هناک تصورخاطئ لمفهوم التشيُّع وسببه إمَّا قلَّة معرفة بمبادئهِ وإصولهِ وفروعهِ أوتعصب طائفي، ولا شک أنَّ ماوراء ذلک أهداف ومصالح لأعداء الدين، وخصوم الشيعة ومن تبعهم من المستشرقين، ممَّا دفع أصحاب الملل والنحل والباحثين في الفرق والکُتَّاب القُدامی والجُدد إلى التخبُّط في فهم حقيقة نشأة هذا المذهب، فأخذوا يبحثون عن تاريخ ظهوره في السَّاحة الإسلامية، فنسبوا التشيُّع إلی الصراعات السياسية أونِتاج المُجادلات الكلامية أوالفتُوحات الإسلامية، والبعض منهم رمی التشيُّع بالسبئية وبعضهم نسبه إلی الفارسية، وهذه الإنتسابات في الواقع تكوِّن جزءاً من محاصرة التشيع، ولو أنَّ أولئك الدارسين شرعوا في دراستهم لتاريخ هذه النشأة من خلال العقائد التي ابتنى عليها التشيع وبلاتعصب لأدركوا بوضوح و دون لبُس أن هذا المذهب لا يشكل في جوهر تكوِّنه و قواعد اُصوله إلا الإمتداد الحقيقي للإسلام المحمدي الأصيل بحسب النصوص الواردة من الکتاب والسنة، والتي سنتعرف عليها من خلال دراستنا لنشأة التشيع والآراء المطروحة في هذا الموضوع، وتقديم الرأي الصحيح الذي يستند إلی تلک النصوص الشرعية، وقبل الخوض في البحث لابدَّ من معرفة معنی التشيع لغةً وإصطلاحاً:
التشيُّع لغة
التشيُّع لغة هو: المشايعة و المتابعة والمناصرة والموالاة، فالشيعة بالمعنى اللغوي هم الأتباع والأنصار([1]) وبهذا المعنى اللغوي استعمل القرآن الكريم لفظة الشيعة كما في قوله تعالى : « وَ إِنَّ مِنْ شيعَتِهِ لَإِبْراهيمَ » ([2]) اي: كان النبي ابراهيم الخليل(ع)علی سنة النبي نوح(ع) قولاً وعملاً وكان بينهما 2640 سنة وكان بينهما هود وصالح، وكقوله تعالى : « وَ دَخَلَ الْمَدينَةَ عَلى حينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شيعَتِهِ وَ هذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذي مِنْ شيعَتِهِ عَلَى الَّذي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ ... » ([3]).
وكلمة «شيعة» في حد ذاتها و بمعناها اللغوي ليس لها قداسة خاصة، وكما تطلق علی أهل الحق، تطلق علي اتباع الباطل ايضاً، كما في قول الامام الحسين(ع) لجيش يزيد بن معاوية :« ويلکم يا شيعةَ آل ابي سفيان إن لم يكن لكم دين وکنتم لا تخافون المعاد فكونوا احراراً في دنياكم» ([4]) .
التشيع إصطلاحاً
قد أصبح مصطلح التشيُّع يطلق علی المذهب الذي يتبنی ولاية عليٍ وأهل بيته(ع) من بعد النبي(ص)، و غلب سم الشيعة على أتباع عليٍّ(ع) حتى اختص بهم وأصبح إذا اُطلِق ينصرف إليهم، وإليک أقوال أصحاب کتب الفرق في تعريف الشيعة:
قال الشهرستاني في الملل والنحل: «الشيعة هم الذين شايعوا علياً وقالوا بإمامته وخلافته نصَّاً و وصاية إمَّا جلياً و إمَّا خفياً و اعتقدوا أنّ الإِمامة لا تخرج من أولاده و إن خرجت فبظلم يكون من غيره أو بتقية من عنده»([5]).
ويقول الحسن بن موسى النوبختي: « فالشيعة فرقة عليِّ بن أبي طالب المسمون بشيعة عليٍّ في زمن النبي ـ ثم عدد جماعة منهم وقال: ـ وهم أوَّل مَن سمي باسم التشيع لأنّ اسم التشيع كان قديماً لشيعة إبراهيم »([6]).
