الإمام الحسين(ع) من أرض الوحي إلى أرض الميعاد

قيم هذا المقال
(24 صوت)

الإمام الحسين(ع) من أرض الوحي إلى أرض الميعاد

 

لم تكن نهضة الإمام الحسين((عليه السلام)) وثورته حركةً آنيةً أو ردّة فعل مفاجئة; بل كان الحسين((عليه السلام)) في الأُمّة يمثّل بقية النبوّة وكان وريث الرسالة وحامل راية القيم السامية التي أوجدها الإسلام في الأُمّة وأرسى قواعدها، كما أنّ العهد قريب برحيل النبىّ((صلى الله عليه وآله)) الذي كان يكثر الثناء والتوضيح لمقام الإمام الحسين ((عليه السلام)). وفي الوقت نفسه كانت قد ظهرت مقاصد الاُمويّين الفاسدة تجاه رسالة النبي ((صلى الله عليه وآله)) الإسلامية واُمّته المؤمنة برسالته .

وقد وقف أهل البيت((عليهم السلام)) بصلابة يدافعون عن الحقّ والعدل وإحياء الرسالة الإسلامية، والمحافظة عليها بكلّ وسيلة ممكنة ومشروعة.

وفي عصر الإمام الحسين((عليه السلام)) كان لتراخي وفتور الأُمّة عن نصرة الحقّ الى جانب تسلّط المنافقين ونفوذهم في أجهزة الدولة دور كبير لإيجاد حالة مَرَضيّة يمكن تسميتها بفقدان الإرادة وموت الضمير، ومن ثمّ تباينت المواقف تجاه اُسلوب الدفاع عن العقيدة الإسلامية وصيانتها وسيادة الحقّ والعدل.

ولكن لم يشكّ أحد في مشروعية وعدالة موقف الإمام الحسين((عليه السلام)) تجاه الانحراف المستشري في كلّ مفاصل الدولة، وتجاه التغيير الحاصل في بنية الأُمّة الإسلامية، إلاّ أنّ موقف الاستعداد الكامل للنصرة باتخّاذ قرار ثوريّ يزيح عن الأُمّة الظلم والفساد لم يكن يتكامل بعد لدى الجميع.

وقد كانت هذه المواقف تتراوح بين التأييد مع إعلان الاستعداد للثورة مهما كانت النتائج ، وبين الحذر من الفشل وعدم نجاح الثورة ، وبين التثبيط وفتّ العزائم .

وتبنّى شيعة أهل البيت ((عليهم السلام)) الذين اكتووا بجحيم البيت الأموي المتحكّم في رقاب المسلمين موقف التأييد وإعلان الاستعداد ، وإن غلب الخوف على بعضهم فيما بعد، واُودع البعض الآخر السجن أو حوصر من قبل قوّات السلطة الاُمويّة .

كما تبنّى آخرون من أقرباء الإمام ((عليه السلام)) ـ مثل عبدالله بن عباس ومحمّد ابن الحنفيّة ـ موقف الحذر، ورجّحوا للإمام الحسين((عليه السلام)) الهجرة إلى اليمن ; نظراً لبُعد اليمن عن العاصمة، ولتوفّر جمع من شيعته وشيعة أبيه فيها(1).

وتبنّى آخرون موقف التثبيط وفتّ العزائم والتخويف من مغبّة الثورة على الحاكم، فنصحوا الإمام ((عليه السلام)) بالدخول فيما دخل فيه الناس ، والصبر على الظلم ، كما تمثّل ذلك في نصيحة عبدالله بن عمر للإمام الحسين ((عليه السلام))(2).

 

توجّه الإمام ((عليه السلام)) الى مكّة

قال المؤرّخون : إنّ الإمام الحسين((عليه السلام)) عندما توجّه الى مكة لزم الطريق الأعظم، فقال له أهل بيته: لو تنكبت الطريق الأعظم كما فعل ابن الزبير كي لا يلحقك الطلب، فقال: لا والله لا اُفارقه حتى يقضي الله ما هو قاض(3). ولمّا دخل الإمام الحسين((عليه السلام)) مكة كان دخوله إيّاها ليلة الجمعة لثلاث مضين من شعبان دخلها وهو يقرأ (ولمّا توجّه تلقاء مدين قال عسى ربّي أن يهديني سواء السبيل)(4).

ثم نزلها فأقبل أهلها يختلفون إليه ومن كان بها من المعتمرين وأهل الآفاق، وابن الزبير بها قد لزم جانب الكعبة وهو قائم يصلّي عندها ويطوف، ويأتي الحسين((عليه السلام)) فيمن يأتيه، فيأتيه اليومين المتواليين ويأتيه بين كلّ يومين مرة، وهو أثقل خلق الله على ابن الزبير، قد عرف أنّ أهل الحجاز لا يبايعونه ما دام الحسين((عليه السلام)) في البلد وأنّ الحسين((عليه السلام)) أطوع في الناس منه وأجلّ(5).

وحين خرج الإمام الحسين((عليه السلام)) من المدينة متوجّهاً الى مكة بأهله وإخوته وبني عمومته و بعض الخواصّ من شيعته، لم يبقَ في المدينة إلاّ أخوه محمّد بن الحنفية.

وأفادت بعض المصادر التأريخية بأنّ الإمام((عليه السلام)) أقام في مكّة في بيت العباس بن عبدالمطلب(6)، فيما تحدّثت مصادر اُخرى عن إقامته((عليه السلام)) في شِعْب عليّ(7).

وأقام الإمام((عليه السلام)) في مكة أربعة أشهر وأياماً من ذي الحجّة، كان فيها مهوى القلوب، فالتفّ حوله المسلمون يأخذون عنه الأحكام ويتعلّمون منه الحلال و الحرام، ولم يتعرّض له أمير مكة يحيى بن حكيم بسوء، وحيث ترك الإمام((عليه السلام)) وشأنَه فقد عزله يزيد بن معاوية عنها، واستعمل عليها عمرو بن سعيد بن العاص. وفي شهر رمضان من تلك السنة (60 هـ ) ضمّ إليه المدينة، وعزل عنها الوليد بن عتبة، لأنّه كان معتدلا في موقفه من الإمام((عليه السلام)) ولم يستجب لطلب مروان(8).

 

رسائل أهل الكوفة إلى الإمام ((عليه السلام)) :

وقد عرف الناس في مختلف الأقطار امتناع الإمام الحسين((عليه السلام)) عن البيعة، فاتّجهت إليه الأنظار و بخاصّة أهل الكوفة، فقد كانوا يومذاك من أشدّ الناس نقمةً على يزيد و أكثرِهم ميلا إلى الإمام((عليه السلام)) فاجتمعوا في دار سليمان ابن صرد الخزاعي فقام فيهم خطيباً فقال: «إنَّ معاوية قد هلك، وإنّ حسيناً قد تقبّض على القوم ببيعته، وقد خرج إلى مكة، وأنتم شيعته وشيعة أبيه، فإن كنتم تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهدو عدوّه، فاكتبوا إليه وأعلموه، وإنْ خفتم الفشل والوهن فلا تغرّوا الرجل في نفسه، قالوا: لا ، بل نقاتل عدوّه و نقتل أنفسنا دونه. قال: فاكتبوا إليه ، فكتبوا إليه:

 

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

للحسين بن عليّ ((عليهما السلام)) من سليمان بن صرد والمسيّب بن نَجَبَة ورفاعة بن شدّاد البجلي وحبيب بن مظاهر وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة.

سلام عليك، فإنّا نحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو.

أمَّا بعد ، فالحمد لله الذي قصم عدوّك الجبّار العنيد، الذي انتزى على هذه الأُمّة فابتزّها أمرها، وغصبها فيئها، و تأمّر عليها بغير رضىً منها، ثم قتل خيارها واستبقى شرارها، وجعل مال الله دُوْلةً بين جبابرتها وأغنيائها، فبعداً له كما بعدت ثمود، إنّه ليس علينا إمام غيرك، فأقبل لعلّ الله أن يجمعنا بك على الحقّ، وأنّ النعمان بن بشير في قصر الإمارة، وإنّنا لم نجتمع معه في جمعة ولا نخرج معه الى عيد، ولو قد بلغنا أنّك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام إن شاء الله تعالى .

