نشأة الإمام الرضا (ع)
انحدر الإمام عليّ بن موسى الرضا (ع) من سلالة طاهرة مطهّرة، ارتقت سلّم المجد والكمال، وكان أبناؤها قمة في جميع مقومات الشخصية الإنسانية; في الفكر والعاطفة والسلوك، فهم نجوم متألّقة في المسيرة الإنسانية، والقدوة الشامخة في تاريخ الإسلام، استسلموا لله واقتدوا برسول الله(ص) وكانوا عِدلاً للقرآن الكريم .
أبوه الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع) الوارث لجميع الخصال والمآثر الحميدة لأبيه جعفر الصادق(ع) كما وصفه ابن حجر الهيتمي قائلاً : «وارثه علماً ومعرفة وكمالاً وفضلاً، سمّي الكاظم لكثرة تجاوزه وحلمه، وكان معروفاً عند أهل العراق بباب قضاء الحوائج عند الله، وكان أعبد أهل زمانه وأعلمهم وأسخاهم»(1).
واُمّه أم ولد سمّيت بأسماء عديدة منها : نجمة، وأروى، وسكن، وسمان، وتكتم، وهو آخر أساميها(2)، ولما ولدت الرضا (ع) سمّاها الإمام الكاظم(ع) بالطاهرة(3).
ولد (ع) في مدينة رسول الله (ص) سنة (148 هـ )(4)، وقيل سنة (151 هـ ) وقيل : (153 هـ )(5)، والقول الأوّل هو الأشهر(6) .
وحينما ولد هنّأ أبوه اُمَّه قائلاً لها : «هنيئاً لكِ يا نجمة كرامة ربّكِ»، فناولته إياه في خرقة بيضاء، فأذَّن في اُذنه اليمنى وأقام في اليسرى، ودعا بماء الفرات فحنّكه به، ثم ردّه إليها وقال :«خذيه، فإنّه بقية الله تعالى في أرضه»(7)، وسمّاه باسم جدّه أمير المؤمنين (ع).
وقد لقّب بألقاب كريمة أشهرها: الرضا، الصابر، الزكي، الوفي، سراج الله، قرة عين المؤمنين، مكيدة الملحدين، الصدّيق ، والفاضل(8).
وأشهر كناه : أبو الحسن. وللتمييز بين الإمام الكاظم (ع) والرضا (ع) يقال للأب: أبو الحسن الماضي، وللأبن : أبو الحسن الثاني(9) .
ولد (ع) بعد ستة عشر عاماً من سقوط الدولة الاُموية وتأسيس الدولة العبّاسية، في ظروف اتّسع فيها الولاء لأهل البيت ((عليهم السلام)) وتجذرت مفاهيمهم في عقول الأغلبية العظمى من المسلمين، وكان التعاطف معهم قائماً على قدم وساق ، وذلك واضح من حوار هارون العبّاسي مع الإمام الكاظم (ع) حيث قال له : أنت الذي تبايعك الناس سرّاً؟، فأجاب (ع) : «أنا إمام القلوب وأنت إمام الجسوم»(10).
وكانت الأنظار متوجّهة الى الوليد الجديد الذي سيكون له شأن في المسيرة الإسلامية; لترعرعه في أحضان العلم والفضائل والمكارم.
وكان الرضا (ع) كثير الرضاع، تام الخَلق، فقالت اُمّه : أعينوني بمرضع، فقيل لها : أنقص الدرّ؟! فقالت : ما أكذب، والله ما نقص الدرّ، ولكن عليّ ورد من صلواتي وتسبيحي، وقد نقص منذ ولدت(11).
وفي ظلّ المكارم والمآثر ترعرع الإمام الرضا (ع)، وتجسّدت فيه جميع القيم الصالحة بعد أن نهلها من المعين الزاخر بالتقوى والإخلاص والسيرة الصالحة مقتدياً بأبيه الكاظم للغيظ وأجداده العظام، وكان الإمام الكاظم (ع) يحيطه برعاية فائقة وعناية خاصّة .
فعن المفضّل بن عمر قال : «دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر(ع)، وعليّ ابنه في حجره، وهو يقبّله ويمصّ لسانه ويضعه على عاتقه ويضمه إليه، ويقول : بأبي أنت وأُمي ما أطيب ريحك وأطهر خلقك وأبين فضلك! قلت : جعلت فداك لقد وقع في قلبي لهذا الغلام من المودّة ما لم يقع لأحد إلاّ لك، فقال (ع) : يا مفضل هو منّي بمنزلتي من أبي (ع) ذريةٌ بعضها من بعض والله سميع عليم، قال: قلت : هو صاحب هذا الأمر من بعدك ؟ قال :نعم»(12).
وكان الإمام الكاظم (ع) يحيط ابنه الرضا (ع) بالمحبة والتقدير والتكريم ويخاطبه بلقبه وكنيته، فعن سليمان بن حفص المروزي قال : «كان موسى بن جعفر بن محمّد ... يسمّي ولده عليّاً(ع): الرضا، وكان يقول : «اُدعوا إليَّ ولدي الرضا، وقلت لولدي الرضا، وقال لي ولدي الرضا، وإذا خاطبه قال له : يا أبا الحسن»(13).
وكان يلهج بذكره ويثني عليه ويذكر فضله ليوجّه الأنظار إلى دوره الرائد في المستقبل القريب وكان يبتدئ بالثناء على ابنه عليّ ويطريه، ويذكر من فضله وبرّه ما لايذكر من غيره، كأنه يريد أن يدلّ عليه(14).
انطباعات عن شخصيّة الإمام الرضا (ع)
إنّ شخصيّة الإمام أبي محمّد الرضا (ع) قد احتلت عواطف العلماء والمؤلّفين في كلّ جيل وعصر، وتمثّل ذلك في جمل الثناء والتعظيم على شخصيّته، وإليك بعض ما ورد من الثناء عليه :
الإمام الكاظم (ع) :
لقد أشاد الإمام الكاظم (ع) بولده الإمام الرضا ، وقدّمه على السادة الأجلاّء من أبنائه ، وأوصاهم بخدمته ، والرجوع إليه في اُمور دينهم، فقال لهم:
«هذا أخوكم عليّ بن موسى عالم آل محمّد (ص)، فاسألوه عن أديانكم، واحفظوا ما يقول لكم، فإنّي سمعت أبي جعفر بن محمّد (ع) غير مرّة يقول لي : إنّ عالم آل محمّد(ص) لفي صلبك، وليتني أدركته فإنّه سميُّ أمير المؤمنين...»(15).
المأمون :
وأعلن المأمون العبّاسي فضل الإمام الرضا(ع) في كثير من المناسبات:
1 ـ قال المأمون للفضل بن سهل وأخيه : «ما أعلم أحداً أفضل من هذا الرجل ـ يعني الإمام عليّ بن موسى ـ على وجه الأرض»(16).