وقال الشهيد الثاني في شرح اللُمعة: «والشيعة من شايع علياً أي: إتَّبعه وقدَّمه على غيره في الإِمامة و إن لم يوافق على إمامة باقي الأئمة، فيدخل فيهم الإِمامية والجارودية من الزيدية والإِسماعيلية غير المَلاحدة منهم، والواقفية والفطحية »([7]).
وقال محمد فريد وجدي : «الشيعة هم الذين شايعوا علياً في إمامته واعتقدوا أنَّ الإِمامة لا تخرج عن أولاده و يقولون بعصمة الأئمة من الصغائر والكبائر والقول بالتولِّي والتبرّي قولاً وفعلاً إلا في حال التقية إذا خافوا بطش ظالم وهم خمس فرق: «كيسانية وزيدية وإمامية وغلاة وإسماعيلية» وبعضهم يميل في الاُصول إلى الإِعتزال وبعضهم إلى السنة وبعضهم إلى التشبيه»([8]) .
والحق إنّ عدِّ الغلاة من الفرق الشيعية جناية على المسلمين شيعة وسنَّة، إذ هم فرقة مرفوضة من قبل جميع المسلمين، وإنّ هذا الخطأ صدر من النوبختي والأشعري وجاء الباقون فساروا على سيرتهما، وعلى فرض كونهم فرقة، فلم يكن لهم أتباع ولم يكتب لهم البقاء إلّا قلائل. وإنّ الكيسانية لم تكن فرقة نجمت بتوافق مع أئمة الشيعة، وإنّما خلقتها الإتجاهات الفکرية والسياسية، واستغلّها أعداء الشيعة ليقضوا بها على تماسك الشيعة ووحدتهم.
آراء الباحثين في بدأ التشيُّع
إنّ المؤرخين والباحثين عندما يحددون فترة نشُوء التشيع يتوزعون على مدى الزمان من بداية النبوة إلی وفاة النبي(ص) وبعد وفاته إلی مقتل الحسين(ع). وسنستعرض المعروف من تلک الآراء ونقدِّم الرأي الذي يختاره علماء الشيعة و يقبله ويستدلون عليه بالنصوص الروائية والتاريخية:
الرأی الأول : بدأ التشيع بعد وفاة النبي(ص) من يوم السقيفة:
يقول أصحاب هذا الرأي : لقد غلب استعمال لفظ الشيعة علی من يوالي علياً ويعتقد بإمامته ووصايته، بعد وفاة النبي(ص) وبعد البيعة لأبي بکر في سقيفة بني ساعدة، و يظهر ذلك من خلال كلمات المؤرخين و أصحاب المقالات و التي نشير إلى بعضها:
روى المسعودي في حوادث وفاة النبي(ص): ان الإمام علياً أقام و من معه من شيعته في منزله بعد أن تمت البيعة لأبي بكر([9]) . وذکراليعقوبي جماعة من المتخلفين عن بيعة أبي بكر ثمَّ قال: « هم النواة الاُولى للتشيع ومن أشهرهم سلمان الفارسي وأبوذر الغفاري والمقداد بن الأسود والعباس بن عبدالمطلب »([10]) .
و قال ابن خلدون في تاريخه: إنّ الشيعة ظهرت لمَّا توفي الرسول صلى الله عليه (وآله) وسلّم وكان أهل البيت يرون أنفسهم أحق بالأمر وأنّ الخلافة لرجالهم دون سواهم من قريش ولمَّا كان جماعة من الصحابة يتشيعون لعليٍّ و يرون استحقاقه على غيره و لمَّا عُدل به إلى سواه تأسَّفوا من ذلك... ([11]) .
و قال الدكتور أحمد أمين في کتابه «فجر الإسلام»: وكانت البذرة الأولى للشيعة الجماعة الذين رأوا بعد وفاة النبي أنّ أهل بيته أولى الناس أن يخلفوه ([12]) . قال المستشرق جُولد تسيهِر: إنّ التشيع نشأ بعد وفاة النبي صلى الله عليه( وآله) وسلّم و بالضبط بعد حادثة السقيفة([13]).
