غزوة بني المصطلق:
في شهر شعبان المعظم من العام السادس للهجرة النبوية الشريفة وصلت المدينة المنورة اخبار تؤكد بان حارث بن ابي ضرار شيخ قبيلة بني المصطلق يعتزم استجماع العدة والعدد والفرسان ليباغت المدينة بهجوم غير مسبوق. فما كان من الرسول الاكرم(ص) الا ان قرر في المقابل ان يئد مؤامرة العدو في مهدها وارضه. فجهز جيشا وتحرك باتجاه القبيله حتى نزل الى جنب نبع كان بالقرب من المنطقة التي تسكنها القبيلة وكان النبع يسمى بـ ألـ" مريسيع" وقد التقى الطرفان في ناحية تسمى "قديد"(1). فأمر الرسول(ص) بدعوتهم للاسلام؛ لكنهم أبوا من ذلك؛ (2) ما ادى الى احتدام الموقف واشتعال فتيل الحرب بين الجيشين. فتمكن المسلمون منهم وهزموهم واسروا من بقي منهم وغنموا الكثير من اموالهم. ومن جملة الغنائم الفي ناقة وخمسة آلاف رأس غنم ومئتي عائلة(3).
وكانت ابنة الحارث بن ابي ضرار شيخ قبيلة بني المصطلق بين الاسرى(4). وكان اسم ابيها الحارث بن ابي ضرار بن حبيب بن عايذ بن مالك بن المصطلق بن سعيد بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن خزاعة.
اسباب نشوب النزاع:
كانت قبيلة بني المصطلق تسكن في منطقة تبعد خمسة منازل(محطات) عن المدينة المنورة؛ وذات مرة تحالفت مع باقي القبائل العربية القريبة منها وجهزت جيشا لمهاجمة المدينة. فلما بلغ النبي(ص) هذا التحالف المشؤوم بعث بشخص الى منازل القبيلة يدعى "بريد" ليتأكد من الامر. فدخل المبعوث متسترا حتى وصل الى شيخ القبيلة وتحادث معه حول الامر وتأكد من صحة الاخبار، فقفل راجعا الى المدينة ونقل صحة الاخبار الواردة للرسول (ص)(5). كما زود الرسول باخبار هامة اخرى. على صعيد آخر كان المسلمون القوا القبض على متسلل من قبل القبيلة ذاتها الامر الذي حجب وصول اخبار المسلمين اليهم. في مثل تلك الظروف قرر النبي الاكرم(ص) السبق في الهجوم عليهم؛ فما كان من القوات الاسلامية الا ان أغارت تجاه القبائل المتجحفلة وادخلت الرعب والهلع في قلوبها؛ ما ادى الى نشوب عراك واشتباكات بسيطة بين الجانبين, سرعان ما انتهت بمقتل عشرة اشخاص من قوات القبائل و واحد من الجيش الاسلامي وتبددت تلك القوات وفرت بعد انهيارها مخلفة وراءها الكثير من الاموال التي سيطر عليها الجيش الاسلامي وتم أسر الكثير من نسائهم(6).
اسباب نزوع المسلمين للحرب:
تنامت القوة العسكرية للمسلمين عام ستة للهجرة بشكل كبير حيث كانت بعض المجموعات تتمكن من الوصول الى اعتاب مكة وتعود وحدها. لكن هذه القوة لم تكن لاحتلال اراضي القبائل والسيطرة على اموالها. فلو لم يتعرض المشركون للمسلمين ومحيطهم وكانوا يتركوهم احرارا في نشاطاتهم الثقافية فما هاجمتهم وهددتهم القوات الاسلامية. فما كانت من القيادة الاسلامية وتطبيقا لاحكام الله سبحانه وتعالى الا ان تجهز القوات وتدربها للدفاع عن الاسلام
اما اسباب هذه الحروب التي امتدت الى السنة السادسة للهجرة النبوية الشريفه بل وحتى نهايات حياة النبي الاكرم المباركة كان مردها الى احدى الاسباب التالية:
أ- الرد على الاعتداءات والحروب غير المتكافئة للمشركين على المسلمين مثل: واقعة بدر واحد والخندق.