2 ـ أشاد المأمون بالإمام الرضا (ع) أيضاً في رسالته التي بعثها للعبّاسيين الذين نقموا عليه بولاية العهد للإمام (ع) قائلاً :«ما بايع له المأمون ـ أي للإمام الرضا ـ إلاّ مستبصراً في أمره عالماً بأنّه لم يبق أحد على ظهرها ـ أي على ظهر الأرض ـ أبين فضلاً، ولا أظهر عفّة، ولا أورع ورعاً، ولا أزهد زهداً في الدنيا، و لا أطلق نفساً، ولا أرضى في الخاصّة والعامّة، ولا أشدّ في ذات الله منه، وأنّ البيعة له لمُوافقة رضى الربّ»(17).
قال أبو الصلت عبدالسلام الهروي ، وهو من أعلام عصره:
«ما رأيت أعلم من عليّ بن موسى الرضا، ولا رآه عالم إلاّ شهد له بمثل شهادتي، ولقد جمع المأمون في مجالس له ذوات عدد، علماء الأديان، وفقهاء الشريعة والمتكلمين فغلبهم عن آخرهم، حتى ما بقي منهم أحد إلاّ أقرّ له بالفضل وأقرَّ على نفسه بالقصور...»(18) .
وقال زعيم الشيعة الشيخ محمّد بن محمّد النعمان العكبري البغدادي الملَقَّب بالشيخ المفيد :
«وكان الإمام بعد أبي الحسن موسى بن جعفر((عليهما السلام)) ابنه أبا الحسن عليّ بن موسى الرضا((عليهما السلام)) لفضله على جماعة اخوته، وأهل بيته، وظهور علمه وحلمه وورعه واجتهاده، واجتماع الخاصّة والعامّة على ذلك فيه، ومعرفتهم به منه»(19).
وقال جمال الدين أحمد بن عليّ النسّابة، المعروف بابن عنبة، عند ذكره عقب الإمام الرضا: «ويكنى أبا الحسن ولم يكن في الطالبيّين في عصره مثله، بايع له المأمون بولاية العهد، وضرب اسمه على الدراهم والدنانير، وخطب له على المنابر»(20).
وقال جمال الدين، أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي : «الإمام أبو الحسن الهاشمي العلوي، الحسيني، كان إماماً عالماً... وكان عليّ هذا سيّد بني هاشم في زمانه، وأجلّهم، وكان المأمون يعظّمه ويبجّله ويخضع له، ويتغالى فيه، حتى جعله وليّ عهده ..»(21).
وقال صفي الدين الخزرجي: «كان ـ أي الإمام الرضا ـ سيّد بني هاشم، وكان المأمون يعظّمه، ويجلّه، وعهد له بالخلافة، وأخذ له العهد ..»(22) .
قال ابن حجر : «قال ابن السمعاني: كان الرضا من أهل العلم والفضل مع شرف النسب..»(23).
قال اليافعي : «الإمام الجليل المعظَّم، سلالة السادة الأكارم: أبو الحسن عليّ بن موسى الكاظم... أحد الأئمة الاثني عشر، أولي المناقب الذين انتسبت الإمامية إليهم، وقصروا بناء مذهبهم عليه..»(24).
والذهبي الذي عرف بالبغض والعداء لأهل البيت((عليهم السلام)) لم يسعه إلاّ الاعتراف بفضل الإمام الرضا (ع)، بقوله:
«الإمام أبو الحسن بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر ابن عليّ زين العابدين بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب الهاشمي العلوي .. وكان سيّد بني هاشم في زمانه، وأجلّهم، وأنبلهم، وكان المأمون يعظّمه ، ويخضع له ويتغالى فيه، حتى أنّه جعله ولي عهده..»(25).
قال الشبراوي: «كان رضي الله عنه كريماً جليلاً، مهاباً موقّراً وكان أبوه موسى الكاظم (ع) يحبّه حبّاً شديداً»(26).
مدحه أبو نؤاس ـ الشاعر المشهور ـ الذي كان قد ترك مدحه إعظاماً له، وقد أجاد فيما قال، حين عوتب على عدم مدحه الإمام الرضا(ع) بعد توليته لولاية العهد فقال مجيباً:
قيل لي أنت أوحد الناس طرّاً *** في فنون من الكلام النبيه
لك من جوهر الكلام بديع *** يثمر الدر في يدي مجتنيه
فعلى ما تركت مدح ابن موسى *** والخصال التي تجمّعن فيه
قلت : لا اهتدي لمدح إمام *** كان جبريل خادماً لأبيه(27)
وخرج الإمام الرضا(ع) يوماً على بغلة، فدنا منه أبو نؤاس، وسلّم عليه وقال له : «ياابن رسول الله! قد قلت فيك أبياتاً وأحب أن تسمعها مني».
فقال له : «هات». فانبرى أبو نؤاس قائلاً :
مطهّرون نقيّات ثيابهم *** تجري الصلاة عليهم كلّما ذكروا
من لم يكن علويّاً حين تنسبه *** فما له في قديم الدهر مفتخر
فأنتم الملأ الأعلى وعندكم *** علم الكتاب وماجاءت به السور(28)
وأعجب الإمام (ع) بهذه الأبيات فقال لأبي نؤاس :
«قد جئتنا بأبيات ما سبقك إليها أحد ..».
ثم التفت الى غلامه فقال له : هل معك من نفقتنا شيء؟ فقال له: ثلاثمائة دينار، فقال : أعطها إيّاه. فلما ذهب الى بيته ، قال لغلامه : لعلّه استقلّها، يا غلام سق إليه البغلة(29).
وهام دعبل الخزاعي في الإمام الرضا(ع)، وكان مما قاله فيه :
لقد رحل ابن موسى بالمعالي *** وسار بيسره العلم الشريف
وتابعه الهدى والدين كلاًّ *** كما يتتبع الالف الأليف(30)
مظاهر من شخصيّة الإمام الرضا (ع)
لقد كانت شخصيّة الإمام الرضا (ع) ملتقى للفضائل بجميع أبعادها وصورها، فلم تبق صفة شريفة يسمو بها الإنسان إلاّ وهي من نزعاته، فقد وهبه الله كما وهب آباءه العظام وزيّنه بكل مكرمة، وحباه بكل شرف وجعله علماً لاُمّة جدّه، يهتدي به الحائر، ويسترشد به الضال، وتستنير به العقول.