الرأی الثاني: کان بداية التشيع في أيام عثمان:
أصحاب هذا الرأي يقولون: إنَّ الثورة التي قامت ضد عثمان بن عفَّان وقتلته وأطاحت بخلافته و ولَّت من بعده علي بن أبي طالب(ع) کانت البذرة الاُولی للتشيُّع لعلي وأولاده، ومن الذاهبين لهذا الرأي جماعة من المؤرخين والباحثين منهم: ابن حزم الأندلسي، والمستشرق «فلهوزن» حيث يقول فلهوزون: بمقتل عثمان انقسم الإسلام إلى فئتين: حزب عليّ، وحزب معاوية، والحزب يطلق عليه في العربية اسم «الشيعة» فكانت شيعة عليّ في مقابل شيعة معاوية، لكن لمّا تولّى معاوية الملك في دولة الإسلام كلّها... أصبح استعمال لفظة «شيعة» مقصوراً على أتباع عليّ ([14]). وهناک أشخاص آخرون علی هذا الرأي ذكرهم بالتفصيل يحيى هاشم فرغل في المجلد الأول من كتابه: (عوامل وأهداف نشأة علم الكلام) ، ولکن هذا الرأي خلاف القول المشهور عند المؤرخين والباحثين.
الرأی الثالث: تكوّن التشيُّع في أيام خلافة الإمام عليٍّ (ع) :
والذاهبين لهذا الرأي يقولون : لمَّا أصبح علي بن أبي طالب(ع) خليفة المسلمين فصار للشيعة کيان مستقل فتبلورت الشيعة وتکوَّنت، خاصَّة بعد المعارک الثلاث ( الجمل، وصفين وحرب النهروان) أي: الناکثين برئاسة طلحة وزبير، و القاسطين وهم معاوية وجماعته، والمارقين وهم الخوارج، واستمرهذا النزاع بين الفرقة الأموية والفرقة العلوية التي اشتهرت في ما بعد بشيعة علي.
ومن الذاهبين إلى هذا الرأي النوبختي في كتابه فرق الشيعة ([15])، وابن النديم(ت .378هـ) في الفهرست حيث حدَّد نشأة التشيُّع بفترة واقعة البصرة (معرکة الجمل) وما سبقها من مقدمات كان لها الأثر المباشر في تبلور فرقة الشيعة وتكوينها، فيقول :«إنّ عليّاً قصد طلحة والزبير ليقاتلهما حتّى يفيئا إلى أمر اللَّه، وسمّى من اتّبعه على ذلك الشيعة، وكان يقول: شيعتی » ([16]). وزعم بعض المستشرقين أنّ الشيعة تكوّنت بعد وقعة صفين يوم افترق جيش عليّ في مسألة التحكيم إلى فرقتين، فلمّا دخل عليّ الكوفة وفارقته الحرورية، وثبت إليه الشيعة، فقالوا: في أعناقنا بيعة ثانية، نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت([17]).
وهذا الرأی الثالث کسابقيه لا يستند إلی أدلَّة قويَّة، نعم كان للشيعة بعد تولّي الإمام الخلافة وجود واضح حيث ارتفع الضغط فالتفّ حوله موالوه من الصحابة والتابعين، إلّا أنّ الأمر الثابت هو أنّ ليس جميع من كان في جيشه من شيعته بالمعنى الخاص للتشيّع، بل أغلب من انخرط في ذلك الجيش كانوا تابعين له لأنّه خليفتهم، وقد بايعوه على ذلك.
