روى المبرّد في الكامل: ان ابن الأزرق سأل ابن الزبير في الغداة الذي جاء إليه وقال: ما تقول في الشيخين؟ قال: خيراً، قالوا: فما تقول في عثمان الذي أحمى الحمى، وآوى الطريد، وأظهر لأهل مصر شيئاً، وكتب بخلافه وأوطأ آل أبي معيط رقاب الناس وآثرهم بفيء المسلمين؟
وما تقول في الذي بعده، الذي حكّم في دين الله الرجال وأقام على ذلك غير تائب ولانادم؟
وما تقول في أبيك وصاحبه وقد بايعا عليّاً وهو إمام عادل مرضي لم يظهر منه كفر، ثم نكثا بِعَرَض من أعراض الدنيا و أخرجا عائشة تقاتل، وقد أمرها الله وصواحبها أن يقرن في بيوتهن، وكان لك في ذلك ما يدعوك إلى التوبة، فإن أنت كما نقول فلك الزلفة عندالله .
ثمّ إنّ ابن الزبير ترك التقية وأصحر بالعقيدة بما يخالف عليه الخوارج في حق عثمان وحق أبيه، فلمّا سمع ذلك الخوارج تفرّقوا عنه(1) .
فأقبل نافع بن الأزرق الحنظلي وعبدالله بن صفار السعدي من بني صريم، وعبدالله بن اباض أيضاً من بني صريم، وحنظلة بن بيهس، وبنو الماحوز، عبدالله وعبيدالله والزبير من بني سليط، حتى أتوا البصرة.
وانطلق أبو طالوت وعبدالله بن ثور(أبوفديك) وعطية بن الأسود اليشكري إلى اليمامة فوثبوا باليمامة مع أبي طالوت، ثم أجمعوا بعد ذلك على إمامة نجدة بن عامر الحنفي وذلك في سنة 64(2) .
وقال الشهرستاني: كان نجدة بن عامر ونافع بن الأزرق قد اجتمعا بمكّة مع الخوارج على ابن الزبير ثم تفرّقا عنه، فذهب نافع إلى البصرة ثم الأهواز، وذهب نجدة إلى اليمامة. قال نافع: التقيّة لاتحلّ، والقعود عن القتال كفر، فخالفه نجدة، وقال بجواز التقية متمسّكاً بقوله تعالى:(إلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاة) ( آل عمران: 28). وبقوله تعالى: ( وَ قالَ رَجُلٌ مُۆمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ اِيمانَهُ) ( غافر: 28) وقال: القعود جائز والجهاد إذا أمكنه أفضل. قال الله تعالى:( وَ فَضَّلَ اللهُ الُمجاهِدِيْنَ عَلَى القاعِدِيْنَ اَجْراً عَظِيماً) ( النساء: 95) .(3)
ولمّا أظهر نافع أراء شاذّة عن الكتاب والسنّة والفطرة الإنسانية، فارقته جماعة كانوا معه، منهم «أبو فديك» وعطية الحنفي وراشد الطويل، وتوجّهوا شطر اليمامة، فأخبروا نجدة باحداثه وبدعه. فكتب إليه نجدة بكتاب نَقِمَ عليه احداثه واستدلّ بآيات واضحة المعنى، وأجاب نافع بكتاب وأوّل ما استدلّ به زميله من الآيات، وكان هو هذا انشقاقاً عظيماً بين الخوارج، ويعرب عن وحشيّة الأزارقة، وجمود قلبهم، ونزع الرحمة منهم، فكأنّهم جمادات متحرّكة شريرة سجّلوا لأنفسهم في التاريخ أكبر العار، وأفظع الأعمال إلى حدّ تبّرأ عنهم، سائر الفرق وليس ذلك ببعيد، فهۆلاء أتباع المحكّمة الاُولى الذين ذبحوا عبدالله بن خباب وبقروا بطن زوجته المقرب المتم، تلمس حدّ الشقاء من كتاب نجدة إلى نافع ومن اجابة الثاني.
قال المبرّد: إنّ أصحاب «نجدة» رأوا أنّ نافعاً قد كفَّر القعدة ورأى الاستعراض وقتل الأطفال، انصرفوا مع نجدة، فلمّا صار نجدة باليمامة كتب إلى نافع.