ثم سرّحوا بالكتاب مع عبدالله بن مِسْمَع الهَمْداني و عبدالله بن وال وأمروهما بالنجاء(9)، فخرجا مسرعَين حتى قدما على الحسين((عليه السلام)) بمكة لعشر مضين من شهر رمضان، ولبث أهل الكوفة يومين بعد تسريحهم بالكتاب، وأنفذوا قيس بن مُسْهِر الصيداوي وعبدالله وعبدالرحمن ابني شداد الأرحبي وعمارة بن عبد السَلولي إلى الحسين((عليه السلام)) ومعهم نحو من مائة وخمسين صحيفةً من الرجل والاثنين والأربعة، ثم لبثوا يومين آخرين وسرّحوا إليه هاني بن هاني السبيعي وسعيد بن عبدالله الحنفي، وكتبوا إليه:

 

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

للحسين بن علىّ ((عليهما السلام)) من شيعته من المؤمنين والمسلمين.

أمَّا بعد ، فإنّ الناس ينتظرونك، لا رأي لهم غيرك، فالعجل العجل، ثم العجل العجل، والسلام.

ثم كتب شبث بن ربعي وحجّار بن أبجر ويزيد بن الحارث بن رُوَيْم وعروة بن قيس وعمرو بن الحجّاج الزبيدي ومحمّد بن عمير التميمي :

أمَّا بعد ، فقد اخضرّ الجَناب وأينعت الثمار، فإذا شئت فاقدم على جند لك مجنّدة، والسلام(10).

 

 

جواب الإمام ((عليه السلام)) على رسائل الكوفيّين :

تتابعت كتب الكوفيّين كالسيل إلى الإمام الحسين((عليه السلام)) وهي تدعوه الى المسير والقدوم إليهم لإنقاذهم من ظلم الاُمويّين وبطشهم، وكانت بعض تلك الرسائل تُحَمِّلُه المسؤولية أمام الله والأُمّة إن تأخّر عن إجابتهم، ورأى الإمام ـ قبل كلّ شيء ـ أنْ يختار للقياهم سفيراً له يُعَرّفُه باتّجاهاتهم وصدق نيّاتهم، وقد اختار ثقته و كبير أهل بيته مسلم بن عقيل، وهو من أمهر الساسة وأكثرهم قدرةً على مواجهة الظروف الصعبة والصمود أمام الأحداث الجسام، وزوّده برسالة رويت بصور متعدّدة، من بينها النصّ الذي رواه صاحب الإرشاد، وهي كما يلي:

 

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

«من الحسين بن عليّ إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين :

أمّا بعد ، فإنّ هانئاً و سعيداً قَدِما عليّ بكتبكم، وكانا آخر من قَدِمَ عليّ من رسلكم، وقد فهمتُ كلّ الذي اقتصصتم وذكرتم، ومقالة جُلّكم: أنّه ليس علينا إمام، فأقبلْ لعلّ الله أن يجمعنا بك على الحقّ والهدى، وإنّي باعث إليكم أخي وابنَ عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، فإنْ كتب إليّ أنّه قد اجتمع رأيُ ملئكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمتْ به رسلُكم، وقرأتُ في كتبكم فإنّي أقدمُ إليكم وشيكاً إن شاء الله،فلعمري ما الإمام إلاّ الحاكم بالكتاب القائم بالقسط الدائن بدين الحقّ الحابسُ نَفسه على ذات الله، والسلام»(11).

تحرّك مسلم بن عقيل نحو الكوفة :

لقد أكّد المؤرّخون أنّ الإمام الحسين((عليه السلام)) أرسل مسلم بن عقيل مع قيس بن مسهر الصيداوي وعمارة بن عبدالله السلولي وعبدالله وعبد الرحمن ابني شدّاد الأرحبي إلى الكوفة، بعد أنْ أمره «بالتقوى وكتمانِ أمرِه واللطف بالناس، فإنْ رأى الناس مجتمعين مستوسقين عجّلَ إليه بذلك»(12).

وفي النصف من شهر رمضان انطلق مسلم من مكة نحو الكوفة، فعرّج على المدينة فصلّى في مسجد رسول الله((صلى الله عليه وآله)) وودّع مَنْ أحَبَّ من أهله وواصل مسيره الى الكوفة.

وتعدّدت أقوال المؤرّخين بشأن المكان الذي نزل فيه مسلم بن عقيل بعد أنْ وصل إلى الكوفة، فثمّة مَنْ قال: إنّه نزل في دار المختار بن أبي عبيدة(13)، وقيل: نزل في بيت مسلم بن عوسجة(14)، وقيل : في بيت هاني بن عروة(15).

وعندما علم الكوفيّون بوصول مبعوث الحسين((عليه السلام)) إلى مدينتهم; ازدحموا للقائه و بيعته، وحسب قول بعض المؤرّخين فقد أقبلت الشيعة تختلف إليه، فلمّا اجتمع إليه منهم جماعة قرأ عليهم كتاب الحسين((عليه السلام)) وهم يبكون وبايعه الناس، حتى بايعه منهم ثمانية عشر ألفاً(16).

 

رسالة مسلم بن عقيل إلى الإمام الحسين ((عليه السلام)) :

ظلّ مسلم بن عقيل يجمع القواعد الشعبية ويأخذ البيعة للإمام((عليه السلام)) وتوالت الوفود تقدم ولاءها، و الجماهير تعلن عن استبشارها. وقد لاحظنا كيف أنّ الناس كانوا يبكون وهم يسمعون مسلماً يقرأ عليهم رسالة الإمام الحسين((عليه السلام)) التي فيها يحيّيهم، ويعلن استعداده للقدوم إليهم وقيادة الثورة على الحكم الطاغي.

وبعد أن لاحظ مسلم كثرة الأنصار; بادر بالكتابة إلى الإمام((عليه السلام)) ناقلا إليه صورةً حيّة للأحداث والوقائع التي تجري أمام عينيه في الكوفة، وقيّم له الموقف وأعرب عن تفاؤلهِ وسأله القدوم.

وقد جاء في رسالة مسلم للإمام((عليه السلام)): «أَمّا بعد، فإن الرائد لايكذب أهله، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشَر ألفاً، فعجّل حين يأتيك كتابي، فإنّ الناس كلُّهُم معك، ليس لهم في آل معاوية رأيٌّ ولا هوىً»(17).

 

الغدر بمسلم بن عقيل :

اتّخذ ابن زياد كلّ وسيلة مهما كانت دنيئة للقضاء على الوجود السياسي والتحرّك الذي برز منذراً بالخطر بوجود مسلم بن عقيل على النظام الاُموي، وسارع للقضاء على مسلم بن عقيل وكلّ الموالين له قبل وصول الإمام الحسين((عليه السلام)) وليتمكّن بذلك من إفشال الثورة، فدبّر خطّةً للتجسّس على تحرّكات مسلم ومكانه والموالين له، واستطاع أن يكتشف مخبأه وأن يعلم بمقرّه(18) فكانت بداية تخاذل الناس عن الصمود في مواجهة الظلم.

لقد استطاع الوالي الجديد عبيد الله بن زياد أن يُحْكِمَ الحيلةَ والخداع ليقبضَ على هانىء بن عروة الذي آوى رسول الحسين((عليه السلام)) وأحسن ضيافته واشترك معه في الرأي والتدبير، فقبض عليه وقتله بعد حوار طويل ومشادة كلامية جرت بينهما، وألقى بجثمانه من أعلى القصر إلى الجماهير المحتشدة حوله، فاستولى الخوف والتخاذل على الناس، وذهب كلّ إِنسان إلى بيته وكأنّ الأمر لا يعنيه(19).

ولمّا علم مسلم بما جرى لهانىء ورأى تَخاذُلَ عشيرته مذحج الغنية بعددها وعدَّتِها خرج في أصحابه ونادى مناديه في الناس وسار بهم لمحاصرة القصر، واشتد الحصار على ابن زياد وضاق به أمرُه، ولكنّه استطاع بدهائه ومكره أن يتغلّب على المحنة ويُخذِّلَ الناسَ عن مسلم(20).