ب- وضع حد لإعتداءات الظالمين الذين كانوا يهاجمون المسلمين او موفديهم في الصحاري او المناطق النائية و يقتلونهم او ينكثون عهودهم؛ وبذلك كانوا يشكلون خطرا على حياة الاسلام؛ امثال المعركة التي جرت مع القبائل اليهودية الثلاثة وبني الحيان.
ت- افشال المؤامرات والمخططات التي تدبرها وتخطط لها القبائل بين الحين والاخرى لتجميع العدة والعدد للانقضاض على المسلمين ومهاجمتهم في المدينة المنورة(7).
السيدة جويرية:
السيدة جويرية هي ابنة الحارث (المتوفية عام 670 او 677م) وهي الابنة الكبرى لقبيلة خزاعة. وكان ابوها حارث بن ابي ضرار يرئس قبيلة بني المصطلق. وبعد ان خسرت هذه القبيلة الحرب امام المسلمين؛ تم مصادرة اموالها واسر رجالها ونسائها وكانت "بُـرة" بنت الحارث – التي سميت فيما بعد بـ "جويرية" بين الاسرى. وكانت متزوجة من ابن عمها نافع بن صفوان الذي قتل في الحرب مع قوات المسلمين.
وبعد اقتسام الغنائم اصبحت "برة" من حصة ثابت بن قيس بن شماس الانصاري وابن عمها؛ حيث قررا تخييرها بين البقاء في الاسر وفداء نفسها بسبعة مثاقيل من الذهب؛ لتتخلص من الاسر. حيث كان حينها بإمكان الاسرى تقديم الفدية عن انفسهم.(8)
اما ثابت بن قيس فقد حدد فدية لـ "برة" تفوق الفدية المتعارفة بعدة اضعاف. لكن برة التي لم يكن بإمكانها توفير مثل تلك المبالغ الطائلة , طلبت من علي بن ابيطالب (ع) ليأخذها الى الرسول الاكرم(ص). وبعد سلسلة من الاحداث التي سنتطرق اليها, انتهى الامر بزواج النبي(ص) من ابنة زعيم المتمردين الامر الذي نتج عن هذا الزواج الميمون ميثاق متين بين الرسول(ص) وتلك القبيلة ناهيك عن اطلاق سراح الكثير من نسائها التي تم اسرهن في الحرب دون قيد او شرط؛ نتيجة قرابتهن من هذه السيدة الجليلة حيث بلغ عددهن مئة امرأة.
ويروى عن السيدة عائشة انها قالت: "لم أرَ إمرأة كانت مباركة لقومها مثل السيدة - جويرية-".
وبعد ذلك الزواج المبارك دخلت قبيلة بني المصطلق الاسلام وشملتها البركات والرحمة الربانية. وبعد دخول السيدة جويرية الى بيت النبي (ص), اصبح منزلها قريباً من منازل امهات المؤمنين أم سلمة وعائشة وحفصة زوجات الرسول (ص).
حديث المؤرخين:
لم يختلف المؤرخون وأصحاب السِيَر في سرد قصة ام المؤمنين جويرية وكيفية وصولها الى النبي الاكرم(ص) ويجمعون على حدوث تلك الاحداث.
