السیدة ماريا القبطية هي احدى زوجات الرسول الاعظم "صلى الله علیه وآله وسلم" وابنة شمعون القبطي. ولدتها امها الرومية في قرية – خفن - احدى ضواحي مدينة " أنصناي " معقل الاقباط في مصر.
وكان الرسول الاكرم(ص)بعث رسلا الى خارج الجزيرة العربية حملهم رسائل لزعماء تلك الدول والامبراطوريات العظمى آنذاك يدعوهم فيها الى الاسلام. وكان صلى الله عليه وآله وسلم بعث "حاطب بن ابي بلتعة" الى المقوقس، عظيم مصر ليدعوه الى الاسلام. وكان مضمون رسالة النبي الاكرم(ص) كالتالي:
بسم الله الرحمن الرحيم
"من محمد بن عبد الله الى المقوقس عظيم مصر،
السلام على أتباع الحقيقة،
اما بعد، فإني ادعوك الى الاسلام، فإن قبلت الدعوة فإن الله سيضاعف لك الأجر، وإن أبيت فعليك اثم الاقباط."
فأخذ المقوقس رسالة النبي من حاطب وتمعن في نصها وتوقيع صاحبها، ثم وضعها في وعاء عاجي، وطلب من حاطب بن ابي بلتعة ان يحدثه عن النبي محمد(ص) ويتطرق الى شيئ من سيرته وصفاته. فما كان من حاطب الا ان يستجيب لطلب المقوقس.
فأطرق المقوقس برأسه متأملا ثم قال:
"كنت أتصور ان آخر الانبياء سيكون من اهل الشام، لأنها مهد الانبياء، والآن ارى انه ظهر من جزيرة العرب، والاقباط لن يستجيبوا له."
ثم اشار على كاتبه ليكتب النص التالي: " اما بعد فقد قرأت رسالتك وما دعوتني اليه، فبلغتني دعوتك، لكني كنت اتصور أن آخر الانبياء سينبعث من ارض الشام. فها أنا اكرم رسولك واعيده مع وصيفتين من ارض الاقباط الكبرى، واجهزهم بكامل الجهاز والمركب، والسلام."
فسلم المقوقس الرسالة الى حاطب واعتذر منه، لعدم تمكن الاقباط قبول دعوته للدخول في دينهم، و اوصاه بأن يغض الطرف عما شاهده في ارض الاقباط وماسمعه منهم.
فقفل حاطب راجعا الى الرسول الاكرم(ص) مع الوصيفتين "ماريا" و "سيرين (وبعبارة اخرى شيرين)" مع شيخ ارسله المقوقس معهم اضافة الى الف مثقال من الذهب وعشرين نوع من الملابس الفاخرة المنسوجة من القطن المصري الراقي، و دابة كأداء مع ارطال من العسل والمسك وأنواع العطور.
وكانت ماريا وسيرين، تأثرتا لابتعادهما عن وطنهما حتى اغرورقت عيناهما بالدموع حزنا على فراق مسقط رأسهن، وهن يودعنها بعبرات تكاد تغرق عيناهن بالدموع. وكانتا يتصورن أن الدنيا بلغت بهن الى النهاية، ولن يشعرن بالسعادة بعد اليوم. فأحس حاطب بمشاعرهن، فأخذ يسرد لهن من اساطير وقصص مكة والحجاز. ثم تحدث لهن عن الاسلام والنبي الاكرم(ص). فلما سمعن بصفات الرسول الاعظم ومحاسن خلقه وسيرته، شعرن بنوع من الارتياح وتشوقن للاستماع اكثر عن الاسلام ورسوله، حتى أعتنقتا الاسلام وراحتا يفكرن ببدء حياة جديدة، وأصبحن يسرحن ويمرحن بأحلامهن الجديدة، حتى وصلن عام سبعة للهجرة الى المدينة المنورة، حيث كان الرسول (ص) عائدا للتو من صلح الحديبية.
فأخذ النبي الاكرم رسالة المقوقس، ثم تزوج مارية القبطية، وزوج سيرين من حسان بن ثابت الشاعر والاديب العربي الشهير، حيث رزق منها ولد اسماه عبدالرحمن، ثم قام الرسول (ص) بتوزيع باقي الهدايا بين الصحابة.
فبلغ الامر الى نساء النبي(ص) ان إمرأة من ارض النيل اهديت له، وان الرسول (ص) اسكنها في دار حارثة بن النعمان بالقرب من المسجد. فمر عام والسيدة ماريا كانت تحظى بمكانة مرموقة لدى النبي وهي سعيدة بحياتها الجديدة، كما ان النبي الاكرم كان راضيا عنها ايضا، لانها بدورها كانت تحرص على كسب رضا النبي، حيث كانت مخلصة له وتضحي بالغالي والنفيس من اجله، وتستجيب لكل طلباته، اضافة الى تقواها وحبها له، لانه(ص) كان لها الزوج والصاحب والمولى.