لقد دسّ ابن زياد في أوساط الناس أشخاصاً يُخَذِّلونهم ويتظاهرون بالدعوة إلى حفظ الأمن والاستقرار وعدم إراقة الدماء، ويحذّرون من قدوم جيش جرّار من الشام بهدف كسب الوقت وتفتيت قوى الثوار. واستمرّ الموقف كذلك والناس تنصرف وتتفرّق عن مسلم. وبدخول الليل صلّى بمن بقي معه وخرج من المسجد الجامع وحيداً لا ناصر له ولا مؤازر ولا مَنْ يَدُ لُّه على الطريق، وأقفل الناس أبوابهم في وجهه، فمضى يبحث عن دار يأوي إليها في ليلته تلك، وفيما هو يسير في ظلمة الليل وجد امرأةً على باب دارها وكأنّها تنتظر شيئاً، فعرّفها بنفسه وسألها المبيت عندها إلى الصباح، فرحّبت به وأدخلته بيتها، وعرضت عليه العشاء فأبى أن يأكل شيئاً، وعرف ولدها بمكانه وكان ابن زياد قد أعدّ جائزة لِمَنْ يخبره عنه، وما كاد الصبح يتنفّس حتى أسرع ولدها إلى القصر وأخبر محمّد بن الأشعث بمكان مسلم بن عقيل، و فور وصول النبأ الى ابن زياد أرسل قوّة كبيرة من جنده(21) بقيادة ابن الأشعث إلى المكان الذي فيه مسلم، وما أن سمع بالضجّة حتى أدرك أنّ القوم يطلبونه فخرج إليهم بسيفه.

وقد اقتحموا عليه الدار فشدّ عليهم يضربهم بسيفه حتى أخرجهم من الدار، ثم عادوا إليه فشدّ عليهم كذلك، مع انّهم تكاثروا عليه بعد أن اُثخن بالجراح فطعنه رجل من خلفه فخرّ الى الأرض فاُخذ أسيراً وحمل على بغلة وانتزع الأشعث سيفه وسلاحه وأخذوه الى القصر فاُدْخِلَ على ابن زياد ولم يسلّم عليه، وجرى بينهما حوار طويل كان فيه ابن عقيل ـ رضوان الله عليه ـ رابط الجأش بليغاً في بيانه قويّ الحجّة، حتى أعياه أمرُه وانتفخت أوداجه وجعل يشتم عليّاً والحسن والحسين، ثم أمر أجهزته أن يصعَدوا به الى أعلى القصر ويقتلوه ويرموا جسده إلى الناس ويسحبوه في شوارع الكوفة ثم يصلبوه إلى جانب هانىء بن عروة، هذا وأهل الكوفة وقوف في الشوارع لا يحرّكون ساكناً وكأنّهم لا يعرفون من أمره شيئاً.

وكان مسلم قد طلب من ابن الأشعث أن يكتب إلى الحسين((عليه السلام)) يخبره بما جرى في الكوفة وينصحه بعدم الشخوص إليهم، فوعده ابن الاشعث بذلك، ولكنّه لم يفِ بوعده(22).

 

تحرّك الإمام الحسين((عليه السلام)) نحو العراق

ونترك الكوفة يعبثُ بها ابن زياد ـ ويتتبّع شيعة الإمام الحسين((عليه السلام)) ويطاردهم ـ ونعود إلى مكّة لنتابع السير مع ركب الحسين((عليه السلام)) حتى الطفّ حيث المأساة الكبرى. قال المؤرّخون: كان خروج مسلم بن عقيل رحمة الله عليه بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة سنة ستين، وقتلُه يوم الأربعاء لتسع خلون منه يوم عرفة، وكان توجّه الحسين صلوات الله عليه من مكة الى العراق في يوم خروج مسلم بالكوفة ـ وهو يوم التروية ـ بعد مُقامه بمكة بقية شعبان وشهر رمضان وشوّالاً وذا القعدة وثماني ليال خلون من ذي الحجة سنة ستين، وكان((عليه السلام)) قد اجتمع إليه مدةَ مُقامه بمكة نَفَرٌ من أهل الحجاز ونفر من أهل البصرة انضمّوا إلى أهل بيته ومواليه.

ولمّا أراد الحسين((عليه السلام)) التوجّه إلى العراق طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وأحلّ من إحرامه وجعلها عمرةً، لأَنّه لم يتمكّن من تمام الحجّ مخافة أن يُقْبَضَ عليه بمكة فيُنْفَذ به إلى يزيد بن معاوية، فخرج((عليه السلام)) مبادراً بأهله وولده ومن انضمّ إليه من شيعته، ولم يكن خبر مسلم قد بلغه(23).

 

لماذا اختار الإمام الحسين((عليه السلام)) الهجرة إلى العراق؟

رغم كلّ ما قيل من تحليل ودراسة لوضع المجتمع الكوفي وما ينطوي عليه من إثارة سلبيات يتكهّن بأغلبها المحلّلون من دون جزم فإنّنا نرى أنّ اختيار الإمام الحسين((عليه السلام)) الهجرة الى العراق كان لأسباب منها :

1 ـ إنّ التكليف الإلهي برفع الظلم والفساد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يشمل جميع المسلمين بلا استثناء، إذ أنّنا لا نجد في النصوص التأريخية ما يدلّل على قيام قطر من الأقطار الإسلامية بمحاولة لمواجهة الحكم الاُموي سوى العراق الذي وقف ضدّهم منذ أن ظهر الاُمويّون في الساحة السياسية وحتى سقوطهم.

2 ـ إنّ الإمام الحسين((عليه السلام)) لم يعلن دعوته لمواجهة ظلم الاُمويّين وفسادهم والنهوض لإحياء الرسالة يوم طُلب منه مبايعة يزيد، بل كانت تمتدّ دعوته في العمق الزمني إلى أبعد من ذلك، ولكن لم نرَ نصوصاً تأريخية تدلّل على استجابة شعب من شعوب العالم الإسلامي لنداء الإمام الحسين((عليه السلام)) ونهضته غير العراق، فكانت الدعوات الكثيرة والملحّة موجّهة إليه تعلن الولاء والاستعداد لتأييد النهضة ومواجهة الحكم الاُموي الفاسد.

3 ـ لم يكن أمام الحسين((عليه السلام)) من خيار لاختيار بلد آخر غير العراق، لأنّ بقية الأقطار إمّا أنها كانت مؤيّدة للاُمويين في توجّهاتهم وسياساتهم، أو خاضعة مقهورة، أو أنّها كانت غير متحضّرة وغير مستعدّة للاستجابة للنهضة الحسينيّة. على أنّ كثيراً من شعوب العالم الإسلامي كانت في ذلك الحين إمّا كافرة أو حديثة عهد بالإسلام، أو غير عربية بحيث يصعب التعايش والتعامل معها; ممّا كان سبباً لتضييع ثورة الإمام وجهوده.

4 ـ كانت الكوفة تضمّ الجماعة الصالحة التي بناها الإمام علىّ((عليه السلام)) والقاعدة الجماهيرية التي تتعاطف مع أهل البيت ((عليهم السلام)) فأراد الإمام الحسين ((عليه السلام)) أن لا يضيع دمه وهو مقتول لا محالة، كما أراد أن يعمّق الإيمان في النفوس ويجذّر الولاء لأهل البيت ((عليهم السلام))، وكان العراق أخصب أرض تستجيب لذلك، وسرعان ما بدأت الثورات في العراق بعد استشهاد الإمام الحسين((عليه السلام))، وأصبح العراق القاعدة العريضة لنشر مبادئ وفضائل أهل البيت((عليهم السلام)) إلى العالم الاسلامي في السنين اللاحقة.

5 ـ إنّ اختيار أيّ بلد غير العراق سيكون له أثره السلبي، إذ يتّخذه أعداء الإسلام وأهل البيت((عليهم السلام)) أداة عار وشنار للنيل من مقام الإمام وأهدافه السامية، ويفسّر خروجه إليه على أنّه هروب من المواجهة الحتمية، في الوقت الذي كان يهدف الإمام ((عليه السلام)) الى إحياء حركة الرسالة والمُثل الأخلاقية وتأجيج روح المواجهة والتصدّي للظلم والظالمين. وحتى على فرض اختياره ((عليه السلام)) بلداً آخر فإنّ سلطة الاُمويّين ستنال منه وتقضي عليه دون أن يحقّق أهداف رسالته التي جاء من أجلها.