كتاب نجدة إلى نافع:
أمّا بعد: فإنّ عهدي بك وأنت لليتيم كالأب الرحيم، وللضعيف كلأخ البّر ـ تعاضد قوي المسلمين، و تصنع للأخرق منهم ـ لا تأخذك في الله لومة لائم، ولاترى معونة ظالم، كذلك كنت أنت و أصحابك. أو ما تذكّر قولك: لولا انّي أعلم أنّ للإمام العادل أجر رعيّته، ماتولَّيتُ أمر رجلين من المسلمين. فلمّا شريت نفسك في طاعة ربّك ابتغاء مرضاته، وأصبت من الحق فصّه (كنهه)، وركبت مُرّه، تجرّد لك الشيطان، ولم يكن أحد أثقل عليه وطأةً منك ومن أصحابك، فاستمالك واستهواك وأغواك، فُغُوِيْتَ، وأكفرت الذين عذرهم الله تعالى في كتابه، من قعدة المسلمين وضَعَفَتهم، قال الله عزّوجلّ، وقوله الحق، ووعده الصدق:( لَيْسَ عَلى الضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى الْمَرْضى وَ لا عَلَى الَّذِيْنَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إذا نَصَحُوا للهِ وَ رَسُولِهِ) (التوبة: 91): ثمّ سمّاهم تعالى أحسن الأسماء فقال:( ما عَلَى الْمحْسِنِينَ مِنْ سَبِيل) ( التوبة: 91) ثم استحللت قتل الأطفال، وقد نهى رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ عن قتلهم، وقال الله جلّ ثناۆه: (وَ لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرى) ( الاسراء: 15)، وقال سبحانه في القعدة خيراً، فقال:
( وَ فَضَّلَ اللهُ الُمجاهِدِيْنَ عَلَى القاعِدِيْنَ اَجْراً عَظِيماً) ( النساء: 95) فتفضيله المجاهدين على القاعدين لايدفع منزلة من هو دون المجاهدين، أو ماسمعت قوله تعالى: ( لا يَسْتَوِى القاعِدُونَ مِنَ الْمُۆمِنِينَ غَيْرُ أُولِى الضَّرَر) ( النساء: 95) فجعلهم من المۆمنين وفضّل عليهم المجاهدين بأعمالهم، ثمّ إنّك لاتۆدّي أمانةً إلى من خالفك، والله تعالى قد أمر أن تودّي الأمانات إلى أهلها، فاتّق الله في نفسك، واتّق يوماً لا يجزي فيه والد عن ولده، ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً، فإنّ الله بالمرصاد، وحكمه العدل، وقوله الفصل، والسَّلام.
اجابة نافع عن كتاب نجدة:
أمّا بعد: أتاني كتابك تعظني فيه، وتذكّرني وتنصح لي وتزجرني، وتصف ما كنتُ عليه من الحق، و ماكنتُ اُوثره من الصواب،وأنا أسأل الله أن يجعلني من القوم الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه.
وعبت على مادِنْتُ، من إكفار القعدة وقتل الأطفال، واستحلال الأمانة من المخالفين، وساُفسّرلك لِمَ ذلك إن شاء الله....
أمّا هۆلاء القعدة، فليسوا كمن ذكرت ممّن كان على عهد رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ لأنّهم كانوا بمكّة مقهورين محصورين لا يجدون إلى الهرب سبيلا، ولا إلى الاتّصال بالمسلمين طريقاً، وهۆلاء قد تفقّهوا في الدين، وقرأوا القرآن، والطريق لهم نهج واضح. وقد عرفت ما قال الله تعالى فيمن كان مثلهم، قالوا: (كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الأرْضِ) ( النساء: 97). فقال: ( ألَمْ تَكُنْ اَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) ( النساء:97) وقال سبحانه: ( فَرِحَ الْمخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَ كَرِهُوا أنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللهِ)( التوبة: 81) وقال: ( وَ جاءَ المُعَذِّرُونَ مِنَ الأعْرابِ لِيُۆذَنَ لَهُمْ)( التوبة: 90) فخبّر بتعذيرهم، وأنّهم كذبوا الله ورسوله، ثمّ قال: ( سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أليِمٌ)( التوبة 90) فانظر إلى أسمائهم وسماتهم .