الرأی الرابع: إنَّ التشيُّع ولد أيام النبي(ص) :
هذا هو رأي علماء الشيعة وغيرهم من المحقيين من المذاهب الاُخرى، وأصحاب هذا الرأي يقولون:أنّ النبي(ص) نفسه هو الذي غرس بذرة التشيع في نفوس المسلمين من بداية الدعوة حتَّی قرب الوفاة عن طريق الأحاديث التي وردت على لسانه(ص) وكشفت عما لعليٍّ (ع) من مكانة في مواقع متعددة وقد روی تلک الأحاديث إضافة إلى الشيعة ثقاة من علماء أهل السنة، وعلی هذا الأساس لا نجد للتشيع تأريخا سوى تأريخ الإسلام، و النصوص الواردة عن رسول الله (ص) تؤکِّد هذا القول ويمکن الإستدلال علی صحة هذا الرأي وقوَّته بالأمور التالية:
الأدلة على بدء التشيُّع أيّام النبي(ص)
هناک أدلَّة من النصوص القرآنية والروائية والتاريخية على وصف جماعة بالتشيع أيام النبي(ص)، ولکن هذه الجماعة کانت قليلة ومعدودة وقد ذکر تلک النصوص علماء الفريقين والمؤرخين من أصحاب الملل والنحل وإليک نماذج منها:
الدليل الأول- آية خَيْرُ الْبَرِيَّةِ: روای السيوطي عن ابن عساكر عند تفسير الآية السابعة من سورة البينة بسنده عن جابر بن عبدالله قال كنا عند النبي صلى الله عليه (وآله) وسلّم فأقبل عليّ (ع) فقال النبي صلى الله عليه (وآله) وسلّم: والذي نفسي بيده إنّ هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة: فنزل قوله تعالى:« إِنَّ الَّذينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ» ([18]). وأخرج ابن عدي عن ابن عباس قال لمَّا نزل قوله تعالى: «إِنَّ الَّذينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ» ([19])، قال النبي (ص) لعليٍّ (ع) هم أنت وشيعتك. ([20]).ومن هنا ذهب أبوحاتم الرازي إلى أنّ أول إسم لمذهب ظهر في الإِسلام هو الشيعة وكان هذا لقب أربعة من الصحابة أبي ذر وعمَّار ومقداد وسلمان الفارسي وبعد صفين اشتهر موالي عليٍّ بهذا اللقب([21]).
الدليل الثاني- آية الإنذار وحديثُ الدَّار: عندما نزل قوله تعالى:« وَ أَنْذِرْ عَشيرَتَكَ الْأَقْرَبينَ » ([22])، قال المؤرخون: إنّ النبي(ص) دعا علياً(ع) وأمره أن يصنع طعاماً ويدعو آل عبدالمطلب وعددهم يومئذ أربعون رجلاً وبعد أن أكلوا وشربوا من لبن اُعدَّ لهم قام النبي صلى الله عليه وآله وقال: يا بني عبدالمطلب إنّي والله ما أعلم شاباً من العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي و وصيي و خليفتي فيكم فأحجم القوم عنها جميعاً فقام عليّ وقال: ...أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه فأخذ النبي(ص) برقبته ثمَّ قال: إنّ هذا أخي و وصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا، فقام القوم يضحكون و يقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك و تطيع([23]). و وجه الإستدلال بهذا النص واضح حيث أمر رسول الله(ص) الحاضرين في ذلک المجلس أن يتبعوا علياً و يطيعوه وهذا معنی التشيع لعلي(ع) في بداية الدعوة وعلی لسان صاحب الدَّعوة وهو النَّبي(ص).
الدليل الثالث- آية التبليغ وحديث الغدير: لمَّا قضى النبي(ص) مناسكه، وانصرف راجعاً نحو المدينة و كان معه جموع من الحجَّاج، وصل إلى غدير خُم من الجحفة، وذلك يوم الخميس الثامن عشر من ذي الحجّة، نزل إليه جبرائيل الأمين(ع) عن الله مذكِّراً بقوله: «يا أيّها الرَّسُولُ بَلغ ما اُنزل إليك من ربّك ...» ([24])، وأمره أن يقيم عليّاً إماماً للناس، ويبلغهم ما نزل فيه من الولاية و فرض الطاعة على كلّ أحد، فلما انصرف النبي(ص) من صلاة الظهر، قام خطيباً وسط القوم على أقتاب الإبل، وأسمع الجميع، ... ثم أخذ بيد عليّ(ع) فرفعها حتى رُؤي بياض آباطهما وعرفه القوم أجمعون، فقال: «أيّها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟» قالوا: الله ورسوله. قال(ص): «إنّ الله مولاي، و أنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم فمن كنت مولاه فعليّ مولاه»، يقولها ثلاث مرات، ثم قال: «اللهمّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وأحبّ من أحبّه، وأبغض من أبغضه وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار، ألا فليبلّغ الشاهد الغائب» .ثمَّ لم يتفرقوا حتى نزل أمين وحي الله مذکِّراً بقوله:« الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي»([25]). فقال رسول الله (ص): «الله أكبر على إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضا الربّ برسالتي، والولاية لعليّ من بعدي». ثمَّ طفق القوم يهنِّئون أمير المؤمنين صلوات الله عليه، وممّن هنّـأه في مُقدّمة الصحابة الشيخان: أبوبكر وعمر كلّ يقول: بخٍ بخٍ لك يا ابن أبي طالب أصبحت و أمسيت مولاي و مولى كل مؤمن و مؤمنة، قال ابن عباس: وجبت -واللهِ - في أعناق القوم. فقال حسان: ائذن لي يا رسول الله أن أقول في عليٍّ أبياتاً تسمعهنّ، فقال: «قل على بركة الله». فقام حسّان فقال: يا معشر مشيخة قريش أتبعها قولي بشهادةٍ من رسول الله (ص) في الولاية ماضية، ثمَّ أنشد:
يناديهم يوم الغدير نبيهم بخمّ وأسمع بالرسول مناديا
هذا مجمل القول في واقعة الغدير([26]).