6 ـ لمّا كان العراق يصارع الاُمويّين كانت أجواؤه مهيّئة لنشر الإعلام الثوري لنهضة الحسين((عليه السلام)) وأفكاره، ومن ثمّ فضح بني اُميّة وتستّرهم بالشرعية وغطاء الدين، وحتى النزعة العاطفية المزعومة في العراقيّين فقد كانت سبباً في ديمومة وهج الثورة وأفكارها كما نرى ذلك حتّى عصرنا هذا.

ولعلّ هناك أسباباً لا ندركها، لا سيما ونحن نرى أنّ الإمام الحسين((عليه السلام)) كان على بيّنة واطلاع من نتيجة الصراع، وكان على معرفة بالظروف الموضوعية المحيطة بمسيرته وعلى علم بطبيعة التكوين الاجتماعي والسياسي للمجتمع الذي كان يتوجّه إليه من خلال وعيه السياسي الحاذق، والنصائح التي قدّمها إليه عدد من الشخصيات فضلاً عن عصمته عن الزلل والأهواء ـ كما نعتقد ـ فلم يكن اختياره العراق منطلقاً لثورته العظيمة، إلاّ عن دراية وتخطيط رغم الجريمة النكراء التي نتجت عن تخاذل الناس وتركهم نصرة إمامهم ولحوق العار بهم في الدنيا والآخرة.

 

تصريحات الإمام((عليه السلام)) عند وداعه مكّة :

صدرت عن الإمام الحسين((عليه السلام)) عدّة تصريحات عند ما كان يعتزم مغادرة مكّة والتوجّه إلى العراق، وكانت بعض هذه التصريحات تمثّل أجوبته((عليه السلام)) على مَن أشفق عليه أو مَنْ ندّد بخروجه، وقد تمثّل خطابه للناس بصورة عامة، فنذكرُ منها هنا:

1 ـ روى عبدالله بن عباس عن الإمام الحسين بشأن حركته نحو العراق قوله((عليه السلام)): «والله لايَدَعُونَنِي حتى يستخرجوا هذه العَلْقَةَ من جوفي، فإذا فعلوا سُلِّط عليهم مَنْ يذلّهم حتى يكونوا أذلَّ من فَرْم المرأة»(24).

2 ـ كان محمّد بن الحنفية في يثرب فلمّا علم بعزم الإمام((عليه السلام)) على الخروج إلى العراق توجّه إلى مكة، وقد وصل إليها في الليلة التي أراد((عليه السلام)) الخروج في صبيحتها إلى العراق، وقصده فور وصوله فبادره قائلا: «يا أخي إنّ أهل الكوفة قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك، ويساورني خوف أن يكون حالك حال مَن مضى، فإن أردت أن تقيم في الحرم فإنّك أعز مَن بالحرم وأمنعهم».

فأجابه الإمام((عليه السلام)): «خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية، فأكون الذي تستباح به حرمةُ هذا البيت» فقال محمّد: «فإنْ خفت ذلك فسر إلى اليمن، أو بعض نواحي البرّ فإنّك أمنع الناس به، ولا يقدر عليك أحد»، قال الحسين((عليه السلام)): «أنظر فيما قلت».

ولمّا كان وقت السَحَر بلغه شخوصُه إلى العراق وكان يتوضّأ فبكى، وأسرع محمّد إلى أخيه فأخذ بزمام ناقته وقال له: «يا أخي، ألم تعدني فيما سألتك؟» قال الإمام((عليه السلام)): «بلى ولكنّي أتاني رسول الله((صلى الله عليه وآله)) بعد ما فارَقْتُك وقال لي: يا حسين، اُخرج فإنّ الله شاء أن يراك قتيلا»، فقال محمّد: فما معنى حملِ هؤلاء النساء والأطفال، وأنت خارج على مثل هذا الحال؟ فأجابه الإمام((عليه السلام)): «قد شاء الله أن يراهن سبايا»(25).

ولم يكن اصطحاب الحسين((عليه السلام)) لعيالاته حالة غريبة على المجتمع العربي والإسلامي، فقد كان العرب يصطحبون نساءَهم في الحروب وكذا فعل النبىّ((صلى الله عليه وآله)) في غزواته فقد كان يقرع بين نسائه، أمّا بالنسبة إلى الإمام الحسين((عليه السلام)) فإنّ اصطحابه لعائلته في حركته إنّما كان لأجل أن يكون وجودها معه بمثابة حجّة قوية على المسلمين لنصرته، فمن تولّى الحسين((عليه السلام)) ويسعى لنصرته والدفاع عنه فأولى له أن يدافع عنه وهو بين أهله. وإن اختلف مع الحسين((عليه السلام)) فما ذنب عيالاته وهنّ بنات النبىّ((صلى الله عليه وآله)) خاصة أنّ الخلاف بزعم الاُمويّين إنّما هو لأجل الخلافة.

3 ـ ذكر المؤرخون أنّ الإمام الحسين((عليه السلام)) لمّا أراد الخروج من مكة ألقى خطاباً فيها، جاء فيه: «خُطَّ الْمَوْتُ على وُلْدِ آدم مَخَطّ الْقِلادة على جيدِ الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اِشتياق يعقوب إلى يوسف، وخُيّر لي مصرعٌ أنا لاقيه، كأ نّي بأوصالي تُقطّعها عُسْلانُ الفلواتِ بينَ النواويس وكربلاء، فيملأنَّ منّي أكراشاً جوفاً وأجربةً سُغباً، لا محيص عن يوم خُطّ بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفّينا أُجور الصابرين، لن تشذّ عن رسول الله((عليهم السلام)) لُحْمَتُه، وهي مجموعة له في حظيرة القدس، تَقِرُّ بهم عينُه، ويُنْجَزُ بهم وعدُه، مَنْ كان باذلا فينا مهجتَه وموطِّناً على لقاء الله نَفْسَه فَلْيَرْحَلْ معنا، فإنّي راحل مُصبحاً إن شاء الله تعالى»(26).

يُبَيِّنُ الإمام الحسين((عليه السلام)) في هذه التصريحات أنّه مصمّم على عدم مبايعة يزيد; قياماً بتكليفه الإلهي، موضحاً سبب خروجِه من مكة، مخبراً عن المصير الذي ينتظره وأهل بيته جميعاً، داعياً الى الالتحاق به من كان مُوَطِّناً على لقاء الله نفسه، معلِناً أنّ الله تعالى قرن رضاه برضا أهلِ البيت((عليهم السلام)).

 

النزول في أرض الميعاد :

أقلقت الأخبار عن تقدّم الإمام الحسين((عليه السلام)) نحو الكوفة ابن زياد وأعوان السلطة الاُموية، فأسرع بكتابه إلى الحرّ بن يزيد الرياحي يطلب فيه أن لا يسمح بتقدّم الإمام حتى تلتحق به جيوش بني اُميّة وتلتقي به بعيداً عن الكوفة خشية أن يستنهض أهلها ثانية، وليستغل ابن زياد ظروف المنطقه الصعبة للضغط على الإمام((عليه السلام)) واستسلامه.

وبغباء المنحرف الساذج وجهالته ردّ حامل كتاب ابن زياد على أحد أصحاب الحسين((عليه السلام)) ـ يزيد بن مهاجر ـ مدافعاً عمّا جاء به قائلا: أطعت إمامي ووفيت ببيعتي، فقال له ابن مهاجر: بل عصيت ربّك وأطعت إمامك في هلاك نفسك وكسبت العار والنار، وبئس الإمام إمامك، قال الله تعالى:

(وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يُنصَرُونَ)(27).

وحالت جنود ابن زياد قافلة الإمام الحسين((عليه السلام)) دون الاستمرار في المسير، فقد منعهم جيش الحرّ بن يزيد وأصرّوا على أن يدفعوا الإمام((عليه السلام)) نحو عراء لا خضرة فيها ولا ماء.

وكان زهير بن القين متحمّساً لقتال جيش الحرّ قبل أن يأتيهم المدد من قوات بني اُميّة، فقال للحسين((عليه السلام)): «إنّ قتالهم الآن أيسر علينا عن قتال غيرهم»، ولكنّ الإمام((عليه السلام)) رفض هذا الرأي لأنّ القوم لم يعلنوا حرباً عليه بعد، وما كان ذلك الموقف النبيل إلاّ لما كان يحمله الإمام من روح تتسع للاُمّة جمعاء، وأيضاً لعظيم رسالته التي يدافع عنها وقِيَمهِ التي كان يسعى الى بنائها في الأُمّة رغم أنّها بدت تظهر العداء سافراً ضدّه، فقال((عليه السلام)): «ماكنت لأبدأهم بقتال».

