، وإصلاح أخلاق النّاس، وإخراج النّاس من مستنقع الفساد، كما كان يجب إعادة إحياء التوجّه إلى المعنويّات، المعنويّات التي هي لبّ لباب الدّين، وروحه الأصليّ. لذا نرى أنّ أكثر الكلام المنقول عن الإمام السجّاد عليه السلام هو في الزّهد: "إنّ علامة الزاهدين في الدنيا، الراغبين عنها في الآخرة...إلخ"4. هذه الجملة هي بداية حديثٍ طويل مفصّل. وإنْ كان في هذا الحديث مفاهيم وإشارة إلى تلك الأهداف التي ذكرناها.
إنّ أكثر كلمات الإمام السّجّاد عليه السلام كانت حول الزّهد والمعارف الإسلاميّة، إلّا أنّ الإمام كان يطرح المعارف الإسلاميّة، ويُبيّنها من خلال الدّعاء، وذلك لأنّ الظّروف في ذلك العهد، وكما كُنّا قد ذكرنا، كان يسودها القمع، ولم يكن الوضع ملائمًا بحيث يُسمح للإمام السجّاد عليه السلام بأن يتكلّم إلى النّاس، ويطرح آراءه بصورة صريحة وواضحة. لم تكن الأجهزة فقط هي المانع، بل النّاس أيضًا كانوا يرفضون ذلك. أساسًا، فإنّ المجتمع كان قد أصبح مجتمعاً فاسدًا ضائعاً فاقدًا للاستعداد، وكان يجب إعادة بنائه من جديد.
3- تعريف النّاس إلى أحقّية أهل البيت عليهم السلام:
من النشاطات المهمّة للإمام السجّاد عليه السلام تعريف النّاس إلى أحقّية أهل البيت عليهم السلام، وأنّ مقام الولاية والإمامة والحكومة حقٌّ ثابت لهم. إذ كيف يُمكن لأهل البيت عليهم السلام تشكيل حكومة في الوقت الّذي كان الإعلام والتبليغ ضدّ آل الرسول قد ملأ العالم الإسلاميّ طوال عشرات السنين، حتّى عصر الإمام السجّاد عليه السلام، وفيه ظهرت الأحاديث الموضوعة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والّتي تُخالف حركة أهل البيت عليهم السلام، بل إنّها في بعض الموارد تشتمل على سبّهم ولعنهم، وقد نُشرت بين أناس لم يكن لديهم أي اطّلاع على المقام المعنويّ والواقعيّ لأهل البيت.
لهذا، من التحرّكات المهمّة للإمام السجّاد عليه السلام ما كان يرتبط بتعريف النّاس إلى أحقّية أهل البيت، وأنّ مقام الولاية والإمامة والحكومة حقٌّ ثابت لهم، وهم الخلفاء الواقعيّون للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا الأمر، إلى جانب أهميّته العقائدية والفكريّة، له ماهيّة سياسيّة، وهي الارتباط بالحركة السّياسيّة المناهضة للنّظام الحاكم.
4- تأسيس الأجهزة والتشكيلات الشيعية:
إنّ تأسيس التشكيلات الشيعية في المجتمع، يُمكن أن يكون منطلقًا أصليًّا للتحرّكات السّياسيّة المستقبليّة. ففي مجتمعٍ ممزّق، يعيش تحت أنواع القمع والفقر والتضييق الماليّ والمعنويّ، حتّى أنّ الشّيعة عاشوا من الرّعب والتضييق إلى درجة أنّ تشكيلاتهم تلاشت، فكيف يُمكن للإمام السجّاد عليه السلام أن يبدأ عمله وحيدًا، أو مع مجموعة قليلة وغير منظّمة؟ لهذا كان همّ الإمام السجاد عليه السلام أن يبدأ بتشكيل هذه التّنظيمات الّتي كانت، برأينا، موجودة منذ أيّام أمير المؤمنين عليه السلام، غير أنّها ضعفت وتلاشت إثر واقعة عاشوراء والحرّة، وثورة المختار.
والدليل على وجود التشكيلات السريَّة هو كلمات الإمام السجّاد عليه السلام الواردة في كتاب "تحف العقول"، حيث نُشاهد عدّة أنواع من أساليب الخطاب الّتي تُشير إلى طبيعة الجهات المخاطَبة. وأبرز هذه الأساليب نجده في:
أ- الخطاب الموجه لعامّة النَّاس:
أحد تلك الأنواع هو الكلمات الموجّهة إلى عامّة النّاس، والّتي يظهر فيها أنّ المستمع ليس من الجماعة المقرَّبة والخاصّة للإمام، أو من الكوادر التّابعين له. وفي هذه الخطابات يستند الإمام عليه السلام دائمًا إلى الآيات القرآنية، لماذا؟ لأنّ عامّة النّاس لا ينظرون إلى الإمام السجّاد عليه السلام كإمام، بل يطلبون الدّليل على كلماته، ولهذا كان الإمام يستدلّ إمّا بالآيات أو بالاستعارة من الآيات. ولعلّه في هذه الرّوايات قد استخدم، في 50 موردًا أو أكثر، آيات قرآنيّة، إمّا بصورة مباشرة، أو بطريق الاستعارة.