لقد تعلّـقت المشيئة الربّانية بأن تبقى واقعة الغدير التاريخية في جميع القرون والعصور كتاريخ حيّ، ويكتب عنها الكتـّـاب و يتحدث عنها الخطباء، وقد أخرج حديث الغدير جماعة من حفاظ أهل السنة وقد رواه ابن حجر في صواعقه عن ثلاثين صحابياً ونص على أنّ طرقه صحيحة وبعضها حسن([27]).
الدليل الرابع - النصوص التاريخية :هناک نصوص من المؤرخين و أصحاب الفرق على وصف جماعة بالتشيع أيام النبي(ص) منها : قال النوبختي: إن أول الفرق الشيعة، و هم فرقة علي ابن أبي طالب، المسمون شيعة علي في زمان النبي و بعده، معروفون بانقطاعهم إليه والقول بإمامته([28]).
هذا غيض من فيض و قليل من كثير ممَّا جاء في كلمات المفسرين والمحدِّثين والمؤرخين و أصحاب المقالات، وهي تصرِّح بأنَّ لفيفاً من المسلمين کانوا في حياة الرسول مشهورين بالتشيع لعلي(ع)، و أنَّ لفظة الشيعة ممَّا نطق بها الرسول في مواطن عديدة وتداولت هذه الکلمة علی ألسن المسلمين في ذلك.
واستناداً إلی النصوص التي ذکرناها فإنَّ الفرقة الشيعية الأصيلة والأصلية هي الفرقة التي نشأت أيام النبي(ص) ومن بداية الإسلام، وإنّ الشيعة الذين نذكر عقائدهم وآراءهم أو ندافع عمَّا ينسب لهم هم الذين يؤلفون الجمهور الشيعي اليوم والذين تملأ كتبهم مكتبات العالم ولسنا نتكلم عمَّن يسمى شيعياً لغة لأنّه ذهب إلى تفضيل عليٍّ(ع) على غيره، ولا الفرق الشيعة التي انشعبت من تلک الفرقة الأصلية، وقد يكونون منقرضين لا يوجد لهم أثر إلا في مخيلة البعض أو في وريقات من كتب مهجورة. ولا الفرق المنسوبة إلی مذهب الشيعة کالغلاة والروافض وغيرها من المسميات التي اُطلقت من قبل أعداء الشيعة عليهم.
الروافض لا يختَّصوا بالشيعة
جاءت بعض النصوص تنعت الروافض بأنَّهم فرقة من الشيعة ومن تلك النصوص المزعومة ما جاء في کتاب تاج العروس للزبيدي: «والروافض كل جند تركوا قائدهم والرافضة فرقة منهم، والرافضة أيضاً فرقة من الشيعة قال الأصمعي سمُّوا بذلك لأنهم بايعوا زيد بن علي ثمَّ قالوا له تبرأ من الشيخين فأبى وقال: لا، كانا وزيري جدي فتركوه ورفضوه([29]).