وكان نزول الإمام في كربلاء في يوم الخميس الثاني من محرم سنة إحدى وستين(28)، ثم اقترح زهير على الإمام((عليه السلام)) أن يلجأوا الى منطقة قريبة يبدو فيها بعض ملامح التحصين لمواجهة الجيش الاُموي لو نشبت المعركة.

وسأل الإمام((عليه السلام)) عن اسم هذه المنطقة فقيل له: كربلاء، عندها دمعت عيناه وهو يقول: «اللهم أعوذ بك من الكرب والبلاء»، ثم قال: «ذات كرب وبلاء، ولقد مرّ أبي بهذا المكان عند مسيره الى صفّين وأنا معه فوقف، فسأل عنه فاُخبر باسمه فقال: ها هنا محطّ ركابهم، وهاهنا مهراق دمائهم، فسئل عن ذلك فقال: ثقل لآل بيت محمّد ينزلون هاهنا»(29).

وقبض الإمام الحسين((عليه السلام)) قبضةً من ترابها فشمّها وقال: «هذه والله هي الأرض التي أخبر بها جبرئيل رسول الله أننّي اُقتل فيها، أخبرتني اُم سلمة»(30).

فأمر الإمام((عليه السلام)) بالنزول ونصب الخيام إلى حين يتّضح الأمر ويتّخذ القرار النهائي لمسيرته.

 

جيش الكوفة بقيادة عمر بن سعد يتأهبّ للحرب :

وفي تلك الأثناء خرج عمر بن سعد من الكوفة في جيش قدّرته بعض المصادر بثلاثين ألفاً، وبعضها بأكثر من ذلك، وفي رواية ثالثة: إنّ ابن زياد قد استنفر الكوفة وضواحيها لحرب الحسين و توعّد كلَّ مَنْ يقدر على حمل السلاح بالقتل والحبس إن لم يخرجْ لحرب الحسين.

وكان من نتائج ذلك أن امتلأت السجونُ بالشيعة واختفى منهم جماعة، وخرج مَنْ خرج لحرب الحسين من أنصار الاُمويّين وأهل الأطماع والمصالح الذين كانوا يشكّلون أكبر عدد في الكوفة، أمّا رواية الخمسة آلاف مقاتل التي تبنّاها بعض المؤرّخين فمع أ نّها من المراسيل، لا تؤيّدها الظروف والملابسات التي تحيط بحادث من هذا النوع الذي لا يمكن لأحد أن يقدِمَ عليه إلاّ بعد أن يُعِدَّ العُدَّة لكلّ الاحتمالات، ويتّخذ جميع الاحتياطات، وبخاصة إذا كان خبيراً بأهل الكوفة وتقلّباتهم وعدم ثباتهم على أمر من الأُمور(31).

وتوالت قطعات الجيش الأموي بزعامة عمر بن سعد فأحاطت بالحسين((عليه السلام)) وأهله وأصحابه، وحالت بينهم وبين ماء الفرات القريب منهم. وقد جرت مفاوضات محدودة بين عمر بن سعد والإمام الحسين((عليه السلام)) أوضح فيها الإمام((عليه السلام)) لهم عن موقفه وموقفهم ودعوتهم له، وألقى عليهم كل الحجج في سبيل إظهار الحقّ، وبيّن لهم سوء فعلهم هذا وغدرهم ونقضهم للوعود التي وعدوه بها من نصرته وتأييده، وضرورة القضاء على الفساد.

ولكن عمر بن سعد كان أداة الشرّ المنفّذة للفساد والظلم الاُموي، فكانت غاية همّته هي تنفيذ أوامر ابن زياد بانتزاع البيعة من الإمام((عليه السلام)) ليزيد، أو قتله وأهل بيته وأصحابه(32)، متجاهلا حرمة البيت النبوي بل وحاقداً عليه كما جاء في رسالته لعمر: أن حُلْ بين الحسين وأصحابه وبين الماء، فلا يذوقوا قطرة كما صُنع بالتقي الزكي عثمان بن عفان(33).

 

ماذا جرى في كربلاء؟

ليلة عاشوراء :

نهض عمر بن سعد إلى الحسين ((عليه السلام)) عشية يوم الخميس لتسع مضين من المحّرم، وجاء شمر حتى وقف على أصحاب الحسين ((عليه السلام)) فقال: أين بنو اُختنا؟ يعني العباس وجعفر وعبدالله وعثمان أبناء عليّ ((عليه السلام)). فقال الحسين((عليه السلام)) : «أجيبوه وإن كان فاسقاً فإنّه بعض أخوالكم»; وذلك أنّ اُمّهم اُمّ البنين كانت من بني كلاب وشمر بن ذي الجوشن من بني كلاب أيضاً.

فقالوا له : ما تريد ؟ فقال لهم : أنتم يا بني اُختي آمنون فلا تقتلوا أنفسكم مع أخيكم الحسين والزموا طاعة يزيد. فقالوا له: لعنك الله ولعن أمانك! أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له ؟

وناداه العباس بن أمير المؤمنين تبّت يداك ولعن ما جئتنا به من أمانك يا عدوّ الله! أتأمرنا أن نترك أخانا وسيّدنا الحسين بن فاطمة وندخل في طاعة اللعناء وأولاد اللعناء ؟ !

ثم نادى عمر بن سعد يا خيل الله! إركبي وبالجنة أبشري. فركب الناس ثم زحف ابن سعد نحوهم بعد العصر والحسين ((عليه السلام)) جالس أمام بيته محتب بسيفه، إذ خفق برأسه على ركبتيه، فسمعت اُخته زينب الصيحة، فدنت من أخيها وقالت : يا أخي! أما تسمع هذه الأصوات قد اقتربت ؟ فرفع الحسين((عليه السلام)) رأسه فقال: «إني رأيت رسول الله ((صلى الله عليه وآله)) الساعة في المنام فقال إنّك تروح إلينا، فلطمت اُخته وجهها، ونادت بالويل، فقال لها الحسين ((عليه السلام)) : ليس لكِ الويل، يا اُخيّة اسكتي، رحمك الله».

وقال له العباس : يا أخي أتاك القوم فنهض ثم قال : «يا عبّاس اركب ـ بنفسي يا أخي ـ أنت حتى تلقاهم وتقول لهم : ما بالكم وما بدا لكم ؟ وتسألهم

عمّا جاء بهم؟» فأتاهم في نحو من عشرين فارساً منهم زهير بن القين وحبيب بن مظاهر فسألهم فقالوا: قد جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو نناجزكم ، قال : فلا تعجلوا حتى أرجع إلى أبي عبدالله فأعرض عليه ما ذكرتم ، فوقفوا ورجع العباس إليه بالخبر ووقف أصحابه يخاطبون القوم ويعظونهم ويكفّونهم عن قتال الحسين ((عليه السلام)) .

فلما أخبره العباس بقولهم قال له : «ارجع إليهم فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غدوة وتدفعهم عنّا العشية لعلّنا نصلّي لربّنا الليلة وندعوه ونستغفره فهو يعلم أني كنت أحبّ الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار».

فسألهم العباس ذلك ، فتوقف ابن سعد ، فقال له عمرو بن الحجاج الزبيدي : سبحان الله! والله لو أ نّهم من الترك أو الديلم وسألونا مثل ذلك لأجبناهم، فكيف وهم آل محمّد ؟ ! وقال له قيس بن الأشعث بن قيس: أجبهم، لعمري ليصبحنّك بالقتال . فأجابوهم إلى ذلك .

وجمع الحسين ((عليه السلام)) أصحابه عند قرب المساء . قال الإمام زين العابدين ((عليه السلام)): «فدنوت منه لأسمع ما يقول لهم وأنا إذ ذاك مريض، فسمعت أبي يقول لأصحابه : اُثني على الله أحسن الثناء وأحمده على السرّاء والضرّاء، اللهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة وعلّمتنا القرآن وفقّهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة فاجعلنا لك من الشاكرين .