ففي رواية مفصّلة من كتاب "تحف العقول" تحت عنوان: "موعظته لسائر أصحابه وشيعته، وتذكيره إيّاهم كلّ يوم جمعة"5، نجد أنّ دائرة المستمعين واسعة، وهذا ما نستنتجه من القرائن المفصّلة الواردة فيها. فلم يستخدم الإمام عليه السلام في هذه الرّواية كلمة "أيّها المؤمنون" أو "أيّها الإخوة"، وأمثالها، حتّى نعلم أنّ خطابه موجّه إلى جماعة خاصّة، ولكنّه قال "أيّها النّاس"، وهذا يُشير إلى عموميّة الخطاب.
لا يوجد في هذه الرواية تصريحٌ بشيء معارض للجهاز الحاكم، بل انصرف كلّ الخطاب لبيان العقائد وما ينبغي أن يعرفه الإنسان، وذلك بلسان الموعظة. فالخطاب يبدأ هكذا: "أيها النّاس، اتقّوا الله، واعلموا أنّكم إليه راجعون...". ثمّ يتطرّق الإمام عليه السلام إلى العقائد الإسلاميّة، ويوّجه النّاس إلى ضرورة فهم الإسلام الصّحيح، وهذا يدلّ على أنّهم لا يعرفون الإسلام الصحيح، وهو يريد بذلك إيقاظهم من غفلة الجهل إلى معرفة الإسلام وتعاليمه.
هنا يستفيد الإمام السّجاد عليه السلام من الأسلوب الجذّاب، حيث يقول هنا: "ألا وإنّ أوّل ما يسألانك عن ربّك الّذي كُنتَ تعبده"6، ويمضي على هذا المنوال ناصحًا، ويُخوّف من ذلك الوقت الّذي يوضع فيه المرء في قبره، ويأتي منكر ونكير لمساءلته. وبهذا يريد أن يوقظ فيهم الدّافع إلى معرفة الله، وفهم التوحيد، "وعن نبيّك الّذي أُرسل إليك"، ثمّ الدافع لفهم النبوة، "وعن دينك الّذي كنت تدين به، وعن كتابك الّذي كنت تتلوه..."7.
وأثناء عرضه هذه العقائد الأصيلة، والمطالب الأساس للإسلام، كالتوحيد والنبوّة والقرآن والدين، يُبيّن عليه السلام هذه النقطة الأساس بقوله: "وعن إمامك الّذي كنت تتولّاه"8، فهو هنا يطرح موضوع الإمامة. وقضيّة الإمامة عند الأئمّة تعني قضيّة الحكومة أيضًا، إذ لا يوجد فرق بين الولاية والإمامة على لسان الأئمّة عليهم السلام. وإن كان للوليّ والإمام معانٍ مختلفة عند بعض النّاس، ولكن هاتين القضيّتين - الولاية والإمامة ــ على لسان الأئمّة أمرٌ واحدٌ، والمراد منهما واحد. وكلمة "الإمام" المقصودة هنا تعني ذلك الإنسان المتكفّل بإرشاد النّاس وهدايتهم من الناحية الدينيّة، والمتكفّل أيضًأ بإدارة أمور حياتهم من النّاحية الدنيويّة، أي خليفة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقائد المجتمع، أي ذلك الإنسان الّذي نتعلّم منه ديننا، وتكون بيده إدارة دنيانا أيضًا، بحيث تكون إطاعته في أمور الدّين والدّنيا واجبة علينا.
وهكذا عندما كان الإمام السجّاد عليه السلام يقول إنّك ستُسأل عن إمامك في القبر، كان يُشير إلى أنّك هل انتخبت الإمام المناسب والصّحيح؟ وهل أنّ ذلك الشّخص الّذي كان يحكمك، ويقود المجتمع الّذي تعيش فيه، هو حقّاً إمام؟ وهل هو ممّن رضي الله عنه؟ لقد كان الإمام بهذا الكلام يوقظ النّاس، ليجعل هذه القضيّة حسّاسة في نفوسهم.