إنّ مكارم أخلاق الإمام الرضا(ع) نفحة من مكارم أخلاق جده الرسول الأعظم (ص) الذي امتاز على سائر النبيّين بهذه الكمالات، فقد استطاع(ص) بسمو أخلاقه أن يطور حياة الإنسان، وينقذه من أحلام الجاهلية الرعناء، وقد حمل الإمام الرضا(ع) أخلاق جدّه، وهذا إبراهيم بن العبّاس يقول عن مكارم أخلاقه:
«ما رأيت ولا سمعت بأحد أفضل من أبي الحسن الرضا(ع)، وشاهدت منه ما لم أشاهده من أحد، وما رأيته جفا أحداً بكلامه قط، ولا رأيته قطع على أحد كلامه حتى يفرغ منه، وما ردّ أحداً عن حاجة يقدر عليها، ولا مدّ رجليه بين يدي جليس له قط، ولا اتكأ بين يدي جليس له قط، ولا رأيته يشتم أحداً من مواليه ومماليكه، وما رأيته تفل قط، ولا رأيته يقهقه في ضحكه، بل كان ضحكه التبسّم، وكان إذا خلا ونصبت مائدته أجلس على مائدته مماليكه ومواليه حتى البوّاب والسائس، وكان قليل النوم بالليل كثير السهر، يحيي أكثر لياليه من أوّلها الى الصبح، وكان كثير الصوم، ولا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر، ويقول: «ذلك صوم الدهر» وكان كثير المعروف والصدقة في السرّ، وأكثر ذلك يكون في الليالي المظلمة، فمن زعم أنّه رأى مثله في فضله فلا تصدّقوه»(31) .
ومن معالي أخلاقه أنّه مع تقلّده ولاية العهد التي هي أرقى منصب في الدولة الإسلاميّة إلاّ أنّه لم يأمر أحداً من مواليه وخدمه في الكثير من شؤونه وإنّما كان يقوم بذاته في خدمة نفسه، حتى قيل : إنه احتاج الى الحمّام فكره أن يأمر أحداً بتهيئته له، ومضى إلى حمّام في البلد لم يكن صاحبه يظن أنّ ولي العهد يأتي الى الحمّام في السوق فيغسل فيه، وإنما حمامات الملوك في قصورهم .
ولما دخل الإمام الحمّام كان فيه جندي، فأزال الإمام عن موضعه، وأمره أن يصب الماء على رأسه، ففعل الإمام ذلك، ودخل الحمّام رجل كان يعرف الإمام فصاح بالجندي هلكت، أتستخدم ابن بنت رسول الله(ص)؟! فذعر الجندي، ووقع على الإمام يقبل أقدامه، ويقول له متضرّعاً :
«هلاّ عصيتني إذ أمرتك؟».
فتبسّم الإمام في وجهه وقال له ، برفق ولطف : «إنّها لمثوبة، وما أردت أن أعصيك فيما اُثاب عليه»(32).
ومن سموّ أخلاقه أنّه إذا جلس على مائدة أجلس عليها مماليكه حتى السائس والبوّاب وقد أعطى بذلك درساً لهم، لقاء التمايز بين الناس، وأنهم جميعاً على صعيد واحد، ويقول إبراهيم بن العبّاس : سمعت عليّ بن موسى الرضا(ع) يقول : «حلفت بالعتق، ألا أحلف بالعتق إلاّ أعتقت رقبة، وأعتقت بعدها جميع ما أملك، إن كان يرى أنه خير من هذا ـ وأومأ الى عبد أسود من غلمانه ـ بقرابتي من رسول الله(ص)، إلاّ أن يكون له عمل صالح فأكون أفضل به منه»(33).
وقال له رجل : والله ما على وجه الأرض أشرف منك أباً .
فقال (ع) : «التقوى شرفهم، وطاعة الله أحظتهم» .
وقال له شخص آخر : أنت والله خير الناس ...
فردّ عليه قائلاً: «لا تحلف يا هذا! خير مني من كان أتقى لله تعالى، وأطوع له، والله ما نسخت هذه الآية (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)(34)»(35).
زهده :
ومن صفات الإمام الرضا (ع) الزهد في الدنيا، والاعراض عن مباهجها وزينتها، وقد تحدث عن زهده محمّد بن عباد حيث قال : كان جلوس الرضا في الصيف على حصير، وفي الشتاء على مسح(36)، ولبسه الغليظ من الثياب حتى إذا برز للناس تزيّن لهم(37).
والتقى به سفيان الثوري ـ وكان الإمام قد لبس ثوباً من خز ـ فأنكر عليه ذلك وقال له : لو لبست ثوباً أدنى من هذا. فأخذ الإمام (ع) يده برفق، وأدخلها في كُمّه فإذا تحت ذلك الثوب مسح، ثم قال له :
«يا سفيان! الخزّ للخلق، والمسح للحقّ»(38).
وحينما تقلّد ولاية العهد لم يحفل بأي مظهر من مظاهر السلطة، ولم يقم لها أي وزن، ولم يرغب في أي موكب رسمي، حتى لقد كره مظاهر العظمة التي كان يقيمها الناس لملوكهم .
سخاؤه :
ولم يكن شيء في الدنيا أحبّ الى الإمام الرضا(ع) من الإحسان الى الناس والبر بالفقراء. وقد ذكرت بوادر كثيرة من جوده وإحسانه، وكان منها ما يلي :
1 ـ أنفق جميع ما عنده على الفقراء، حينما كان في خراسان، وذلك في يوم عرفة فأنكر عليه الفضل بن سهل، وقال له : إنّ هذا لمغرم ...
فأجابه الإمام(ع): «بل هو المغنم لا تعدّنّ مغرماً ما ابتغيت به أجراً وكرماً»(39).
إنّه ليس من المغرم في شيء صلة الفقراء والإحسان الى الضعفاء ابتغاء مرضاة الله تعالى، وإنّما المغرم هو الإنفاق بغير وجه مشروع كإنفاق الملوك والوزراء الأموال الطائلة على المغنّين والعابثين .
2 ـ وفد عليه رجل فسلّم عليه، وقال له : «رجل من محبيك ومحبي آبائك وأجدادك((عليهم السلام))، مصدري من الحجّ، وقد افتقدتُ نفقتي، وما معي ما أبلغ مرحلة، فإن رأيت أن تنهضني الى بلدي، ولله عليَّ نعمة فإذا بلغت بلدي تصدقت بالذي توليني عنك فلستُ موضع صدقة، فقال له : اجلس رحمك الله. وأقبل على الناس يحدّثهم حتى تفرّقوا، وبقي هو وسليمان الجعفري، وخيثمة وأنا»، فاستأذن الإمام منهم ودخل الدار وبقي ساعة ثم خرج وردّ الباب وأخرج من أعلى الباب صرّة، وقال : «أين الخراساني؟ فقال:ها أنا ذا، فقال(ع) : خُذ هذه المائتي دينار واستعن بها في مؤونتك ونفقتك، ولا تصدّق بها عني». وانصرف الرجل مسروراً قد غمرته نعمة الإمام. والتفت إليه سليمان فقال له: جعلت فداك لقد أجزلت ورحمت، فلماذا سترت وجهك عنه؟»
فأجابه الإمام (ع) : «مخافة أن أرى ذل السؤال في وجهه لقضائي حاجته، أما سمعت حديث رسول الله(ص) : المستتر بالحسنة يعدل سبعين حجّة، والمذيع بالسيئة مخذول ... أما سمعت قول الأوّل:
متى آته يوما لأطلب حاجة *** رجعت الى أهليووجهي بمائه»(40)
3 ـ وكان إذا أكل أتي بصحفة فتوضع بقرب مائدته فيعمد إلى أطيب الطعام ممّا يؤتى به، فيأخذ من كل شيء شيئاً فيضع في تلك الصحفة ثم يأمر بها الى المساكين، ويتلو قوله تعالى: (فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ)(41)ثم يقول : «علم الله عزّ وجلّ أنه ليس كل إنسان يقدر على عتق رقبة فجعل لهم السبيل الى الجنّة»(42).
