الماتريدية

قيم هذا المقال
(0 صوت)

الماتريدية

في الوقت الّذي ظهر مذهب الإمام الأشعري بطابع الفرعية لمذهب أهل الحديث، ظهر مذهب آخر بهذا اللون والشكل لغاية نصرة السنّة وأهلها وإقصاء المعتزلة عن الساحة الإسلامية، وهو مذهب الإمام محمد بن محمد بن محمود الماتريدي السمرقندي (المتوفّى 333 هـ) أي بعد 9 أو ثلاثة أعوام من وفاة الإمام الأشعري .

والداعيان كانا في عصر واحد، ويعملان على صعيد واحد، ولم تكن بينهما أيّة صلة، فالإمام الأشعري كان يكافح الاعتزال ويناصر السنّة في العراق متقلّداً مذهب الشافعي في الفقه، والماتريدي ينازل المعتزلة في أقصى الشرق الإسلامي (ماوراء النهر) متقلّداً رأي الإمام أبي حنيفة في الفقه، فكانت البصرة يومذاك محط الأهواء والعقائد ومعقلها، كما كانت أرض خراسان مأوى أهل الحديث ومهبطهم.

منهج الإمام الماتريدي موروث عن أبي حنيفة:

المنهج الّذي اختاره الماتريدي، وأرسى قواعده، وأوضح براهينه، هو المنهج الموروث عن أبي حنيفة (المتوفّى 150 هـ) في العقائد، والكلام، والفقه ومبادئه، والتاريخ يحدثنا أنّ أبا حنيفة كان صاحب حلقة في الكلام قبل تفرّغه لعلم الفقه، وقبل اتّصاله بحمّاد بن أبي سليمان الّذي أخذ عنه الفقه.

وليس الماتريدي نسيج وحده في هذا الأمر، بل معاصره أبو جعفر الطحاوي صاحب «العقيدة الطحاوية» (المتوفّى 321 هـ) مقتف أثر أبي حنيفة حتّى عنون صدر رسالته المعروفة «بالعقيدة الطحاوية» بقوله: «بيان عقيدة فقهاء الملّة»: أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن. ( [1])

لمحة إلى سيرة الماتريدي:

اتفق المترجمون له على أنّه توفّي عام 333 هـ ، ولم يعيّنوا ميلاده، لكن القرائن تشهد انّه من مواليد عام 248 هـ ، وقد ولد بـ «ماتريد»، وهي من توابع سمرقند في بلاد ماوراء نهر جيحون، ويوصف بالماتريدي تارة، وبالسمرقندي أُخرى، ونسبه ينتهي إلى أبي أيوب خالد بن زيد بن كليب الأنصاري مضيّف النبي في دار الهجرة.

مشايخه:

قد أخذ العلم عن عدّة من المشايخ، هم:

1-أبو بكر أحمد بن إسحاق الجوزجاني.

2-أبو نصر أحمد بن العياضي.

3-نصير بن يحيى، تلميذ حفص بن سالم (أبي مقاتل).

4-محمد بن مقاتل الرازي.

قال الزبيدي: تخرج الماتريدي على الإمام أبي نصر العياضي. ومن شيوخه الإمام أبو بكر أحمد بن إسحاق بن صالح الجوزجاني صاحب الفرق والتمييز، ومن مشايخه محمد بن مقاتل الرازي قاضي الريّ.

والأوّلان من تلاميذ أبي سليمان موسى بن سليمان الجوزجاني، وهو من تلاميذ أبي يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني.

وأمّا شيخه الرابع ـ أعني: محمد بن مقاتل ـ فقد تخرَّج على تلميذ أبي حنيفة مباشرة، وعلى ذلك فالماتريدي يتّصل بإمامه تارة بثلاث وسائط، وأُخرى بواسطتين، فعن طريق الأوّلين بوسائط ثلاث، وعن طريق الثالث بواسطتين. ( [2])

تلاميذه:

تخرج عليه عدة من العلماء، منهم:

1-أبو القاسم إسحاق بن محمد بن إسماعيل الشهير بالحكيم السمرقندي (المتوفّى 340 هـ) .

2-أبوالليث البخاري.

3-أبو محمد عبد الكريم بن موسى البزدوي، جدّ محمد بن محمد بن عبـد الكريـم البزدوي مؤلّف «أُصول الدين».

مصنّفاته:

سجل المترجمون للماتريدي كتباً له تعرب عن ولعه بالكتابة والتدوين والإمعان والتحقيق، غير أنّ الحوادث لعبت بها، ولم يبقَ منها إلاّ ثلاثة :

1-كتاب «التوحيد» وهو المصدر الأوّل لطلاب المدرسة الماتريدية وشيوخها الذين جاءوا بعد الماتريدي، واعتنقوا مذهبه، وهو يستمد في دعم آرائه من الكتاب والسنّة والعقل، ويعطي للعقل سلطاناً أكبر من النقل .