( أمّا بعد ) فإني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عني خيراً ألا وإنّي لأظنّ أنه آخر يوم لنا من هؤلاء ألا وإني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلّ ليس عليكم منّي ذمام، هذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً، وليأخذ كل واحد منكم بيد رجل من أهل بيتي وتفرّقوا في سواد هذا الليل وذروني وهؤلاء القوم; فإنّهم لا يريدون غيري».

فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه وأبناء عبدالله بن جعفر : ولِمَ نفعل ذلك ؟ لنبقى بعدك ؟ لا أرانا الله ذلك أبداً . بدأهم بهذا القول أخوه العبّاس ابن أمير المؤمنين واتبعه الجماعة عليه فتكلموا بمثله ونحوه .

ثم نظر إلى بني عقيل فقال : «حسبكم من القتل بصاحبكم مسلم إذهبوا قد أذنت لكم»، قالوا : سبحان الله! فما يقول الناس لنا وما نقول لهم، إنّا تركنا شيخنا وسيّدنا وبني عمومتنا خير الأعمام ولم نرم معهم بسهم، ولم نطعن معهم برمح، ولم نضرِب معهم بسيف، ولا ندري ما صنعوا، لا والله ما نفعل ذلك ولكنّنا نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا ونقاتل معك حتى نردَ موردك، فقبّح الله العيش بعدك .

وقام إليه مسلم بن عوسجة الأسدي فقال : أنحن نخلّي عنك وقد أحاط بك هذا العدّو ؟ وبم نعتذر إلى الله في أداء حقّك ؟ لا والله لا يراني الله أبداً وأنا أفعل ذلك حتى أكسر في صدورهم رمحي وأضاربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي، ولو لم يكن معي سلاح اُقاتلهم به; لقذفتهم بالحجارة ولم اُفارقك أو أموت معك .

وقام سعيد بن عبدالله الحنفي فقال: لا والله يا ابن رسول الله لا نخلّيك أبداً حتّى يعلم الله أنّا قد حفظنا فيك وصيّة رسوله محمّد ((صلى الله عليه وآله)) والله لو علمت أني اُقتل فيك ثم أحيا ثم اُحرق ثم اُذرّى يُفعل ذلك بي سبعين مرّة; ما فارقتك حتى ألقى حِمامي دونَك ، وكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة ثمّ أنال الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً .

وقام زهير بن القين وقال : والله يا ابن رسول الله لوددت أني قُتلت ثم نُشرت ألف مرّة وأنّ الله تعالى يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن نفس هؤلاء الفتيان من إخوانك وولدك وأهل بيتك .

وتكلّم بقيّة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضاً وقالوا : أنفسنا لك الفداء نقيك بأيدينا ووجوهنا، فإذا نحن قُتلنا بين يديك نكون قد وفينا لربّنا وقضينا ما علينا(34) .

وأمر الحسين ((عليه السلام)) أصحابه أن يقرّبوا بين بيوتهم، ويدخلوا الأطناب بعضها في بعض، ويكونوا بين يدي البيوت كي يستقبلوا القوم من وجه واحد والبيوت من ورائهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم قد حفّت بهم إلاّ الوجه الذي يأتيهم منه عدوّهم .

وقام الحسين((عليه السلام)) وأصحابه الّليل كله يصلّون ويستغفرون ويدعون، وباتوا ولهم دويّ كدويّ النحل ما بين راكع وساجد وقائم وقاعد، فعبر إليهم في تلك الليلة من عسكر ابن سعد اثنان وثلاثون رجلاً .

قال بعض أصحاب الحسين ((عليه السلام)) : مرّت بنا خيل لابن سعد تحرسنا وكان الحسين ((عليه السلام)) يقرأ (ولا يحسبنّ الذين كفروا انّما نملي لهم خيرٌ لأنفسهم إنّما نُملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذابٌ مهين) ، (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيّب) فسمعها رجل من تلك الخيل يقال له عبدالله بن سمير فقال : نحن وربّ الكعبة الطيّبون ميزنا منكم ، فقال له برير بن خضير : يا فاسق أنت يجعلك الله من الطيبين ؟ ! فقال له : مَن أنت ويلك ؟ قال : أنا برير بن خضير فتسابّا ، فلمّا كان وقت السحر خفق الحسين ((عليه السلام)) برأسه خفقة ثم استيقظ فقال : «رأيت كأنّ كلاباً قد جهدت تنهشني وفيها كلب أبقع رأيته أشدّها عليّ وأظنّ أنّ الذي يتولّى قتلي رجلٌ أبرص»(35).

 

يوم عاشوراء :

انقضت ليلة الهدنة، وطلع ذلك اليوم الرهيب، يوم عاشوراء، يوم الدم والجهاد والشهادة، وطلعت معه رؤوس الأسنّة والرماح والأحقاد وهي مشرعة لتلتهم جسد الحسين((عليه السلام)) وتفتك بدعاة الحق والثوار من أجل الرسالة والمبدأ.

نظر الحسين((عليه السلام)) إلى الجيش الزاحف، ولم يزل((عليه السلام)) كالطود الشامخ، قد اطمأنت نفسه، وهانت دنيا الباطل في عينه، وتصاغر جيش الباطل أمامه، ورفع يديه متضرعاً إلى الله تعالى قائلاً : «اللهم أنت ثقتي في كل كَرْب، وأنترَجائي في كُلِ شِدّة وأنت لي في كل أمر نَزَلَ بي ثقةٌ وعدَّةٌ، كم من همٍّ يَضْعَفُ فيهالفؤاد وتقلّ فيه الحيلة ويخذُلُ فيه الصديق و يشمت فيه العدوّ، أنزلته بك وشكوته

إليك، رغبة مني إليك عمّن سواك ففرّجته عني وكشفته فأنت وليّ كل نعمة وصاحب كل حسنة ومنتهى كل رغبة(36).

 

خطاب الإمام((عليه السلام)) في جيش الكوفة :

أخذ جيش عمر بن سعد يشدِّد الحصار على الإمام((عليه السلام)) ولما رأى الحسين((عليه السلام)) كثرتهم وتصميمهم على قتاله إذا لم يستسلم ليزيد بن معاوية، تعمّم بعمامة رسول الله ((صلى الله عليه وآله)) وركب ناقته وأَخذ سلاحه ثم دنا من معسكرهم بحيث يسمعون صوته وراح يقول: «ياأهل العراق ـ وجُلُّهُمْ يسمعون ـ »فقال: «أيها الناس اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتى أعظَكم بما يحقّ لكم عليَّ وحتى أُعْذَرَ إليكم فإن أعطيتموني النّصف كنتم بذلك أسعد، وإن لم تعطوني النّصف من أنفسكم فاجمعوا رأيكم ثم لا يكن أمركم عليكم غُمَّةً ثم اْقضوا إليَّ ولا تُنظِرونِ ( إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَـبَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ)(37)، ثم حمد الله وأثنى عليه وذكرالله تعالى بما هو أهله وصلّى على النبي((صلى الله عليه وآله)) وعلى ملائكته وأنبيائه فَلَمْ يُسْمَعْ متكلمٌ قط قبلَه ولابعدَه أبلغُ في منطق منه» ثم قال: «أمّا بعد فانسبوني فانظروا مَنْ أنا ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها فانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاكُ حُرمتي؟ ألَسْتُ ابنَ بنتِ نبيّكم وابنَ وصيِّه وابن عمّه وأوّل المؤمنين المصدّق لرسول الله((صلى الله عليه وآله)) بما جاء به من عند ربه؟ أوليس حمزةُ سيدُ الشهداء عمّي؟ أو ليس جعفر الطيار في الجنّة بجناحين عَمّي؟ أو لم يبلغكم ما قال رسولُ الله((صلى الله عليه وآله)) لي ولأخي: (هذانِ سيّدا شباب أهل الجنة؟) فإنْ صدقتموني بما أقول ـ وهو الحقّ ـ فوالله ما تعمّدتُ كذباً منذ علمت أن الله يَمْقُتُ عليه أهله، وإنْ كذبتموني فإنَّ فيكم مَنْ إذا سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبدالله الأنصاري وأبا سعيد الخِدْري و سهل بنَ سعد الساعدي وزيد بن أرقم وأنسَ بن مالك يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله((صلى الله عليه وآله)) لي ولأخي، أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟... ثم قال لهم الإمام الحسين((عليه السلام)): فإن كنتم في شك من هذا فتشكّون أني ابن بنت نبيكم فوالله ليس ما بين المشرق والمغرب ابنُ بنتِ نبىّ غيري فيكم ولا في غيركم. ويحكم! أتطلبونني بقتيل منكم قَتَلْتُه أو مال لكم استهلكته أو بقصاص جراحة؟ فأخذوا لا يكلمونه، فنادى: يا شبث بن ربعي! ويا حجّار بن أبجر! ويا قيس بن الأشعث! ويا يزيد بن الحارث! ألَمْ تكتبوا إليَّ أنْ قد أينعت الثمار واْخضرّ الجَنابُ وإنما تقدِم على جند لك مجندة»؟ فقال له