4 ـ وروي: أن فقيراً قال له : «أعطني على قدر مروّتك».
فأجابه الإمام(ع) : «لا يسعني ذلك» .
والتفت الفقير الى خطأ كلامه فقال ثانياً : «على قدر مروّتي».
وهنا قابله الإمام(ع) ببسمات فيّاضة بالبشر قائلاً له: «اذن فنعم» .
ثم قال: «يا غلام! أعطه مائتي دينار»(43).
5 ـ ومن معالي كرمه ما رواه أحمد بن عبيدالله عن الغفاري، قائلاً: «كان لرجل من آل أبي رافع ـ مولى النبيّ(ص) ـ يقال له: طيس، عليَّ حقّ فتقاضاني، وألحَّ عليَّ، وأعانه الناس، فلما رأيت ذلك صليت الصبح في مسجد الرسول(ص) ثم توجهت نحو الرضا (ع) وهو يومئذ بالعريض، فلما قربت من بابه إذا هو قد طلع على حمار، وعليه قميص ورداء فلما نظرت إليه، استحييت منه، فلمّا لحقني وقف ونظر إليّ، فسلمت عليه ـ وكان شهر رمضان ـ فقلت: جعلني الله فداك، إنّ لمولاك طيس عليّ حقّاً وقد والله شهرني، وأنا أظنّ في نفسي أنّه يأمره بالكف عنّي، ووالله، ما قلت له كم له عليّ، ولا سميت له شيئاً. فأمرني بالجلوس إلى رجوعه، فلم أزل حتى صلّيت المغرب، وأنا صائم فضاق صدري وأردت أن أنصرف، فإذا هو قد طلع عليَّ وحوله الناس، وقد قعد له السؤال وهو يتصدق عليهم، فمضى ودخل بيته، ثم خرج ودعاني فقمت إليه ودخلت معه فجلس وجلست فجعلت أحدّثه عن ابن المسيّب، وكان أمير المدينة وكان كثيراً ما أحدّثه عنه فلما فرغت قال: لا أظنّك أفطرت بعد، فقلت : لا ، فدعا لي بطعام ووضع بين يديّ، وأمر الغلام أن يأكل معي فأصبت والغلام من الطعام، فلمّا فرغنا قال لي: ارفع الوسادة وخذ ما تحتها، فرفعتها، وإذا دنانير فأخذتها ووضعتها في كُمّي، وأمر أربعة من عبيده أن يكونوا معي حتى يبلغوني منزلي... ، فصرت الى منزلي ودعوت بالسراج ونظرت الى الدنانير، وإذا هي ثمانية وأربعون ديناراً، وكان حقّ الرجل عليّ ثمانية وعشرين ديناراً، وكان فيها دينار يلوح فأعجبني حسنه فأخذته وقربته من السراج فإذا عليه نقش واضح: حقّ الرجل ثمانية وعشرون ديناراً وما بقي فهو لك»(44).
تكريمه للضيوف : كان (ع) يكرم الضيوف، ويغدق عليهم بنعمه وإحسانه وكان يبادر بنفسه لخدمتهم، وقد استضافه شخص، وكان الإمام يحدّثه في بعض الليل فتغيّر السراج فبادر الضيف لإصلاحه فوثب الإمام، وأصلحه بنفسه، وقال لضيفه : «إنّا قوم لا نستخدم أضيافنا»(45).
عتقه للعبيد : ومن أحب الاُمور الى الإمام الرضا(ع) عتقه للعبيد، وتحريرهم من العبودية، ويقول الرواة : إنّه أعتق ألف مملوك(46).
إحسانه الى العبيد :
وكان الإمام (ع) كثير البر والإحسان الى العبيد، وقد روى عبدالله بن الصلت عن رجل من أهل (بلخ)، قال : كنت مع الإمام الرضا(ع) في سفره الى خراسان فدعا يوماً بمائدة له فجمع عليها مواليه، من السودان وغيرهم، فقلت : جعلت فداك لو عزلت لهؤلاء مائدة، فأنكر عليه ذلك وقال له :
«مه أنّ الربّ تبارك وتعالى واحد، والاُم واحدة، والأب واحد والجزاء بالأعمال...»(47).
إنّ سيرة أئمة أهل البيت((عليهم السلام)) كانت تهدف الى الغاء التمايز العرقي بين الناس، وأنهم جميعاً في معبد واحد لا يفضل بعضهم على بعض إلاّ بالتقوى والعمل الصالح .
علمه :
والشيء البارز في شخصية الإمام الرضا (ع) هو إحاطته التامة بجميع أنواع العلوم والمعارف، فقد كان بإجماع المؤرخين والرواة أعلم أهل زمانه، وأفضلهم وأدراهم باحكام الدين، وعلوم الفلسفة والطب وغيرها من سائر العلوم، وقد تحدّث عبدالسلام الهروي عن سعة علومه، وكان مرافقاً له، يقول:
«ما رأيت أعلم من عليّ بن موسى الرضا، ولا رآه عالم إلاّ شهد له بمثل شهادتي، ولقد جمع المأمون في مجالس له ذوات عدد، علماء الأديان، وفقهاء الشريعة والمتكلمين، فغلبهم عن آخرهم حتى ما بقي منهم أحد إلاّ أقرّ له بالفضل، واقرّ له على نفسه بالقصور، ولقد سمعت عليّ بن موسى الرضا((عليهما السلام)) يقول : كنت أجلس في الروضة والعلماء بالمدينة متوافرون فإذا أعيا الواحد منهم عن مسألة أشاروا إليّ بأجمعهم، وبعثوا اليّ بالمسائل فاُجيب عنها»(48).
لقد كان الإمام أعلم أهل زمانه، كما كان المرجع الأعلى في العالم الإسلامي الذي يرجع إليه العلماء والفقهاء فيما خفي عليهم من أحكام الشريعة، والفروع الفقهيّة .