وقد قام بتحقيق نصوصه ونشره الدكتور فتح الله خليف عام 1390 هـ ، وطبع الكتاب في بيروت مع فهارسه في 412 صفحة .

2-«تأويلات أهل السنّة» في تفسير القرآن الكريم، وهو تفسير في نطاق العقيدة السنّية، وقد مزجه بآرائه الفقهية والأُصولية وآراء أُستاذه الإمام أبي حنيفة، فصار بذلك تفسيراً عقائدياً فقهياً، وهو تفسير عام لجميع السور، والجزء الأخير منه يفسر سورة المنافقين إلى آخر القرآن، وقد وقفنا من المطبوع منه على الجزء الأوّل وينتهي إلى تفسير الآية 114 من سورة البقرة.

حقّقه الدكتور إبراهيم عوضين، وطبع في القاهرة عام 1390 هـ .

وأمّا كتبه الأُخرى فإليك بيانها:

3-المقالات .

4-مآخذ الشرائع .

5-الجدل في أُصول الفقه .

6-بيان وهم المعتزلة.

7-رد كتاب الأُصول الخمسة للباهلي.

8-كتاب رد الإمامة.

9-الرد على أُصول القرامطة.

10-رد تهذيب الجدل للكعبي.

إذا عرفت مؤسّس المذهب وشيوخه وتلامذته ومؤلّفاته، فلنعرج على أُصول المذهب الماتريدي، فنقول:

إنّ المذهب الأشعري والماتريدي يتحركان في فلك واحد، وكانت الغاية هي الدفاع عن عقيدة أهل السنّة والوقوف في وجه المعتزلة، ومع ذلك لا يمكن إن يتّفقان في جميع الأُصول الرئيسية فضلاً عن التفاريع، وذلك لأنّ الأشعري اختار مذهب الإمام أحمد، وطابع منهجه هو الجمود على الظواهر وعدم العناية بالعقل والبرهان.

وأمّا الماتريدي فقد تربّى على منهج تلامذة الإمام أبي حنيفة، ويعلو على ذلك المنهج الطابع العقلي والاستدلالي، كيف ومن أُسس منهجه الفقهي هو العمل بالقياس والاستحسان.

وعلى ضوء هذا فلا يمكن أن يكون التلميذان متوافقين في الأُصول.

والّذي تبيّن لي بعد التأمّل في آراء الماتريدي في كثير من المسائل الكلامية انّ منهجه كان يتمتع بسمات ثلاث:

1-انّ الماتريدي أعطى للعقل سلطاناً أكبر، ومجالاً أوسع، وذلك هو الحجر الأساس للسمتين الأخيرتين.

2-انّ منهج الماتريدي أبعد من التشبيه والتجسيم من الأشعري، وأقرب إلى التنزيه .

3-انّه وإن كان يشن هجوماً عنيفاً على المعتزلة، ولكنّه إلى منهجهم أقرب من الإمام الأشعري.

وإليك بيان بعض الفوارق بين المنهجين:

1.معرفته سبحانه واجبة عقلاً :

اختلف المتكلّمون في وجوب المعرفة، فالأشعري وأتباعه على أنّه سمعي بمعنى انّه أمر سبحانه بمعرفته، والمعتزلة على أنّه عقلي .

وأمّا الماتريدي فيقول هو كالمعتزلة في وجوبها عقلاً، قال البياضي:

ويجب بمجرد العقل في مدة الاستدلال، معرفة وجوده تعالى ، ووحدته، وعلمه، وقدرته وكلامه وإرادته وحدوث العالم، ودلالة المعجزة على صدق الرسول، ويجب تصديقه، ويحرم الكفر والتكذيب به، لا من البعثة( [3]) وبلوغ الدعوة. ( [4])

إنّ القول بوجوب هذه الأُمور من جانب العقل من قبل أن يجيء الشرع دفعاً لمحذور الدور، يعرب عن كون الداعي أعطى للعقل سلطاناً أكبر ممّا أعطاه الأشعري له .