ماريا وهاجر:
كانت ماريا ترتاح لقصة ابراهيم واسماعيل عليهما السلام، حيث استمعت لقصتهما مرات ومرات، وأيقنت كيف ان الله كافأ هاجر بإسماعيل عندما جيئ بها الى ارض الحجاز وهي وحيدة دون نصير ورفيق، فوهب الله لها بئر زمزم، ومتعها بحياتها الجديدة في ارض الحجاز، فكانت تعلم ان حياة هاجر تم تخليدها في الحياة خاصة سعيها بين الصفا والمروة، الذي اصبح احد مناسك الحج.
فكانت ماريا تفكر كثيرا في تشابه قضيتها وقضية السيدة هاجر زوجة النبي ابراهيم الخليل(ع)، خاصة وان قاسمهما المشترك هو أنهما كانتا وصيفتين. وقد اهدت سارة وصيفتها هاجر للنبي ابراهيم، وقام المقوقس بإهداء السيدة ماريا للرسول الاكرم(ص). والفارق الوحيد بينهما هو ان السيدة هاجر رزقت من النبي ابراهيم بإسماعيل ولم ترزق ماريا من الرسول الاعظم(ص) بأي مولود يبقى معها.
حيث ان الرسول الاكرم لم يرزق بأي مولود يطول عمره، بعد رحيل ام المؤمنين خديجة بنت خويلد والتي رزق منها ستة ابناء هم: القاسم وزينب ورقية وام كلثوم وفاطمة الزهراء وعبدالله، عليهم السلام، وقد فارق ابناؤه الذكور الحياة ولم يتعدوا عمر البراعم والزهور.
ولادة ابراهيم:
في احدى ليالي العام الثامن للهجرة النبوية الشريفة، شعرت السيدة ماريا بثقل حملها (ابراهيم) ولما بلغ الامر الى النبي محمد (ص)، حمد الله وأثنى عليه، وفرح فرحا كثيرا. وفي شهر ذي الحجة الحرام من نفس العام، ولد ابراهيم نجل النبي. وكانت القابلة المأذونة التي اشرفت على ولادته تسمى بـ /سلمى/، وقد ابلغت زوجها ابو رافع بذلك، فما كان من الاخير إلا ان ينقل البشرى للرسول(ص). ماحمل الرسول الاكرم ان يهب له غلاما، ثم اطلق اسم جده ابراهيم الخليل (ع) على وليده الجديد. وبعد ما مرت على ولادته سبعة أيام امر بذبح شاة له ليتم التصدق بلحومها. حيث عرفت بعد ذلك بـ /العقيقة/، ثم حلق شعر رأسه وتصدق بما يعادل وزنه من الفضة في سبيل الله.
وكان النبي الاعظم (ص) كثير الانشداد لولده ابراهيم حتى قال الصحابي انس بن مالك: عندما ولد ابراهيم نزل الامين جبرائيل على الرسول الاكرم(ص) وحياه بهذه العبارة :
"السلام عليك يا أبا ابراهيم".
وغداة ولادة ابراهيم قال رسول الله (ص) لأصحابه :
"لقد رزقت البارحة بمولود اطلقت عليه اسم جدي ابراهيم الخليل".
فتسابقت نساء الانصار للفوز برضاعته ، لانهن اردن من خلال هذه الخطوة التقرب من السيدة ماريا، وكن يعرفن مدى علاقة الرسول (ص) بها. حتى فازت /ام بردة، خولة بنت منذر بن زيد/ لتكون مرضعة له. وقد ساد الفرح والسرور حياة الرسول وهو يشاهد نمو ابنه ابراهيم.
وذات يوم وبعد ان خرج النبي من منزله وصلته انباء تدهور صحة ابنه ابراهيم، فعاد الى المنزل وتناوله من امه، ... فإرتسمت ملامح الالم والحزن على معالمه الشريفه، وهو يقول:
" يا ابراهيم لولا انه امر حق ووعد وصدق ، وان آخرنا سيلحق بأولنا، لحزنا عليك حزنا هو اشد من هذا، تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول الا ما يرضي ربنا، والله يا ابراهيم، انا بك لمحزونون."
هذه التمتمات التي ارتسمت على شفاه سيد الانبياء والمرسلين، اعقبتها دموع الشوق والحنين من أب يشاهد الموت يحيط بإبنه من كل جانبه ويتسلل اليه، ولم يكن بإمكانه ان يمنعه منه، وفي مثل تلك اللحظات العصيبة اعترض احد الحضور الفضوليين على بكاء النبي(ص) على ولده قائلا:
" يارسول الله ألم تنهانا عن البكاء على الميت؟ فأجابه رسول الله(ص) لا، لم أنهاكم عن البكاء في فقدان أعزتكم، لأن البكاء رحمة ونعمة ربانية، ومن لم يتصدع قلبه لتألم الآخرين ولم تكن في قلبه رأفة تجاههم لا تناله رحمة الله الواسعة.