قال إبراهيم بن العبّاس : «ما رأيت الرضا يسأل عن شيء قط إلاّ علم، ولا رأيت أعلم منه بما كان في الزمان الأوّل، الى وقته وعصره، وكان المأمون يمتحنه بالسؤال عن كل شيء فيجيب فيه...»(49).
قال المأمون : «ما أعلم أحداً أفضل من هذا الرجل ـ يعني الإمام الرضا ـ على وجه الأرض...»(50)
معرفته بجميع اللغات :
وظاهرة اُخرى من علومه هي : معرفته التامة، وإحاطته الشاملة بجميع اللغات، قال أبو إسماعيل السندي: «سمعت بالسند أن لله في العرب حجّة، فخرجت منها في الطلب، فدُلِلت على الرضا (ع) فقصدته فدخلت عليه وأنا لا اُحسن العربية كلمة، فسلّمت عليه بالسندية، فرد عليَّ بلغتي، فجعلت اُكلمه بالسندية، وهو يجيبني بالسندية فقلت له : إنّي سمعت بالسند أنّ لله حجّة في العرب، فخرجت في الطلب، فقال ـ بلغتي ـ(ع): نعم، أنا هو، ثم قال: فسل عمّا تريد فسألته عمّا أردته...»(51) .
وقد أكّد هذه الظاهرة الكثيرون ممن اتصلوا بالإمام، يقول أبو الصلت الهروي : كان الرضا (ع) يكلم الناس بلغاتهم، فقلت له في ذلك فقال :
«يا أبا الصلت أنا حجّة الله على خلقه، وما كان الله ليتخذ حجّة على قوم، وهو لا يعرف لغاتهم. أوَما بلغك قول أمير المؤمنين (ع): أوتينا فصل الخطاب، وهل هو إلاّ معرفته اللغات»(52).
وروى ياسر الخادم فقال : كان لأبي الحسن(ع) في البيت صقالبة، وروم، وكان أبو الحسن قريباً منهم فسمعهم بالليل يتراطنون بالصقلبية والرومية، ويقولون : إنّا كنّا نفصد كل سنة في بلادنا، ثمّ ليس نفصد ها هنا، فلمّا كان من الغد وجّه أبو الحسن إلى بعض الأطباء فقال له: افصد فلاناً عرق كذا، وافصد فلاناً عرق كذا(53).
الإمام(ع) والملاحم :
وأخبر الإمام الرضا (ع) عن كثير من الملاحم والأحداث قبل وقوعها، وتحققت بعد ذلك على الوجه الأكمل الذي أخبر به، وهي تؤكد ـ بصورة واضحة ـ أصالة ما تذهب إليه الشيعة من أنّ الله تعالى قد منح أئمة أهل البيت (ع) المزيد من الفضل والعلم، كما منح رسله، ومن بين ما أخبر به ما يلي :
1 ـ روى الحسين بن بشار فقال : «قال الرضا (ع) : إنّ عبدالله ـ يعني المأمون ـ يقتل محمّداً ـ يعني الأمين ـ فقلت له : عبدالله بن هارون يقتل محمّد بن هارون، قال لي: نعم، عبدالله الذي بخراسان يقتل محمّد بن زبيدة الذي هو ببغداد فقتله»(54)وكان يتمثل بهذا البيت :
وانّ الضغن بعد الضغن يفشو *** عليك، ويخرج الداء الدفينا(55)
ولم تمض الأيام حتى قتل المأمون أخاه الأمين .
2 ـ ومن بين الأحداث التي أخبر عنها : أ نّه لما خرج محمّد بن الإمام الصادق بمكة، ودعا الناس الى نفسه، وخلع بيعة المأمون، قصده الإمام الرضا، وقال له : يا عم لا تكذب أباك، ولا أخاك ـ يعني الإمام الكاظم(ع) ـ فإنّ هذا الأمر لا يتم، ثم خرج، ولم يلبث محمّد إلاّ قليلاً حتى لاحقته جيوش المأمون بقيادة الجلودي، فانهزم محمّد ومن معه، وطلب الأمان، فآمنه الجلودي، وصعد المنبر وخلع نفسه، وقال : إنّ هذا الأمر للمأمون وليس لي فيه حقّ(56).
3 ـ روى الحسين نجل الإمام موسى (ع) قال : «كنّا حول أبي الحسن الرضا (ع)، ونحن شبّان من بني هاشم إذ مرّ علينا جعفر بن عمر العلوي وهو رثّ الهيئة فنظر بعضنا الى بعض وضحكنا من هيئته، فقال الرضا : سترونه عن قريب كثير المال، كثير التبع، فما مضى إلاّ شهر ونحوه، حتى ولي المدينة وحسنت حاله»(57).
4 ـ روى محول السجستاني فقال : «لما ورد البريد باشخاص الرضا (ع) الى خراسان كنت أنا بالمدينة فدخل المسجد ليودع رسول الله (ص)، فودعه مراراً كل ذلك يرجع الى القبر، ويعلو صوته بالبكاء والنحيب، فتقدمت إليه، وسلمت عليه، فردّ السلام، وهنأته، فقال : ذرني فإني أخرج من جوار جدّي، وأموت في غربة، واُدفن في جنب هارون، قال : فخرجت متبعاً طريقه، حتى مات بطوس ودُفن إلى جنب هارون»(58).
وتحقق ما أخبر به فقد مضى الى خراسان، ولم يعد منها واغتاله المأمون العبّاسي، ودفن الى جانب هارون .
5 ـ روى صفوان بن يحيى قال : لما مضى أبو إبراهيم ـ يعني الإمام الكاظم(ع) ـ وتكلم أبو الحسن (ع) خفنا عليه من ذلك، فقيل له : إنّك قد أظهرت أمراً عظيماً، وأنّا نخاف عليك هذا الطاغية ـ يعني هارون ـ فقال(ع): «ليجهد جهده فلا سبيل له عليّ»(59).
وتحقق ذلك فإن هارون لم يتعرّض له بسوء، وقد اكّد الإمام هذا المعنى لبعض أصحابه، فقد روى محمّدبن سنان قال : قلت لأبي الحسن الرضا في أيام هارون: إنّك قد شهرت نفسك بهذا الأمر، وجلست مجلس أبيك، وسيف هارون يقطر الدم ـ أي من دماء أهل البيت وشيعتهم ـ فقال (ع) : «جرّأني على هذا ما قال رسول الله (ص) : إن أخذ أبو جهل من رأسي شعرة، فاشهدوا أني لست بنبي، وأنا أقول لكم : إنّ أخذ هارون من رأسي شعرة فاشهدوا أني لست بإمام»(60).