2.الاعتراف بالتحسين والتقبيح العقليّين:

قد أنكر الشيخ الأشعري التحسين والتقبيح العقليّين حذراً من أن القول به تحديد لقدرة الله سبحانه وإرادته، ولكنّ الماتريدي قال بالتحسين والتقبيح العقليّين في الجملة، قال البياضي:

والحسن بمعنى استحقاق المدح والثواب، والقبيح بمعنى استحقاق الذم والعقاب على التكذيب عنده (أبو منصور الماتريدي ) إجمالاً عقلي، أي يعلم به حكم الصانع ـ إلى أن قال: ـ ويستحيل عقلاً اتّصافه تعالى بالجور وما لا ينبغي، فلا يجوز تعذيب المطيع ولا العفو عن الكفر عقلاً، لمنافاته للحكمة، فيجزم العقل بعدم جوازه. ( [5])

وعلى ضوء ذلك فقد اعترف الماتريدي بما هو المهم في باب التحسين والتقبيح العقليّين. أعني :

أوّلاً: استقلال العقل بالمدح والذم في بعض الأفعال.

وثانياً: استقلال العقل بكونه سبحانه عادلاً، فلا يجوز عليه تعذيب المطيع.

نعم أنكر الشيخ الماتريدي إيجاب العقل للحسن والقبح.

3.التكليف بما لا يطاق :

ذهب الأشعري إلى جواز التكليف بما لا يطاق، ولكن الماتريدي يقول بخلافه، قال البياضي: ولا يجوز التكليف بما لا يطاق، لعدم القدرة أو لعدم الشرط. ( [6])

هذا ما نقله البياضي عن الماتريدية، وأمّا نفس الإمام أبي منصور الماتريدي فقد فصَّل في كتابه «التوحيد» بين مضيّع القدرة فيجوز تكليفه وبين غيره فلا يجوز .

قال: إنّ تكليف من منع عن الطاقة فاسد في العقل، وأمّا من ضيَّع القوة فهو حق ان يكلّف مثله، ولو كان لا يكلف مثله لكان لا يكلف إلاّ من مطيع .( [7])

4.أفعال الله سبحانه معلّلة بالأغراض:

ذهبت الأشاعرة إلى أنّ أفعاله سبحانه ليست معلّلة بالأغراض، وانّه لا يجب عليه شيء، ولا يقبح عليه شيء، واستدّلوا على ذلك بما يلي:

لو كان فعله تعالى لغرض، لكان ناقصاً لذاته، مستكملاً بتحصيل ذلك الغرض، لأنّه لا يصلح غرضاً للفاعل إلاّ ما هو أصلح له من عدمه وهو معنى الكمال. ( [8])

وقالت الماتريدية: أفعاله تعالى معلّلة بالمصالح والحكم تفضّلاً على العباد، فلا يلزم الاستكمال ولا وجوب الأصلح. واختاره صاحب المقاصد. ( [9])

5.الصفات الخبرية :

إنّ تفسير الصفات الخبرية ـ كالاستواء واليد والعين ـ أوجد اختلافاً عميقاً بين المتكلّمين، فأهل الحديث والأشاعرة من المثبتين لها ولذلك اشتهروا بالصفاتية، في مقابل المعتزلة الذين يؤوّلونها ولا يثبتونها بما يتبادر منها في ظواهرها.

وأقصى ما عند الأشاعرة في إثباتها لله سبحانه هو إثباتها بلا كيفية، وانّه سبحانه مستو على العرش بلا كيفية، وله يد بلا كيفية، وهكذا سائر الصفات الواردة في الكتاب والسنّة. وهم في هذا المقام يتذرعون بقولهم: «بلا كيف، وبلا تشبيه» .

وأمّا الماتريدية فالظاهر انّ منهجهم هو التنزيه ظاهراً وباطناً، ولكنّهم بين مفوض معانيها لله سبحانه أو مفسر لها مثل العدلية الذين سمّتهم الأشاعرة بالمؤوّلة.

مثلاً يقول أبو منصور أحد أقطاب الماتريدية: ليس في الارتفاع إلى ما يعلو من مكان للجلوس أو القيام شرف ولا علوّ، ولا وصف بالعظمة والكبرياء، كمن يعلو السطوح والجبال أنّه لا يستحق الرفعة على من دونه عند استواء الجوهر، فلا يجوز صرف تأويل الآية إليه، مع ما فيها ذكر العظمة والجلال، إذ ذكر في قوله تعالى: ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّموَاتِ وَ الأَرْضَ ) ( [10]) فذلك على تعظيم العرش. ( [11])

وفي خاتمة المطاف نلفت نظر القارئ إلى ما ذكره الكاتب المصري أحمد أمين حول عقيدة الأشاعرة في الصفات الخبرية، قال :

وأمّا الأشاعرة فقالوا إنّها مجازات عن معان ظاهرة، فاليد مجاز عن القدرة، والوجه عن الوجود، والعين عن البصر، والاستواء عن الاستيلاء، واليدان عن كمال القدرة، والنزول عن البرد والعطاء، والضحك عن عفوه. ( [12])

وما ذكره هو نفس عقيدة المعتزلة لا الأشاعرة ولا الماتريدية، فالمعتزلة هم المؤوّلة، يؤوّلون الصفات بما ذكره، والأشاعرة من المثبتة لكن بقيد «بلا كيف»، والماتريدية هم المفوّضة، يفوّضون معانيها إلى قائلها.