وبعد أن قضى ابراهيم ابن النبي محمد(ص)، امر الرسول بتغسيله وتجهيزه وتحنيطه، ثم رفعوا الجنازة في موكب حزين وشيعوه الى جنة البقيع الغرقد، بالقرب من المسجد النبوي ودفنوه حيث المكان المعروف حاليا بـ / قبر ابراهيم ابن النبي محمد(ص)/.
وفي نفس اليوم الذي توفي فيه ابراهيم كسفت الشمس، حتى قال البعض ان الشمس كسفت لموت ابراهيم، الا ان رسول الله (ص) تصدى لهذه الشبهة وكافحها من خلال ارتقائه المنبر والقاء خطبة امام الناس قال فيها:-
"ايها الناس ان الشمس والقمر آيتان من آيات الله لاتخسفان لموت أحد ولا لحياته".
وفي رواية اخرى انه (ص) قال: " ان الشمس والقمر لا ينكسفان لموت احد ولا لحياته فإذا رأيتم فصلوا وادعو الله."
فقد اكد النبي(ص)هذه العبارة كي لا تستغل من قبل اصحاب القلوب المريضة بعد حياته الشريفة.
اما السيدة ماريا التي ثكلت بولدها اصبحت مفجوعة، حزينة، ملازمة لبيتها، وكلما كان رسول الله (ص) يذهب اليها وجدها تتمتم بقوله تعالى " انا لله وانا اليه راجعون".
وكانت السيدة ماريا من الزيجات التي كان يعتني بها ويهتم لها الرسول الاكرم، كما كانت تكن الحب والاحترام لفاطمة الزهراء بنت النبي محمد (ص) وزوجها علي بن ابي طالب (ع)، وقد اختار النبي لها منزلا في بستان قريب من بيوت المدينة المنورة تعرف اليوم بـ /مشربة ام ابراهيم/.
ماريا وحياتها الزوجية مع الرسول:
اول منزل نزلت فيه ام المؤمنين ماريا كان منزل حارثة بن النعمان، وقد مكثت فيه عاما واحدا ثم طلبت من الرسول (ص) لينقلها الى مكان آخر فما كان من الرسول الاعظم (ص) الا ان ينقلها الى بستان نخيل صغيرة كانت من ممتلكاته الخاصة التي كانت حصته من غنائم غزوة بني نضير وتعرف اليوم بـ /مشربة ام ابراهيم/.
وكانت السيدة ماريا تقيم في فصل الصيف وموسم حصاد التمور في هذه البستان والنبي الاكرم يزورها بين الفينة والاخرى. وبعد ان سكنت ماريا في /مشربة ام ابراهيم/ رزقها الله بإبنها ابراهيم في شهر ذي الحجة الحرام من العام الثامن للهجرة.
محبة ماريا لأهل البيت (عليهم السلام):
كان الامام علي بن ابيطالب وفاطمة الزهراء(س) يوليان اهتماما خاصا للسيدة ماريا حيث تؤكد الاحاديث والروايات المأثورة، انه فرح فرحا شديدا لمولد ابراهيم ابن النبي (ص). وكان دائما يدافع عن امه ماريا ويقوم بأداء الامور التي تهمها، ويكِنُ لهااحتراما وتبجيلا فريدا.
سلوكها:
كانت السيدة ماريا إمرأة عفيفة متدينة ومن الصالحات، المحسنات حيث كان النبي (ص) يوليها اهتماما خاصا، كما ان المؤرخين واصحاب السير يشيدون بإيمانها والتزاماتها الدينية. وفي اشارة لاحترام هذه السيدة الجليلة ومكانتها لدى الرسول الاكرم(ص) انه قال ذات يوم:
"اذا فتحتم مصر، فعليكم التعامل معهم بإحسان، لأني صهرهم".
حياة السيدة ماريا بعد رحيل الرسول الاكرم (ص):
بعد رحيل رسول الانسانية، خص الخليفة الاول ابوبكر، مرتبا لهذه السيدة الجليلة واستمر دفعه لها في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب أيضا.
وفاتها:
وأخيرا وفي السادس عشر من شهر محرم الحرام لعام ستة عشر للهجرة النبوية الشريفة، لبت السيدة ماريا نداء ربها وانتقلت الى الرفيق الاعلى ، حيث شارك في تشييع جثمانها الخليفة الثاني عمر بن الخطاب وبعد الصلاة عليها تم مواراتها الثرى في جنة البقيع الغرقد قرب المسجد النبوي في المدينة المنورة.
اعداد وتنظيم: شيلا مالكي ديزجي