و الحقّ أنّ الرافضة كلمة سياسية نشأت أيام الأمويين و كانت تستعمل قبل أن يولد زيد بن علي ومن بايعه من أهل الكوفة، فالكلمة تطلق على كلّ جماعة لم تقبل الحكومة القائمة، سواء أكانت حقاً أو باطلًا. وهي ليست من خصائص الشيعة، بل هي لغة عامة تستعمل في كلّ جماعة غير خاضعة للحكومة القائمة، وبما أنّ الشيعة منذ تكوِّنها لم تخضع للحكومات القائمة بعد رسول اللَّه(ص)، وتعتبرها غير شرعية فكانت رافضة لها حسب الاصطلاح المذکور، وأمَّا إذا کان مجرَّد حبّ أهل البيت يساوي عندهم رفض الشيخين فکلُّ من يدعي حبَّهم من المسلمين هو رافضي ولا يختَّص هذا اللقب بالشيعة، ولذا نجد الإِمام الشافعي يقول في أبياته الشهيرة:
يا راكباً قف بالمحصَّبِ مِن منى واهتف بقاعدِ جمعِها والناهضِ
سَحَراً إذا فاض الحجيج إلى مِنى فَيضاً كملتطَم الفُراتِ الفائضِ
أعلمتمُ أنَّ التشيعَ مذهبي إنّي أقولُ به ولستُ بناقضِ
إن كان رفضاً حبَّ آل محمدٍ فليشهدُ الثَّقلان أنّي رافضي([30]).
إنّ تعبير الإِمام الشافعي: إن كان رفضاً حبّ آل محمد يدلُّ على أنّ هناك إرادة لسحب لقب الرافضي على كل شيعي مبالغة في التشهير بالشيعة وشحن المشاعر ضدَّهم، ومما يدلُّ على أنّها تتماشى مع تخطيط شامل من قبل الاُمويين ويستهدف محاصرة التشيع، وأمثال هذه النعوت كثيرة ومنها رمي التشيع بالسبئية أو بالفارسية أو بالشعوبية، کما سيأتي الحديث والبحث حول هذه المواضيع في الدروس القادمة إنشاء الله .
الشيخ أيوب الحائري
الهوامش:
([1]) راجع القاموس المحيط وكتاب المنجدفي اللغة: مادة شاع.
([2]) الصافات: 83.
([3]) القصص:15.
([4]) اللهوف : 119.
([5]) الملل والنحل :107. للمتكلّم الأشعري أبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني ، (المتوفّى سنة 548 هـ) .
([6]) الفرق والمقالات للنوبختي ، باب تعريف الشيعة.
([7]) شرح اللمعة 2: 228.
([8]) دائرة المعارف 5 :424.
([9]) الوصية للمسعودي: 121 .
([10]) تاريخ اليعقوبي: 2: 104.
([11]) تاريخ ابن خلدون: 3: 364.
([12]) فجر الإِسلام : 266.
([13]) العقيدة والشريعة :174.
([14]) الخوارج والشيعة: 146.
([15]) فرق الشيعة : 16.
([16]) الفهرست لابن النديم : 175.
([17]) راجع تاريخ الإمامية :37.
([18]) البينة: 7.
([19]) البينة: 7.
([20]) الدر المنثور 6 :376.
([21]) روضان الجنات للخونساري :88.
([22]) الشعراء: 124.
([23]) تاريخ الطبري2 :216، وتاريخ ابن الأثير2 : 28.
([24]) المائدة: الآية 67. وقد ذكر الرازي في سبب نزول الآية عشرة وجوه ومنها أنّها نزلت في عليٍّ A ( تفسير الرازي 3: 431) .
([25]) المائدة: 3.
([26]) المستدرك للحاكم 3: 533.ومجمع الزوائد 9: 106.وللتفصيل راجع المجلَّد الأول من موسوعة الغدير، للعلامة الأميني H .وأوآخر المجلد3 من موسوعة التاريخ الإسلامي .
([27]) الصواعق المحرقة الباب الثاني ، الفصل التاسع.
([28]) فرق الشيعة :15
([29]) تاج العروس5: 35.
([30]) البيت الأخير من هذه الأبيات ذكره الزبيدي في تاج العروس في مادة رفض وباقيها في ترجمة الشافعي بمختلف الكتب راجع ( تاج العروس5: 35).