وأمّا الأطفال، فإنّ نوحاً نبيّ الله، كان أعلم بالله منّي ومنك، وقد قال: ( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الكافِرينَ دَيَّاراً* إنَّكَ اِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ ولا يَلِدُوا إلاّ فاجِراً كَفَاراً) ( نوح: 26 ـ 27) فسمّاهم بالكفر وهم أطفال، وقبل أن يولدوا، فكيف كان ذلك في قوم نوح، ولاتقوله في قومنا، والله تعالى يقول: ( اَكُفّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ اُولئِكُمْ اَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فىِ الزُّبُرِ) ( القمر: 43) وهۆلاء كمشركي العرب، لايقبل منهم جزية وليس بيننا وبينهم إلاّ السيف، والإسلام.
وأمّا استحلال أمانات من خالفنا فإنّ الله تعالى أحلّ لنا أموالهم، كما أحلّ دماءهم لنا، فدماۆهم حلال طلق(حلال طيّب) وأموالهم فيء للمسلمين، فاتّق الله وراجع نفسك، فإنّه لا عذر لك الاّ بالتوبة، ولن يسعك خذلاننا والقعود عنّا وترك ما نهجناه لك من مقالتنا، والسلام على من أقرّ بالحق و عمل به (4) .
هذا هو نافع بن الأزرق، وهذا غلو منهجه وتطرّفه الفكري، حيث يجوّز استعراض الناس والتفتيش عن عقائدهم وقتل الأطفال إلى غير ذلك.
آراء الأزارقة وعقائدهم:
إنّ للأزارقة أهواء متطرّفة وبدعاً فظيعة وقد تشترك في بعضها مع سائر الفرق:
1 ـ قولهم: إنّ مخالفيهم من هذه الاُمّة مشركون، وكانت المحكّمة الاُولى يقولون: إنّهم كفرة لامشركون.
2 ـ قولهم: إنّ القعدة ـ ممّن كان على رأيهم ـ عن الهجرة إليهم مشركون.
3 ـ اوجبوا امتحان من قصد عسكرهم إذا ادّعى أنّه منهم: أن يدفع إليه أسيراً من مخالفيهم ويأمره بقتله، فإن قتله صدَّقوه في دعواه أنّه منهم، وإن لم يقتله قالوا: هذا منافق مشرك، وقتلوه.
4 ـ اباحة قتل أطفال المخالفين ونسائهم، والمقصود: المسلمون، وزعموا أنّ الأطفال مشركون، وقطعوا بأنّ أطفال مخالفيهم مخلّدون في النار مع آبائهم.
5 ـ اسقاط الرجم عن الزاني، إذ ليس في القرآن ذكره، واسقاط حدّ القذف عمّن قذف المحصنين من الرجال(5) مع وجوب الحدّ على قاذف المحصنات من النساء .
6 ـ إنّ التقيّة غير جائزة في قول ولا عمل .
7 - تجويزهم أن يبعث الله نبيّاً يعلم أنّه يكفر بعد نبوّته، أو كان كافراً قبل البعثة .
8 ـ اجتمعت الأزارقة على أنّ من ارتكب الكبيرة كفر كفر ملّة، خرج به عن الاسلام جملة، ويكون مخلّداً في النار مع سائر الكفّار، واستدلّوا بكفر ابليس وقالوا:ما ارتكب إلاّ كبيرة، حيث اُمر بالسجود لآدم ـ عليه السَّلام ـ فامتنع، وإلاّ فهو عارف بوحدانيّة الله تعالى(6) .
9 ـ إنّ دار مخالفيهم دار كفر، وقالوا: إنّ مخالفيهم مشركون فلا يلزمنا اداء أماناتهم إليهم.
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج5
المصادر:
1. الطبري: التاريخ 4/436 ـ 438. المبرد: الكامل: 2/203 ـ 208 .
2. الطبري: التاريخ 4/438 .
3. الشهرستاني: الملل و النحل 1/125 .
4. المبرد: الكامل 2/210 ـ 212، ونقلهما ابن أبي الحديد في الشرح لاحظ 4/137 ـ 139 .
5. بحجّة أنّه سبحانه قال: ( والّذين يَرْمُونَ الُمحَصَنات) (النور: 4) ولم يقل: والذين يرمون المحصنين.
6. البغدادي: الفَرق بين الفرِق: 83 ، الشهرستاني: الملل والنحل 1/121 ـ 123 .