كيفية حدوث الواقعة:
ما ان فرغ الرسول الاكرم(ص) من غزوة بني المصطلق قام بتوزيع الغنائم والاسرى بين المسلمين واختار جويرية لنفسه وعاد قافلا الى المدينة المنورة. بعد ذلك تحرك ابوها الحارث بن ابي ضرار شيخ قبيلة بني المصطلق بإتجاه المدينة المنورة مصطحبا معه عددا من الابل. وفي منتصف الطريق اعتز باثنتين من النوق واحتفظ بهما في منطقة وادي عقيق(10), ثم واصل السير باتجاه المدينة مع باقي الابل. فلما دخل على رسول الله طرح قصة فداء ابنته مقابل ما يطلبه النبي؛ وقال: " يا رسول الله ان ابنتي كانت بين النسوة اللواتي تم اسرهن بعد الواقعة ولا اريد ان تبقى اسيرة؛ لأنها ابنة كريمة وجليلة القدر."(11) فقال له الرسول الاكرم (ص) وما بال الناقتين اللتين اخفيتهما في الشعب الفلاني؟!!!... فلما سمع الحارث وابناؤه كلام رسول الله أطرقوا برؤوسهم الى الارض ثم استسلموا لنبوة الرسول ودخلوا الاسلام. عندها سمح الرسول(ص) له ليخير جويرية بين البقاء الى جنب رسول الله او العودة الى ابيها.(12) فقال الحارث للنبي ما انصفك بتقديمك هذا الاقتراح لنا. ثم ذهب الى ابنته جويرية وقال لها: بنيتي؛ لا تفضحي قبيلتك بالبقاء في الاسر. فأجابته السيدة جويرية : لكنني لجأت الى الله واخترت الانضمام الى جماعة رسوله؛ فقال لها اللعنة عليك؛ فافعلي ماشئت!!.. عندها اعتق رسول الله السيدة جويرية من الاسر وجعلها في زمرة زوجاته.(13) وكانت الزوجة الاولى لرسول الله من خارج قبيلة قريش.
وتقول السيدة عائشة: لما سمع الناس ان النبي (ص) تزوج من السيدة جويرية وصاهر قبيلة بني المصطلق اقدموا على اطلاق سراح كل الاسرى الذين كانوا بحوزتهم بحيث تحررت مئة عائلة من عائلات القبيلة. ومن أجل ذلك "لا اعرف إمرأة أكثر بركة وخيرا من السيدة جويرية لعشيرتها وقبيلتها".(14)
مهر السيدة جويرية:
لدى عودته من منطقة الـ "مريسيع" اودع النبي الاكرم السيدة جويرية عند احد الانصار وأمره بالمحافظة عليها والاهتمام بأمرها. (15) ثم إنصرف الى المدينة المنورة. فكان ثمن صداقها(نحلتها) الإنعتاق من الاسر وعلى رواية اخرى كان ثمن عتقها يعادل ثمن عتق اربعين اسيراً... بل قيل ان ثمن عتقها بلغ ثمن عتق اسرى كل قبيلة بني المصطلق(16).
اما السيدة جويرية نفسها تقول: عندما اعتقني الرسول الاكرم(ص) واختارني زوجة له والله لم أنبس ببنت شفة حول أبناء عشيرتي. لكن المسلمين انفسهم قاموا بعتقهم والتخلي عنهم. وذات يوم جاءتني ابنة عمي وأخبرتني بإطلاق سراحهم جميعا فحمدت الله وشكرته على ذلك.(17)
ويقال ان الرسول (ص) جعل صداقها اربع مئة درهم وغير اسمها من "بُـرة" الى جويرية؛ وقال ان برة تعني ذات الاسم الحسن؛ وهذا ضرب من الأنانية والاعتزاز بالنفس ونعتها, رغم تداوله في تلك الفترة.(19) ثم امرها صلى الله عليه وآله وسلم بإرتداء الحجاب وخص لها ما كان يخصصه لازواجه.(20)
سبب تغيير اسم السيدة جويرية:
لا نعرف سببا لتغير اسم هذه السيدة من قبل رسول الله (ص). فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يغير اسماء الكثير من ازواجه أمثال: زينب بنت جحش؛ وام سلمة؛ وميمونة؛ وجويرية. وفي نفس الوقت ايضا كان لم يغير اسماء الاخريات مثل برة بنت ابي نجواه وبرة بنت سفيان وغيرهن...(21).
حياتها مع الرسول(ص):
عاشت السيدة جويرية مع الرسول(ص) خمس سنوات(22) ولم ترزق منه بولد؛ حتى توفيت في ربيع الاول من عام 56 للهجرة النبوية الشريفة وقيل في الخمسين منها.(25) وكانت وفاتها رضوان الله تعالى عليها في المدينة المنورة حيث تم تشييع جثمانها الطاهر الى مقبرة جنة البقيع الغرقد وقام المروان بن الحكم والي المدينة آنذاك بالصلاة عليها مع ابي حاتم الحيان؛ وتم دفنها في البقيع الغرقد الى جانب باقي ازواج الرسول (ص).