لقد أعلن (ع) غير مرّة أنّ هارون لا يعرض له بسوء، وأنه يدفن الى جانب هارون، فقد روى حمزة بن جعفر الأرجاني: خرج هارون من المسجد الحرام من باب، وخرج الرضا من باب فقال الرضا(ع) ـ وهو يعني هارون ـ : «ما أبعد الدار وأقرب اللقاء، يا طوس، يا طوس; ستجمعني وإيّاه»(61).
وأكّد الإمام دفنه بالقرب من هارون في كثير من الأحاديث فقد روى موسى بن هارون قال : رأيت عليّ بن موسى الرضا في مسجد المدينة، وهارون يخطب، فقال (ع) : «أتروني وإياه ندفن في بيت واحد»(62).
6 ـ ومن الأحداث التي أخبر عنها نكبة البرامكة، فقد روى مسافر أنه كان مع أبي الحسن عليّ الرضا، فمرّ يحيى بن خالد البرمكي، وهو مغط وجهه بمنديل من الغبار، فقال (ع) : «مساكين هؤلاء ما يدرون ما يحل بهم في هذه السنة».
وأضاف الإمام قائلاً : «وأعجب من هذا هارون وأنا كهاتين، وضمَّ إصبعيه».
قال مسافر : فوالله ما عرفت معنى حديثه حتّى دفنّاه معه(63).
7 ـ روى محمّد بن عيسى عن أبي حبيب النباجي فقال : رأيت رسول الله (ص) في المنام، قد وافى النباج (64) ونزل بها في المسجد الذي ينزله الحاج كلّ سنة وكأني مضيت إليه، وسلّمت عليه، ووقفت بين يديه، ووجدت عنده طبقاً من خوص نخل المدينة فيه تمر صيحاني، فكأنه قبض قبضة من ذلك التمر فناولني فعدّدته فكان ثمانية(65) عشرة تمرة، فتأولت أنّي أعيش بعدد كل تمرة سنة فلمّا كان بعد عشرين يوماً كنت في أرض تعمر بين يدي للزراعة حتى جاءني من أخبرني بقدوم أبي الحسن الرضا(ع) من المدينة ونزوله ذلك المسجد، ورأيت الناس يسعون إليه، فمضيت نحوه فإذا هو جالس في الموضع الذي كنت رأيت فيه النبيّ(ص) وتحته حصير مثل ما كان تحته، وبين يديه طبق خوص فيه تمر صيحاني، فسلمت عليه، فرد السلام عليَّ، واستدناني فناولني قبضة من ذلك التمر فعدّدته فإذا هو بعدد ما ناولني رسول الله (ص) فقلت له : زدني منه يابن رسول الله، فقال : «لو زادك رسول الله(ص) لزدناك»(66).
8 ـ روى بكر بن صالح قال : «قلتُ للرضا (ع): امرأتي أخت محمّد بن سنان بها حمل فادع الله أن يجعله ذكراً، قال : هما اثنان، قلت في نفسي: هما محمّد وعليّ، بعد انصرافي، فدعاني بعد، فقال: سمِّ واحداً عليّاً والأُخرى اُمّ عمر فقدمت الكوفة وقد ولد لي غلام وجارية في بطن، فسميت كما أمرني»(67).
عبادته وتقواه :
ومن أبرز ذاتيات الإمام الرضا (ع) انقطاعه الى الله تعالى، وتمسّكه به، وقد ظهر ذلك في عبادته، التي مثلت جانبا كبيراً من حياته الروحية التي هي نور، وتقوى وورع، يقول إبراهيم بن عبّاس في حديث: «... كان(ع) قليل النوم بالليل، كثير السهر، يحيي أكثر لياليه من أوّلها الى الصبح وكان كثير الصيام فلا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر...»(68).
ويقول الشبراوي عن عبادته إنه: كان صاحب وضوء وصلاة، ليله كلّه يتوضّأ ويصلّي، ويرقد ثم يقوم فيتوضأ، ويصلّي ويرقد هكذا الى الصباح(69).
لقد كان الإمام (ع) أتقى أهل زمانه، وأكثرهم طاعة لله تعالى. لنقرأ ما يرويه رجاء بن أبي الضحّاك عن عبادة الإمام، إذ كان المأمون قد بعثه الى الإمام ليأتي به الى خراسان، فكان معه في المدينة المنورة الى مرو يقول :
والله ما رأيت رجلاً كان اتقى لله منه، ولا أكثر ذكراً له في جميع أوقاته ولا أشدّ خوفاً لله عزّ وجلّ عنه وكان إذا أصبح صلّى الغداة فإذا سلّم جلس في مصلاه يسبح الله، ويحمده ويكبره، ويهلله، ويصلي على النبيّ(ص) حتى تطلع الشمس، ثم يسجد سجدة يبقى فيها حتى يتعالى النهار، ثم أقبل على الناس يحدثهم، ويعظهم الى قرب الزوال، ثم جدد وضوءه، وعاد الى مصلاه، فإذا زالت الشمس قام فصلّى ست ركعات يقرأ في الركعة الأُولى الحمد، وقل يا أيها الكافرون ، وفي الثانية الحمد وقل هو الله، ويقرأ في الأربع كلّ ركعة الحمد لله، وقل هو الله أحد، ويسلّم في كل ركعتين ويقنت فيهما في الثانية قبل الركوع وبعد القراءة، ثم يؤذّن ويصلّي ركعتين ثم يقيم، ويصلي الظهر، فاذا سلّم سبّح الله وحمّده، وكبّره، وهلّله ما شاء الله، ثم سجد سجدة الشكر، يقول فيها مائة مرة شكراً لله، فإذا رفع رأسه قام فصلى ست ركعات، يقرأ في كلّ ركعة الحمد، وقل هو الله أحد، ويسلم في كل ركعتين، ويقنت في ثانية كلّ ركعتين قبل الركوع وبعد القراءة، ثم يؤذن، ثم يصلي ركعتين ويقنت في الثانية، فإذا سلّم قام وصلى العصر، فإذا سلّم جلس في مصلاه يسبّح الله، ويحمّده، ويكبّره، ويهلّله ما شاء الله، ثم سجد سجدة يقول فيها مائة مرة: حمداً لله، فإذا غابت الشمس، توضأ وصلّى المغرب ثلاثاً بأذان وإقامة، وقنت في الثانية قبل الركوع وبعد القراءة، فإذا سلّم جلس في مصلاّه يسبّح الله ويحمّده، ويكبّره، ويهلّله ما شاء الله، ثم يسجد سجدة الشكر، ثم يرفع رأسه ولم يتكلم، حتى يقوم ويصلّي أربع ركعات بتسليمتين، ويقنت في كلّ ركعتين في الثانية قبل الركوع وبعد القراءة، وكان يقرأ في الاُولى من هذه الأربع الحمد وقل يا أيّها الكافرون، وفي الثانية الحمد وقل هو الله أحد ويقرأ في الركعتين الباقيتين الحمد وقل هو الله، ثم يجلس بعد التسليم في التعقيب ما شاء الله، ثم يفطر، ثم يلبث حتى يمضي من الليل قريب من الثلث، ثم يقوم فيصلي العشاء الآخرة أربع ركعات، ويقنت في الثانية قبل الركوع وبعد القراءة فإذا سلّم جلس في مصلاه يذكر الله عزّ وجلّ ويسبّحه ويحمّده ويكبّره ويهلّله ما شاء الله، ويسجد بعد التعقيب سجدة الشكر ثم يأوي الى فراشه .