بهذه الطريقة كان الإمام يحيي قضيّة الإمامة. فلمّا لم يكن الجهاز الأمويّ الحاكم يرضى بأن يتمّ الحديث عنها، استخدم الإمام أسلوب الموعظة.
ب- الخطاب الموّجه للخواص:
في الخطاب الموجّه إلى المؤمنين، نجد الأمر يختلف، لأنّ هؤلاء المؤمنين يعرفون الإمام السجّاد عليه السلام، وقوله مقبول عندهم. لهذا لم يكن يستند في كلامه إلى الآيات القرآنية. ولو أحصينا كلّ كلامه الموجّه إليهم، لوجدنا أنّ استخدام الآيات القرآنية فيه قليل جدًّا.
نجد في كتاب تحف العقول نموذجًا لهذا النّوع من الكلمات الصّادرة عن الإمام السجّاد عليه السلام.
"كفانا الله وإيّاكم كيد الظالمين، وبغي الحاسدين، وبطش الجبّارين"9. ويُعلم من هذا البيان أنّ الإمام والجمع الحاضر مهدّدون من قِبَل السلطات الحاكمة، وأنّ المسألة ترتبط بمجموعة خاصّة: المؤمنين بأهل البيت عليهم السلام، ولذلك جاء الخطاب بصيغة "يا أيّها المؤمنون"، خلافًا للنّوع الأوّل حيث يستعمل "يا أيّها النّاس" أو "يا ابن آدم"، وذلك لأنّ الخطاب موجّه في الحقيقة إلى المؤمنين بأهل البيت وأفكار أهل البيت عليهم السلام.
والدّليل الآخر الواضح جدًّا هو عندما يقول عليه السلام: "أيّها المؤمنون، لا يفتننّكم الطواغيت وأتباعهم من أهل الرغبة في الدنيا، المائلون إليها، المفتونون بها، المقبلون عليها"10.
فالمقصد الأصليّ من الكلام هو حفظ هؤلاء المؤمنين، وبناء الكادر اللازم للمستقبل. ومن الواضح أنّه على أثر الصّراع الشّديد في الخفاء، ما بين أتباع الأئمّة عليهم السلام وبين أتباع الطواغيت، فإنّ أتباع الأئمّة عانوا من الحرمان الكبير والخطر الأكبر الّذي يُهدّد المجاهدين، وهو التوجّه إلى الرفاهية، هذه الرفاهية الّتي لن تجرّهم سوى إلى ترك الجهاد.
ماذا يعني التّحذير من الدنيا؟ إنّه يعني حفظ النّاس من الانجذاب نحو المترَفين والإيمان بهم وتمييزهم، بحيث تقلّ حدّة مواجهة النّاس لهم. وهذا النّوع من الخطابات موجّه للمؤمنين، أمّا في الخطاب المتوجّه إلى عامّة النّاس، فقلّما نجد مثل هذا النّوع. ففي خطاب عامّة النّاس، كثيرًا ما يظهر: أيّها النّاس، التفتوا إلى الله، إلى القبر والقيامة، إلى أنفسكم والغد. فما هو هدف الإمام عليه السلام من هذا النوع الثاني من الخطاب؟ المقصود هو بناء الكادر.
فهو عليه السلام يريد أن يصنع من المؤمنين كوادر ملائِمة للمرحلة، ولهذا يُحذّرهم من الانجذاب نحو أقطاب القدرة والرّفاهية الكاذبة. ويُكرّر ذكر النّظام الحاكم، خلافًا للنوع الأوّل من الكلمات، كما يقول مثلاً: "وإنّ الأمور الواردة عليكم في كلّ يوم وليلة من مظلمات الفتن، وحوادث البدع، وسنن الجور، وبوائق الزمان، وهيبة السلطان، ووسوسة الشيطان"11.
وهنا نجد أنّ الإمام بعد ذكر هيبة السّلطان وقدرته، يذكر مباشرة وسوسة الشّيطان، يريد بذلك أن يلفت النظر، وبكلّ صراحة، إلى حاكم ذلك الزّمان، ويضعه إلى جانب الشّيطان. وفي تتمّة الكلام جملة لافتة ومهمّة جدًّا، لذلك أنقلها، فهي تحكي عن مطلب كُنتُ قد ذكرته سابقًا: "لتثبّط القلوب عن تنبهها، وتذهلها عن موجود الهدى ومعرفة أهل الحقّ"12، تلك الهداية الموجودة الآن في المجتمع. فهذه الأحداث الّتي ترد على الإنسان في حياته في الليل والنّهار - في عصر القمع - تمنع القلوب من تلك النيّة والتوجّه والدافع والنشاط المطلوب للجهاد.