قيس بن الأشعث: ماندري ما تقول، ولكن اِنزل على حكم بني عمّك. فقال له الحسين((عليه السلام)): «لا والله، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفرُّ فِرار العبيد». ثم نادى: «يا عبادَ الله! إني عذْتُ بربّي ورَبِّكم أنْ ترجمُونِ، أعوذ بربّي و ربّكم من كلِّ متكبر لا يؤمن بيوم الحساب»(38).

لقد أبى القوم إلاّ الإصرار على حربه والتمادي في باطلهم، وأجابوه بمثل ما أجاب به أهل مدين نبيَّهم كما حكى الله عزوجل عنهم في كتابه الكريم: (مانفقه كثيراً ممّا تقول ،وإنا لنراك فينا ضعيفاً)(39).

 

الحُر يخيّر نفسه بين الجنّة والنار :

وتأثر الحر بن يزيد الرياحي بكلمات الإمام الحسين((عليه السلام)) وندم على ما سبق منه معه، وراح يدنو بفرسه من معسكر الحسين تارة ويعود الى موقفه أخرى وبدا عليه القلق والاضطراب. وعند ما سئل عن السبب في ذلك قال: «والله إني أُخيِّرُ نفسي بين الجنة والنار وبين الدنيا والآخرة ولا ينبغي لعاقل أن يختار على الآخرة والجنة شيئاً»، ثم ضرب فرسه والتحق بالحسين((عليه السلام)) ووقف على باب فسطاطه، فخرج إليه الحسين((عليه السلام)) فانكبَّ عليه الحرّ يُقبّل يديه ويسأله العفو والصفح، فقال له الحسين((عليه السلام)): «نعم يتوب الله عليك وهو التّواب الرحيم». فقال له الحر: والله لا أرى لنفسي توبة إلاّ بالقتال بين يديك حتى أموتَ دونك. وخطب الحر في أهل الكوفة فوعظهم وذكّرهم موقفهم من الإمام((عليه السلام)) ودعوتهم له وحثّهم على عدم مقاتلة الإمام((عليه السلام)) ثم مضى إلى الحرب فتحاماه الناس، ثم تكاثروا عليه حتى استشهد(40).

 

المعركة الخالدة :

حصّن الإمام((عليه السلام)) مخيّمه وأحاط ظهره بخندق أوْقَد فيه النار ليمنع المباغتة والالتفاف عليه من الخلف، وليحميَ النساء والأطفال من العدوان المحقّق.

نظر شمر بن ذي الجوشن إلى النار في الخندق فصاح: يا حسينُ تعجّلت النار قبل يوم القيامة، فرد عليه: «أنت أولى بها صِلِيّا»(41)، وحاول صاحب الحسين((عليه السلام)) مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهم، فاعترضه الإمام ومنعه قائلا: «لا ترمه فإني أكره أن أبدأهم»(42).

ويقول المؤرخون: إنّ بعض أصحاب الإمام خطب بالقوم بعد خطبة الإمام الاُولى، وأنّ الإمام (عليه السلام) أخذ مصحفاً ونشره على رأسه ووقف بإزاء القوم فخاطبهم للمرة الثانية بقوله : «يا قوم! إنّ بيني وبينكم كتاب الله وسنّة جدّي رسول الله(صلى الله عليه وآله) ثم استشهدهم عن نفسه المقدسة وما عليه من سيف النبيّ(صلى الله عليه وآله) ودرعه وعمامته فأجابوه بالتصديق فسألهم عمّا أقدمهم على قتله، قالوا: طاعةً للأمير عبيدالله ابن زياد، فقال((عليه السلام)): تباً لكم أيتها الجماعَةُ وترحاً أحين استصرختمونا(43) والهين فأصرخناكم موجفين، سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم، وحَشَشْتم علينا ناراً اقتدحناها على عدوّنا وعدوّكم فأصبحتم إلباً(44) لأعدائكم على أوليائكم بغير عدل أفشوه فيكم ولا أمل أصبح لكم فيهم، فهلاّ ـ لكم الويلاتُ ـ تركتمونا والسيفُ مشيم والجأش طامن والرأي لمّا يستحصفْ! ولكن أسرعتم إليها كطيرة الدَّبا(45)، وتداعيتم عليها كتهافُتِ الفراش، ثم نقضتموها فسُحْقاً لكم يا عبيدَ الأُمّة وشُذّاذَ الأحزابِ و نبذة الكتابِ ومحرّفي الكلِمِ وعصبة الإثمِ ونفثةَ الشيطان ومطفئي السُنَنِ، ويْحَكم! أهؤلاء تعضدون وعنا تتخاذلون؟ أجل! والله غدرٌ فيكم قديم، وشجت عليه اُصولكم وتأزرت فروعكم، فكنتم أخبثَ ثمر، شجىً للناظر وأكلةً للغاصب. ألا وإنّ الدعيَّ ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السِّلة والذلة. وهيهات منا الذلة! يأبى اللهُ لنا ذلك ورسولُه والمؤمنون، وحجورٌ طابت وطَهُرَتْ واُنوفٌ حميةٌ ونفوسٌ أبيّةٌ من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام. ألا وإني زاحف بهذه الاُسرة على قلة العدد وخذلان الناصر. ثم أنشدَ أبياتِ فروة بن مسيك المرادي:

فاِنْ نَهْزِمْ فهزّامون قِدْما *** وإن نُهْزَمْ فغيْرُ مهزَّمينا

وما إن طبَّنا جُبْنٌ ولكن *** منايانا ودولةُ آخرينا

فَقُلْ للشامتين بنا أفيقوا *** سَيَلْقى الشامتون كما لقينا

إذا ما الموتُ رَفَّعَ عن اُناس *** كلاكله أناخ بآخرينا(46)

أما والله لا تلبثون بعدها إلاّ كريثما يُركبُ الفرس، حتى تدور بكم دور الرَّحى، و تقلق بكم قلق المحور، عهد عهده إليّ أبي عن جدي رسول الله((صلى الله عليه وآله)) (فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إليَّ ولا تنظرون)(47) (إني توكلتُ على الله ربي وربكم مامن دابة إلاّ هو آخذ بناصيتها إنّ ربي على صراط مستقيم)(48). ثم رفع يديه نحو السماء وقال: «اللهم احبس عنهم قطر السماء وابعث عليهم سنينَ كسنيّ يوسف وسلِّطْ عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأساً مصبَّرةً، فإنهم كذّبونا وخذلونا وأنت ربنا عليك توكلنا وإليك المصير»(49).

كل ذلك وعمر بن سعد مُصرّ على قتال الحسين((عليه السلام))، والإمام الحسين((عليه السلام)) يحاور وينصح ويدفع القوم بالتي هي أحسن. ولما لم يجد النصح مجدياً قال لا بن سعد: «أيْ عمر أتزعم أنك تقتلني ويوليك الدعيّ بلاد الري وجرجان؟ والله لا تتهنّأ بذلك، عهد معهود، فاصنع ما أنت صانع، فإنك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة، وكأني برأسك على قصبة يتراماه الصبيان بالكوفة ويتخذونه غرضاً بينهم» فصرف ابن سعد وجهه عنه مغضباً(50).

واستحوذَ الشيطان على ابن سعد فوضع سهمه في كبد قوسه ثم رمى باتجاه معسكر الحسين((عليه السلام)) وقال: «إشهدوا أني أوّلُ مَنْ رمى» ثم ارتمى الناس وتبارزوا(51).