فإذا كان الثلث الأخير من الليل قام من فراشه بالتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل والاستغفار، فاستاك ]استعمل السّواك[ ثم توضّأ ثم قام الى صلاة الليل، فيصلّي ثمان ركعات ويسلّم في كل ركعتين، يقرأ في الأولين منها في كلّ ركعة الحمد مرة وقل هو الله أحد ثلاثين مرة.
ثمّ يصلّي صلاة جعفر بن أبي طالب أربع ركعات يسلّم في كلّ ركعتين، ويقنت في كلّ ركعتين في الثانية قبل الركوع وبعد التسبيح، ويحتسب بها من صلاة الليل، ثم يقوم فيصلي الركعتين الباقيتين، يقرأ في الاُولى الحمد وسورة الملك، وفي الثانية الحمد لله وهل أتى على الإنسان، ثم يقوم فيصلّي ركعتي الشفع، يقرأ في كلّ ركعة منهما الحمدلله مرة وقل هو الله أحد ثلاث مرات، ويقنت في الثانية قبل الركوع وبعد القراءة، فإذا سلم قام فصلّى ركعة الوتر يتوجه فيها ويقرأ فيها الحمد مرة، وقل هو الله أحد ثلاث مرات وقل اعوذ برب الفلق مرة واحدة، وقل اعوذ برب الناس مرة واحدة، ويقنت فيها قبل الركوع وبعد القراءة، ويقول في قنوته :
«اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد، اللهمّ إهدنا فيمن هديت وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا شرَّ ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك انّه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربّنا وتعاليت ...».
ثم يقول : «استغفر الله وأسأله التوبة» سبعين مرة، فإذا سلّم جلس في التعقيب ما شاء الله، فإذا قرب الفجر قام فصلّى ركعتي الفجر يقرأ في الاُولى الحمد وقل يا أيها الكافرون وفي الثانية الحمد وقل هو الله أحد، فإذا طلع الفجر أذّن وأقام وصلّى الغداة ركعتين، فإذا سلّم جلس في التعقيب حتى تطلع الشمس، ثم يسجد سجدة الشكر حتى يتعالى النهار ...(70).
لقد سرى حب الله في قلب الإمام، وتفاعل في عواطفه ومشاعره حتى صار من خصوصيات شخصيّته.
تسلّحه بالدعاء :
ومن مظاهر حياة الإمام الروحية تسلحه بالدعاء الى الله والتجاؤه إليه في جميع أُموره، وكان يجد فيه متعة روحية لا تعادلها أية متعة من متع الحياة.
وأُثرت عن الإمام الرضا (ع) كوكبة من الأدعية الشريفة كان من بينها ما يلي :
1 ـ قال(ع): «يا من دلّني على نفسه، وذلّل قلبي بتصديقه، أسألك الأمن والإيمان في الدنيا والآخرة»(71).
وحفل هذا الدعاء على إيجازه، بظاهرة من ظواهر التوحيد وهي أنّ الله تعالى دلّ على ذاته، وعرّف نفسه لخلقه، وذلك بما أودعه، وأبدعه في هذا الكون من العجائب والغرائب، وكلّها تنادي بوجوده .
2 ـ وقال(ع): «اللهمّ أعطني الهدى وثبّتني عليه، واحشرني عليه آمناً، أمن مَن لا خوف عليه، ولا حزن ولا جزع إنك أهل التقوى، وأهل المغفرة»(72).
لقد دعا الإمام (ع) بطلب الهداية، والإنقياد الكامل الى الله الذي هو من أعلى درجات المقربين والمنيبين إلى الله تعالى.
الهوامش:
(1) الصواعق المحرقة: 2/590.
(2) عيون أخبار الرضا(ع): 1 / 26، الاختصاص للمفيد: 197.
(3) عيون أخبار الرضا(ع): 1 / 24، 26، الاختصاص: 197، المناقب: 3/475 ـ 476.
(4) الكافي: 1/486، الإرشاد: 2/247، إعلام الورى: 2/40.
(5) شذرات الذهب : 2 / 76، وقد ردّد بين القولين، وقد ذكر القول الأخير جماعة منهم الصدوق في العيون: 1/28، وعنه ابن شهر آشوب في المناقب: 3/476 وغيرهم.
(6) إذ عليه أغلب العلماء والمحققين ورجّحه الشيخ الكليني أعلى الله مقامه في الكافي: 1/486 .
(7) عيون أخبار الرضا(ع): 1 / 29 ـ 30، وعنه في كشف الغمّة: 3/90.
(8) انظر المناقب: 3/475، نور الأبصار: 232، مطالب السؤول: 2/129.
(9) وهذا واضح لمن تتبع الأخبار والروايات.
(10) الصواعق المحرقة: 2/592، الإتحاف بحبّ الأشراف: 298 ـ 299.
(11) عيون أخبار الرضا(ع): 1 / 28، وعنه في بحار الأنوار: 49/5.
(12) عيون أخبار الرضا(ع): 1 / 40، وعنه في بحار الأنوار: 49/20.
(13) عيون أخبار الرضا(ع): 1 / 23، وعنه في كشف الغمّة: 3/89، وعنه أيضاً في بحار الأنوار: 49/4 .
(14) انظر عيون أخبار الرضا(ع): 1 / 38، وعنه في بحار الأنوار: 49/18.
(15) إعلام الورى بأعلام الهدى: 2/64 ـ 65، الصراط المستقيم: 2/164، وعن إعلام الورى في كشف الغمّة: 3/111، واللفظ للأوّل.
(16) الإرشاد: 2/261 ، إعلام الورى بأعلام الهدى: 2/73، مقاتل الطالبيين: 375، الفصول المهمّة: 2/1005.
(17) الطرائف: 279.
(18) إعلام الورى : 2/64 وعنه في كشف الغمّة: 3/110 ـ 111، واللفظ للأوّل.
(19) الإرشاد: 2/247، وعنه في كشف الغمّة: 3/63.
(20) عمدة الطالب: 198 .
(21) النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة: 2/174.
(22) خلاصة تذهيب تهذيب الكمال: 278.
(23) تهذيب التهذيب: 7 / 340، وانظر أنساب السمعاني 3: 74.
(24) مرآة الجنان: 2 / 11 .
(25) تاريخ الإسلام، حوادث وفيات (201 ـ 210 هـ ): ص270.