وكانت السيدة جويرية إمرأة تقية متقية تقضي غالبية ايامها بالصيام ولياليها بالقيام. حتى وردت الكثير من الاخبار والاحاديث في تقواها وتعبدها لله سبحانه وتعالى ناهيك عن الاخبار والاحاديث التي تؤكد مقامها الشامخ وخلوصها الفريد لله سبحانه وتعالى حتى بعد رحيل الرسول الاكرم(ص) الى بارئه.
ويقول الكاتب الايراني ذبيح الله محلاتي في كتابه "رياحين الشريعة" في وصفها: ان السيدة جويرية كانت فصيحة الكلام ومليحة البيان ومرهفة الذهن.
وقد نقلت السيدة جويرية احاديث عن الرسول الاكرم (ص) نقلها عنها كل من: ابن عباس وابن عمر وعبيد بن السباق وابن اخيها طفيل كما نقل آخرون عنها ايضا. (26) ثم ان الشيخ الطوسي رضوان الله تعالى عليه عدها في كتابه "الرجال" من "الصحابة".
وقد استمرت حياة هذه المرأة الصالحة العالمة والمحدثة بعد الرسول الاكرم(ص) 39 عاما.
اعداد وتنظيم:
مريم مصدري
---------------------------
الملحقات:
1- الذهبي في تاريخ الاسلام ووفيات المشاهير والاعلام- الطبعة الثانية عام 1992ج 2 ص 259- / خليفة بن خياط . تاريخ خليفة. ج 1 ص 36 . ابن هشام – السيرة النبوية. ج 2 ص 290.
2- المغازي الطبعة الثانية ج1 ص 407.
3- المغازي – المصدرالسابق- ص 410 / الطبقات الكبرى ص 49.
4- الشيخ حسين ديار بكري – تاريخ الخميس في احوال انفس النفيس- ص 474/ ابو الفرج – الشافعي الحلبي – في كتابه السيرة الحلبية- الطبعة الثانية ج2 ص 380.
5- تايخ الطبري ج2 ص 260.
6- المصدر السابق.
7- حسين شاهد خطيبي – في "مشاغبي بني المصطلق" – الفصل 34.
8- احمد بن علي المقريزي- في امتاع الاستماع ص 84.
9- الرشاد في معرفة حجج الله على العباد- للشيخ المفيد ج1 ص 118.
10- السيرة الحلبية – المصدر السابق- ص 295/سيرة ابن هشام ج2ص290/ والمناقب ص201.
11- ابن هشام ج2 ص 295/ تاريخ دمشق؛ لابن عساكر ج3 ص218.
12- السيرة الحلبية؛ المصدر السابق. ص 382/المناقب ص201/ الارشاد ص 118.
13- ابن هشام- المصدر السابق.
14- المغازي ص 411/ الطبقات الكبرى؛ج8 ص92/ ابن هشام- المصدر السابق- ص 294
15- عبدالرحمن السهيلي- الروض الالف في شرح السيرة النبوية-ج6 ص406/ابن هشام ص295.
16- امتاع الاسماءز ج1 ص206. للبلاذري/ انساب الاشراف. ج1 ص 443.
17- السيرة الحلبية – المصدر السابق. ص 383.
18- انساب الاشراف. ص 442/ تاريخ الخميس. ص 474.
19- المغازي.ص307/ انساب الاشراف. ص442-441.
20- الطبقات الكبرى- ج8 ص 94. /المغازي. ص 413.
21- الصحيح من سيرة النبي الاعظم- ص 313.
22- تاريخ الخميس- ج1 ص 475.
23- سيرة ابن اسحاق. ص 263.
24- الطبقات الكبرى ص95/ انساب الاشراف ج1 ص 443
25- الاصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني.ج8 ص 74.
26- اسد الغابة لابن اثير.ج6 ص 57/ الاصابة- المصدر السابقز