القدرية

قيم هذا المقال
(0 صوت)

القدرية

إنّ لفظ القدرية منسوب إلى القدر، ومقتضى القاعدة النحوية أن يفسر بالمنسوب إلى القدر أي التقدير والقضاء، فالقدرية: هم القائلون بالقضاء والقدر. كما أنّ العدلية هم القائلون بالعدل لا نفاته .

ولكن أصحاب المقالات فسّروه بنفاة القدر، وهو في بابه غريب، إذ لم يثبت هذا النوع من الاستعمال .

ثم إنّ الذين اتّهموا بالقدرية في أيام الأُمويّين كانوا دعاة الحرية، ويقولون بأنّ الإنسان مخيّر في تفكيره وعمله وليس بمسيّر، فاستنتج المخالفون لهؤلاء الجماعة انّهم من نفاة القضاء والقدر، وكأَنّ القول بالحرية لا يجتمع مع القول بالتقدير .

ثم إنّهم لم يقتصروا على ذلك فرووا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «القدرية مجوس هذه الأُمّة» فقالوا المراد هذه الطائفة، أي دعاة الحرية ونفاة الجبر .

إنّ العصر الأُموي كان يسوده القول بالجبر الّذي يصوّر الإنسان والمجتمع انهما مسيّران لا مخيّران، وأن كل ما يجري في الكون من صلاح وفساد، وسعة وضيق وجوع وكظّة وصلح وقتال بين الناس أمر حتمي قضي به عليهم، وليس للبشر فيه أيّ صنع وتصرّف .

وقد اتّخذت الطغمة الأُمويّة هذه الفكرة غطاءً لأفعالهم الشنيعة حتّى يسدّوا بذلك باب الاعتراض على أفعالهم، بحجّة انّ الاعتراض عليهم اعتراض على صنعه سبحانه وقضائه وقدره، وانّ الله سبحانه فرض على الإنسان حكم ابن آكلة الأكباد وابنه السكّير، وأبناء البيت الأُموي الخبيث يعيشون عيشة رغد ورخاء وترف، ويعيش الآخرون حياة البؤس والشقاء.

وعلى ذلك فمن سجلت أسماؤهم في القدرية لم يكن لهم ذنب سوى انّهم كانوا دعاة الحرية ونفاة الجبر، نظراء :

1-معبد بن عبد الله الجهني البصري (المتوفّى عام 80 هـ).

2-غيلان بن مسلم الدمشقي، المصلوب بدمشق عام 105 هـ .

3-عطاء بن يسار (المتوفّى 103 هـ).

إنّ نضال هؤلاء الثلاثة في العهد الأُموي كان ضد ولاة الجور الذين كانوا يسفكون الدماء وينسبونه إلى قضاء الله وقدره، فهؤلاء الأحرار قاموا في وجههم وأنكروا القدر بالمعنى الّذي استغلته السلطة وبررت به أعمالها الشنيعة، وإلاّ فمن البعيد جداً من مسلم واع أن ينكر القضاء والقدر الواردين في الكتاب والسنّة على وجه لا يسلب الحرية من الإنسان ولا يجعله مكتوف الأيدي.

إنّ هذا التاريخ يدلّنا على أنّ رجال العيث والفساد إذا أرادوا إخفاء دعوة الصالحين اتّهموهم بالكفر والزندقة ومخالفة الكتاب والسنّة . والحاصل: انّ تفسير القدرية في حق هؤلاء بتفويض الإنسان إلى نفسه وأفعاله وانّه ليس لله أي صنع في فعله، فهو تفسير جديد حدث بعد هؤلاء، فلم يكن لمعبد الجهني وغيلان الدمشقي والقاضي عطاء بن يسار وغيرهم إلاّ نقد الفكرة الفاسدة، وهي كون الإنسان والمجتمع مسيّراً لا مخيّراً، لا يسأل عن أفعاله، ومن عجيب الأمر انّ عبد الله بن عمر روى أنّ رسول الله قال: «إنّ القدرية مجوس هذه الأُمّة، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم».( [1])

فكلّ من دعاة الحرية والجبر فسروه بالمخالف، ولكنّ الحديث ضعيف سنداً جداً، ولفظ الحديث حاك انّه صنع بعد رحيل الرسول كما كثر ما يروى في هذا المقام .

ثم إنّ للصاحب بن عباد (326-385 هـ) رسالة في الرد على القدرية بمعنى المجبرة نشرناها في كتابنا «بحوث في الملل والنحل» الجزء الثالث من صفحة 132 إلى 138; كما أنّ للحسن بن محمد بن الحنفية والقاضي حسن بن يسار المعروف بالحسن البصري رسالة في نفي القدر بمعنى الجبر نشرناها في نفس الكتاب .

***

ولمّا كانت دعوة معبد الجهني وأضرابه دعوة إلى الحرية والتفكير ظهرت آنذاك حركات رجعية تعرقل الأُمّة عن التقدّم، ونشير إلى هذه الدعوات والنحل المخالفة لمبادئ الإسلام بصورة موجزة.

[1] . جامع الأُصول: 10 / 526 .

قراءة 4023 مرة