(26) الإتحاف بحب الأشراف: 312.
(27) عيون أخبار الرضا(ع): 2/154، كشف الغمّة: 3/111، الأئمة الاثنا عشر، لابن طولون: 98 ـ 99، واللفظ للثاني.
(28) خلاصة الذهب المسبوك لعبدالرحمن قنينو: 200 .
(29) عيون أخبار الرضا(ع): 2/155، إعلام الورى: 2/65، كشف الغمّة: 3/111، الإتحاف بحب الأشراف: 320 ـ 321، الفصول المهمّة: 2/981، واللفظ لكشف الغمّة، وانظر الأبيات الشعرية أيضاً مع بعض التفاوت في: وفيات الأعيان: 3/271، الوافي بالوفيات: 22/155 وغيرها.
(30) ديوان دعبل : 132 .
(31) عيون أخبارالرضا(ع):2/197ـ198،إعلام الورى: 2/63، مناقب آل أبي طالب: 3/469 ـ 470، واللفظ للثاني.
(32) الوافي بالوفيات: 22/156 ـ 157، نور الأبصار: 232 ـ 233 واللفظ للثاني.
(33) عيون أخبار الرضا(ع): 2/262 وعنه في بحار الأنوار : 49 / 95 ـ 96 .
(34) الحجرات (49): 13.
(35) عيون أخبار الرضا(ع) : 2/261 وعنه في بحار الأنوار: 93/224.
(36) المسح : الكساء من الشعر .
(37) عيون أخبار الرضا(ع): 2 / 192، إعلام الورى: 2/64، المناقب: 3/470 واللفظ للأوّل.
(38) المناقب: 3/470.
(39) المناقب: 3/470 وعنه في بحار الأنوار: 49/100.
(40) الكافي: 4/23 و 24 و مناقب آل أبي طالب: 3/470، وعن الكافي في بحار الأنوار : 49/101 ، ح 19. واللفظ للأوّل.
(41) سورة البلد (90): 11 .
(42) المحاسن للبرقي : 2/392 ، ح 39، والكافي: 4/52 واللفظ للثاني.
(43) مناقب آل أبي طالب: 3/470 وعنه في بحار الأنوار: 49/100، وفي كشف الغمّة للإربلي: 3/161، ونسبها للإمام الجواد(ع) .
(44) الكافي: 486 ـ 488، ح 4، الإرشاد: 2/255 ـ 257، وعنه في كشف الغمّة: 3/67 ـ 68، وعنه أيضاً في بحار الأنوار: 49/97 ـ 98، ح 12، واللفظ للأوّل.
(45) الكافي : 6/283، وعنه في بحار الأنوار: 49/102، ح 20.
(46) الإتحاف بحب الأشراف : 312.
(47) الكافي: 8/230، وعنه في بحار الأنوار: 49/101 ، ح 18 .
(48) إعلام الورى: 2/64 وعنه في كشف الغمّة: 3/110 ـ 111 وعنه أيضاً في بحار الأنوار: 49/100 .
(49) عيون أخبار الرضا(ع): 2 / 193، إعلام الورى: 2/63، وعنه في كشف الغمّة: 3/110، الفصول المهمّة: 2/998، واللفظ للأوّل.
(50) الإرشاد: 2/261، إعلام الهدى: 2/73، مقاتل الطالبيين: 375، الفصول المهمّة: 2/1005.
(51) الخرائج والجرائح: 1/340، ح 5، الثاقب في المناقب لابن حمزة الطوسي: 498، وعن الخرائج في كشف الغمّة: 3/97، وعنه أيضاً في بحار الأنوار: 49 / 50، ح 51 .
(52) عيون أخبار الرضا(ع): 2/251، إعلام الورى: 2/70، المناقب : 3 / 446 واللفظ للآخير.
(53) عيون أخبار الرضا(ع): 2/250، إعلام الورى: 2/70، المناقب: 4/362 واللفظ للأخير، والفَصد: ضرب العِرق للحجامة.
(54) عيون أخبار الرضا(ع): 2/226، إعلام الورى: 2/56، دلائل الإمامة: 367، المناقب: 3/447، واللفظ للأوّل.
(55) المناقب: 3 / 447، وعنه في بحار الأنوار: 49/34.
(56) انظر عيون أخبار الرضا(ع): 2/224 وعنه في كشف الغمّة: 3/93 ـ 94، وعنه في بحار الأنوار: 47/246 ـ 247 باب 30 ، ح 5 .
(57) عيون أخبار الرضا(ع): 2/225 ـ 226، إعلام الورى: 2/65، نور الأبصار: 243، واللفظ للثاني.
(58) عيون أخبار الرضا(ع): 2/234، وعنه في بحار الأنوار: 49/117.
(59) الكافي: 1/487، عيون أخبار الرضا(ع): 2/246، الإرشاد: 2/255، الفصول المهمّة: 2/975، واللفظ للأوّل.
(60) الكافي: 8/257، المناقب: 3/451، واللفظ للأوّل.
(61) عيون أخبار الرضا(ع): 2/233، إعلام الورى: 2/59، الفصول المهمّة: 2/976، الإتحاف بحبّ الأشراف: 316 واللفظ للثاني.
(62) عيون أخبار الرضا(ع): 2/247، كشف الغمّة: 3/96، نور الأبصار: 244، الإتحاف بحبّ الأشراف واللفظ للأوّل.
(63) الكافي: 1/491، عيون أخبار الرضا(ع): 2/245، الإرشاد: 2/258، نور الأبصار: 243، الفصول المهمّة: 2/976 واللفظ للأوّل.
(64) النباج : منزل لحجاج البصرة .
(65) والصحيح في النحو «ثمان عشرة».
(66) عيون أخبار الرضا(ع): 2/227، إعلام الورى : 2/54 عن الحاكم وعنه نور الأبصار: 242 ـ 243، جامع كرامات الأولياء: 2 / 311، واللفظ للأوّل.
(67) الخرائج والجرائح: 1/362، الثاقب في المناقب: 214، الفصول المهمّة: 2/977، نور الأبصار: 243، واللفظ للأوّل.
(68) عيون أخبار الرضا(ع) : 2/198 ، إعلام الورى: 2/63، وقريب منه في المناقب: 3/470.
(69) الإتحاف بحب الأشراف : 312.
(70) عيون أخبار الرضا(ع): 1/194 ـ 195 وعنه في بحار الأنوار: 49 / 92 ـ 93 مع تفاوت يسير في الألفاظ، واللفظ المنقول من العيون، وفي الحديث بقية الى بيان بعض أذكاره وعباداته وقرائته لبعض السور في صلواته المندوبة .
(71) الكافي: 2 / 579 .
(72) عيون أخبار الرضا(ع): 1/63، إعلام الورى: 2/188، واللفظ للثاني.