وهذا المذهب منسوب إلى داود بن علي الاصفهاني الظاهري (200-270 هـ) .
وقد أسّس مذهباً في الفروع، فالمصدر الأصلي في الفقه عنده هو النصوص بلا رأي في حكم من أحكام الشرع، فهم يأخذون بالنصوص وحدها، فإذا لم يكن بالنص أخذوا بالإباحة الأصلية .
ما هو السبب لظهور هذا المذهب ؟
إنّ إقصاء العقل عن ساحة العقائد يستلزم طرده عن ساحة الفقه بوجه أولى، لأنّ أساسه هو التعبد بالنصوص، وعدم الإفتاء بشيء لا يوجد له أصل في الكتاب والسنّة، لكن الجمود على حرفية النصوص شيء والتعبّد بالنصوص وعدم الإفتاء في مورد لا يوجد فيه أصل ودلالة في المصدرين الرئيسيّين شيء آخر، فالظاهرية على الأوّل، والفقهاء على الثاني، ولأجل إيضاح الحال نأتي بمثالين:
1-ان الشكّل الأوّل من الأشكال الأربعة ضروري الإنتاج من غير فرق بين الأُمور التكوينية أو الأحكام الشرعية، فكما أنّ الحكم بحدوث العالم نتيجة حتمية لقولنا: العالم متغير وكل متغير حادث، فهكذا الحكم بحرمة كل مسكر، نتيجة قطعية لقولنا: الفقاع مسكر، وكل مسكر حرام، فالفقاع حرام; لكنّ الظاهري يقبل المقدّمتين، ولكن لا يفتي بالنتيجة بحجة انّها غير مذكورة في النصوص.
2-ما يسمّيه الفقهاء بلحن الخطاب وإن كان شيئاً غير مذكور في نفس الخطاب، لكنّه من اللوازم البيّنة له، بحيث يتبادر إلى الذهن من سماعه، فإذا خاطبنا سبحانه بقوله: ( فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفّ ) ( [1]) يتوجه الذهن إلى حرمة ضربهما وشتمهما بطريق أولى، ولكن الفقيه الظاهري يأبى عن الأخذ به بحجة كونه غير منصوص.
قال سبحانه: ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَ إِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ ) ( [2]) .
فالموضوع للحكم «مغفرة ما سلف عند الانتهاء» وإن كان هو الكافر، لكن الذهن السليم يتبادر إلى فهم شيء آخر لازم لهذا الحكم بالضرورة، وهو تعميم الحكم إلى المسلم أيضاً بوجه آكد، ولكنّ الظاهري يتركه بحجة أنّه غير مذكور في النص . وهذا النوع من الجمود يجعل النصوص غير كافلة لاستخراج الفروع الكثيرة، وتصبح الشريعة ناقصة من حيث التشريع والتقنين، وغير صالحة لجميع الأجيال والعصور، وفاقدة للمرونة اللازمة الّتي عليها أساس خاتمية نبوة نبيناً محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وكتابه وسنّته.
ثم إنّ الاكتفاء بظاهر الشريعة وأخذ الأحكام من ظواهر النصوص
له تفسيران أحدهما صحيـح جداً، والآخـر باطل، فإن أُريد منه نفي الظنون الّتي
لم يدلّ على صحة الاحتجاج بها دليل، فهو نفس نص الكتاب العزيز،
قال سبحانه: ( قُلْ ءَأللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ ) ( [3]) ، فالشيعة الإمامية
بفضل النصوص الوافرة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) المتّصلة اسنادها إلى الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) استطاعت أن تستخرج أحكام الحوادث والموضوعات الكثيرة منها، وامتنعت عن العمل بالقياس والاستحسان وغيرهما من الأدلّة الظنية
الّتي لم يقم الدليل القطعي على صحّة الاحتجاج بها، بل قام الدليل على حرمة العمل على بعضها كالقياس، وقد ورد في نصوص أئمتهم (عليهم السلام) : «إنّ السنّة إذا قيست محق الدين»( [4]).
وإن أُريد بها لوازم الخطاب، أي ما يكون في نظر العقلاء كالمذكور أخذاً بقولهم: «الكتابة أبلغ من التصريح» ويكون التفكيك بينهما أمراً غير صحيح، فليس ذلك عملاً بغير المنصوص. نعم ليس عملاً بالظاهر الحرفي، ولكنّه عمل بها بما يفهمه المخاطبون بها.
أُفول نجمه:
إنّ هذا المذهب لأجل حرفيته قد أفل نجمه بسرعة.
نعم قد تبعه فقيه آخر باسم ابن حزم (384-458 هـ) وأعاد هذا المذهب إلى الساحة وألّف حوله كتباً ورسائل، وخدمه بالتآليف التالية:
1-الإحكام في أُصول الأحكام: بيّن فيه أُصول المذهب الظاهري .
2-النبذ: وهو خلاصة ذلك الكتاب.
3-المحلى: وهو كتاب كبير انتشر في عشرة أجزاء، جمع أحاديث الأحكام وفقه علماء الأمصار، طبع في بيروت بتحقيق أحمد محمد شاكر، وله آراء شاذة ـ كبطلان الاجتهاد في استخراج الأحكام الفقهية، وجواز مس المصحف للمجنب، وقاتل الإمام علي كان مجتهداً ـ ذكرناها في موسوعتنا .( [5])
وقد ذكرنا هذا المذهب مع أنّه فقهي لأجل اشتراكه مع ما سبق في الرجعية وإقصاء العقل عن ساحة الاجتهاد الفقهي.
[1] . الإسراء: 23 .
[2] . الأنفال: 38 .
[3] . يونس: 59 .
[4] . الوسائل: 18، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10 .
[5] . بحوث في الملل والنحل: 3 / 141- 146 .