فالإمام السجّاد عليه السلام يعظهم بالأسلوب السّابق نفسه، "وإيّاكم وصحبة العاصين، ومعونة الظّالمين" فهو يُحذّرهم من مجالسة أهل المعاصي. من هم أهل المعاصي؟ أولئك الذين جُذبوا إلى نظام عبد الملك الظالم. الآن، حاولوا أن تتصوّروا شخصية الإمام السجّاد، وأن تكوّنوا تصوّرًا عنه عليه السلام. هل ما زال ذلك الإمامَ المظلوم الصّامت المريض الّذي لا شأن له بالحياة؟ كلّا، فالإمام هو الّذي كان يدعو مجموعة من المؤمنين والأصحاب، ويُحذّرهم، بهذه الصّورة الّتي ذكرناها من التقرّب إلى الظلَمة، ونسيان المجاهدة، ويمنعهم من الانحراف عن هذه الطريق، وكان يحفّزهم ويشحنهم بالنشاط، ويدفعهم من أجل أن يكونوا مؤثّرين في إيجاد الحكومة الإسلاميّة.
من جملة الأشياء الّتي أراها جليّة وشديدة الأهميّة في هذا القسم من كلمات الإمام السّجاد عليه السلام، تلك الكلمات الّتي يُذكّر فيها بتجارب أهل البيت عليهم السلام الماضية. ففي هذا القسم يُشير الإمام عليه السلام إلى تلك الأيّام الّتي مرّت على النّاس من قِبَل الحكّام الجائرين، مثل معاوية ويزيد ومروان، ووقائع مثل الحرّة وعاشوراء، وشهادة حجر بن عديّ، ورشيد الهجريّ، وعشرات الحوادث المهمّة والمعروفة والّتي مرّت على أتباع أهل البيت طيلة الأزمان الماضية، واستقرّت في أذهانهم. ويريد الإمام عليه السلام أن يحثّ أولئك المخاطَبين من خلال ذكر تلك الحوادث الشّديدة، على التحرّك والثورة. والتفتوا الآن إلى هذه الجملة: "فقد لعمري استدبرتم من الأمور الماضية، في الأيّام الخالية، من الفتن المتراكمة، والانهماك فيها، ما تستدلّون به على تجنّب الغواة"13، أي إنّكم تستحضرون تلك التّجارب، وتعلمون ماذا سيفعل بكم أهل البغي والفساد - وهم حكّام الجَور - عندما يتسلّطون عليكم. ولذلك يجب عليكم أن تتجنّبوهم وتواجهوهم. وفي هذا الخطاب يطرح الإمام مسألة الإمامة بصورة صريحة، أي قضيّة الخلافة والولاية على المسلمين، والحكومة على النّاس، وإدارة النّظام الإسلاميّ. هنا يُبيّن الإمام السجّاد عليه السلام قضيّة الإمامة بالصّراحة، في حين أنّه في ذلك الزّمن لم يكن ممكنًا طرح مثل هذه المطالب على العامّة. ثم يقول عليه السلام: "فقدّموا أمر الله وطاعته، وطاعة من أوجب الله طاعته"14.
وهنا يُعيّن الإمام فلسفة الإمامة عند الشّيعة، والإنسانَ الّذي يجب أن يُطاع بعد الله. ولو فكّر النّاس في ذلك الوقت بهذه المسألة، لعلموا بوضوح أنّه لا يجب طاعة عبد الملك، لأنّه من غير الجائز أن يوجب الله طاعة عبد الملك، ذلك الحاكم الجائر بكلّ فساده وبغيه. وبعد أن يُقدّم الإمام هذه المسألة، يتعرّض لردّ شبهة مقدّرة، فيقول: "ولا تقدّموا الأمور الواردة عليكم من طاعة الطّواغيت، وفتنة زهرة الدنيا، بين يدي أمر الله وطاعته، وطاعة أولي الأمر منكم"15. فالإمام عليه السلام في هذا القسم من كلمته يتعرّض بصراحة لقضية الإمامة.
1- ابن شعبة الحرّاني، تحف العقول، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري، نشر مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم، ط2، 1404هـ، ص391.
2- مجلة باسدار إسلام، 10- .
3- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 6، ص 259.
4- م.ن، ج 75، ص 128.
5- ابن شعبة الحراني، تحف العقول، ص 249.
6- م. ن.
7- ابن شعبة الحراني، تحف العقول، ص 249.
8- م. ن.
9- الشيخ الكليني، الكافي، ج8، ص15.
10- ابن شعبة الحراني، تحف العقول، ص 252.
11- الشيخ الكليني، الكافي، ج 8، ص 15.
12- م. ن، ص 15.
13- ابن شعبة الحراني، تحف العقول، ص 253.
14- م.ن، ص 254.
15- م.ن.