6.صفاته عين ذاته:

ذهبت الأشاعرة إلى أنّ صفاته سبحانه زائدة على ذاته، وأمّا الماتريدية فذهبوا إلى ما اختارته العدلية من عينية الصفات للذات، يقول النسفي الّذي هو من الماتريدية :

ثم أعلم أنّ عبارة متكلّمي أهل الحديث في هذه المسألة أن يقال: إنّ الله تعالى عالم بعلم، وكذا فيما وراء ذلك من الصفات، وأكثر مشايخنا امتنعوا عن هذه العبارة احترازاً عما توهم ان العلم آلة وأداة يقولون: إنّ الله تعالى، عالم، وله علم، وكذا فيما وراء ذلك من الصفات، والشيخ أبو منصور الماتريدي يقول: إنّ الله عالم بذاته، حي بذاته، قادر بذاته، ولا يريد منه نفي الصفات، لأنّه أثبت الصفات في جميع مصنّفاته، وأتى بالدلائل لإثباتها، ودفع شبهاتهم على وجه لا محيص للخصوم عن ذلك، غير أنّه أراد بذلك دفع وهم المغايرة، وأنّ ذاته يستحيل ان لا يكون عالماً. ( [13])

هذه نماذج ممّا اختلفت فيها الماتريدية والأشاعرة، وإن كان مورد الاختلاف أكثر من ذلك.

وبذلك ظهر انّ جنوح الماتريدية إلى العدلية أكثر من الأشاعرة .

أعيان الماتريدية:

قد عرفت أنّ مؤسّس المذهب الماتريدي هو الإمام محمد بن محمد بن محمود الماتريدي السمرقندي (المتوفّى عام 333 هـ)، وقد ربّى جيلاً وأنصاراً قاموا بنصرة المذهب ونشره وإشاعته، وإليك بعض أعلام مذهبه :

1-القاضي الإمام أبو اليسر محمد بن محمد بن عبد الكريم البزدوي (421-493 هـ)، له كتاب «أُصول الدين».

2-أبو المعين النسفي (المتوفّى 502 هـ) وهو من أعاظم أنصار ذلك المذهب، له كتاب «تبصرة الأدّلة» الّذي مازال مخطوطاً حتّى الآن، ويعدّ الينبوع الثاني بعد كتاب «التوحيد» للماتريدية.

3-الشيخ نجم الدين أبو حفص عمر بن محمد النسفي (المتوفّى 537 هـ) مؤلّف «عقائد النسفي» ومازال هذا الكتاب محور الدراسة في الأزهر إلى يومنا هذا . 4-الشيخ مسعود بن عمر التفتازاني (المتوفّى 791 هـ) أحد المتضلّعين في العلوم العربية والمنطق والكلام، وهو شارح «العقائد النسفية» .

5-الشيخ كمال الدين محمد بن همام الدين الشهير بابن الهمام (المتوفّى 861 هـ) صاحب كتاب «المسايرة» في علم الكلام. نشره وشرحه محمد محيي الدين عبد الحميد، وطبع بالقاهرة.

6-العلاّمة كمال الدين أحمد البياضي الحنفي مؤلّف كتاب «إشارات المرام من عبارات الإمام» أحد علماء القرن الحادي عشر الهجري، ويعدّ كتابه هذا أحد مصادر الماتريدية.

7-الشيخ محمد زاهد بن الحسن الكوثري المصري (المتوفّى 1372 هـ) وكيل المشيخة الإسلامية في الخلافة العثمانية، أحد المتضلّعين في الحديث والتاريخ والملل والنحل .

 

الهوامش:

[1] . شرح العقيدة الطحاوية: 25 .

[2] . إتحاف السادة المتقين: 2 / 5 .

[3] . كذا في المصدر، والظاهر زيادة « لا » والصحيح « من البعثة » .

[4] . إشارات المرام: 53 .

[5] . إشارات المرام: فصل الخلافيات بين الماتريدية والأشاعرة: 54 .

[6] . المصدر السابق: 54 .

[7] . التوحيد: 266 .

[8] . المواقف: 331 .

[10] . إشارات المرام: 54 .

[11] . الأعراف: 54 .

[12] . التوحيد: 69 و 70 .

[12] . ظهر الإسلام: 4 / 94، ط الثالثة عام 1964 .

[13] . العقائد النسفية: 76 .

قراءة 3910 مرة
المزيد في هذه الفئة: « المجسّمة الدروز »