فخاطب الإمام((عليه السلام)) أصحابه قائلا: «قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لابد منه، فإن هذه السهام رسل القوم إليكم»(52).

فتوجهوا إلى القتال كالأُسود الضارية لا يبالون بالموت مستبشرين بلقاء الله جل جلاله، وكأنهم رأوا منازلهم مع النبيين والصديقين وعباده الصالحين، وكان لا يقتل منهم أحدٌ حتى يقول: السلام عليك يا أبا عبدالله ويوصي أصحابه بأن يفدوا الإمام بالمهج والأرواح، واحتدمت المعركة بين الطرفين، (فكان لا يُقْتَلُ الرجل من أنصار الحسين((عليه السلام)) حتى يَقْتل العشرة والعشرين)(53).

استمرت رحى الحرب تدور في ساحة كربلاء، واستمر معه شلاّل الدم المقدس يجري ليتخذ طريقه عبر نهر الخلود، وأصحابُ الحسين((عليه السلام)) يتساقطون الواحد تلو الآخر، وقد أثخنوا جيش العدو بالجراح وأرهقوه بالقتل، فتصايح رجال عمر بن سعد: لو استمرت الحرب برازاً بيننا وبينهم لأتوا على آخِرنا. لنهجم عليهم مرة واحدة، ولنرشقهم بالنبال والحجارة.

فبدأ الهجوم والزحف نحو من بقي مع الحسين((عليه السلام)) وأحاطوا بهم من جهات متعددة مستخدمين كل أدوات القتل وأساليبه الدنيئة حتى قتلوا أكثر جنود المعسكر الحسيني من الصحابة.

وزالت الشمس وحضر وقت الصلاة، وها هو الحسين((عليه السلام)) ينادي للصلاة وقد تحول الميدان عنده محراباً للجهاد والعبادة، ولم يكن في مقدور السيوف والأسنّة أن تحول بينه وبين الحضور في ساحة المناجاة والعروج إلى حظائر القدس وعوالم الجمال والجلال.

ولم يزل يتقدّم رجلٌ رجلٌ من أصحابه فيقتل ، حتّى لم يبق مع الحسين ((عليه السلام)) إِلاّ أهل بيته خاصّةً . فتقدّم ابنه عليّ بن الحسين ((عليه السلام)) ـ واُمّه ليلى بنت أبي مرّة بن عروة بن مسعود الثّقفيّ ـ وكان من أصبح النّاس وجهاً، فشدَّ على النّاس وهو يقول :

أنا عليُّ بن الحسين بن عليّ *** نحن وبيت الله أولى بالنَّبي

تالله لا يحكم فينا ابن الدَّعي

ففعل ذلك مراراً وأهل الكوفة يتَّقون قتله ، فبصر به مرّة بن منقذ العبديّ فقال : عليَّ آثام العرب إن مرَّ بي يفعل مثل ذلك إن لم أثكل أباه ; فمرَّ يشدُّ على النّاس كما مرَّ في الأوّل ، فاعترضه مرّة بن منقذ فطعنه فصرع ، واحتوشه القومُ فقطّعوه بأسيافهم ، فجاء الحسين ((عليه السلام)) حتّى وقف عليه فقال : « قتل الله قوماً قتلوك يا بنيَّ ، ما أجرأَهم على الرّحمن وعلى انتهاك حرمة الرّسول ! » وانهملت عيناه بالدُّموع ثمّ قال: « على الدُّنيا بعدك العفا » وخرجت زينب أخت الحسين مسرعةً تنادي : يا أُخيّاه وابن أُخيّاه ، وجاءت حتّى أكبّت عليه، فأخذ الحسينُ برأسها فردَّها إلى الفسطاط ، وأمر فتيانه فقال: « احملوا أخاكم » فحملوه حتّى وضعوه بين يدي الفسطاط الّذي كانوا يقاتلون أمامه .

ثمّ رمى رجلٌ من أصحاب عمر بن سعد يقال له : عمرو بن صبيح عبدالله بن مسلم بن عقيل ((رحمه الله)) بسهم ، فوضع عبدالله يده على جبهته يتّقيه، فأصاب السّهم كفَّه ونفذ إلى جبهته فسمّرها به فلم يستطع تحريكها، ثمّ انتحى عليه آخر برمحه فطعنه في قلبه فقتله .

وحمل عبدالله بن قُطبة الطائي على عون بن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه فقتله .

وحمل عامر بن نهشل التّيميّ على محمّد بن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه فقتله .

وشدَّ عثمان بن خالد الهمدانيّ على عبد الرّحمن بن عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه فقتله .

قال حميد بن مسلم : فإنّا لكذلك إذ خرج علينا غلام كأنَّ وجهه شقَّة قمر، في يده سيف وعليه قميص وإزار ونعلان قد انقطع شسع أحدهما، فقال لي عمر بن سعيد بن نفيل الأزديّ : والله لأشدَّنَّ عليه، فقلت: سبحان الله، وما تريد بذلك ؟ ! دعه يكفيكه هؤلاء القوم الّذين ما يبقون على أحد منهم ; فقال : والله لأشدَّنَّ عليه، فشدَّ عليه فما ولّى حتّى ضرب رأسه بالسّيف ففلقه ، ووقع الغلام لوجهه فقال : يا عمّاه ! فجلى(54) الحسين ((عليه السلام)) كما يجلي الصقر ثمّ شدَّ شدّة ليث أغضب ، فضرب عمر بن سعيد بن نفيل بالسّيف فاتّقاها بالسّاعد فأطنَّها من لدن المرفق ، فصاح صيحة سمعها أهل العسكر، ثمّ تنحّى عنه الحسين ((عليه السلام)) . وحملت خيل الكوفة لتستنقذه فوطأته بأرجلها حتّى مات .

وانجلت الغبرة فرأيت الحسين ((عليه السلام)) قائماً على رأس الغلام وهو يفحص برجله والحسين يقول : « بعداً لقوم قتلوك ومن خصمهم يوم القيامة فيك جدُّك ثمّ قال: عزَّ ـ والله ـ على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك ، أو يجيبك فلا ينفعك ، صوت ـ والله ـ كثرَ واتروه وقلَّ ناصروه » ثمّ حمله على صدره ، فكأنِّي أنظر إلى رجلَي الغلام تخطّان الأرض، فجاء به حتّى ألقاه مع ابنه عليِّ بن الحسين والقتلى من أهل بيته، فسألت عنه فقيل لي: هو القاسم بن الحسن بن عليِّ بن أبي طالب ((عليهم السلام)).

ثمّ جلس الحسين ((عليه السلام)) أمام الفسطاط فاُتي بابنه عبدالله بن الحسين وهو طفل فأجلسه في حجره ، فرماه رجل من بني أسد بسهم فذبحه ، فتلقّى الحسين ((عليه السلام)) دمه ، فلمّا ملأ كفَّه صبَّه في الأرض ثمّ قال : « ربّ إن تكن حبست عنّا النّصر من السّماء فاجعل ذلك لما هو خير ، وانتقم لنا من هؤلاء القوم الظّالمين » ثمّ حمله حتّى وضعه مع قتلى أهله .

ورمى عبدالله بن عقبة الغنويّ أبا بكر بن الحسن بن عليِّ بن أبي طالب ((عليهم السلام)) فقتله .

فلمّا رأى العبّاس بن عليّ رحمة الله عليه كثرة القتلى في أهله قال لإخوته من اُمِّه ـ وهم عبدالله وجعفر وعثمان ـ يا بني اُمِّي! تقدّموا حتّى أراكم قد نصحتم لله ولرسوله ، فإنّه لا ولد لكم . فتقدّم عبدالله فقاتل قتالاً شديداً، فاختلف هو وهانيء بن ثبيت الحضرميّ ضربتين فقتله هانيء لعنه الله. وتقدّم بعده جعفر بن عليّ ((عليه السلام)) فقتله أيضاً هانيء . وتعمّد خوليُّ بن يزيد الأصبحيّ عثمان بن عليّ ((عليه السلام)) وقد قام مقام إخوته فرماه بسهم فصرعه ، وشدَّ عليه رجل من بني دارم فاحتزَّ رأسه .

وحملت الجماعة على الحسين ((عليه السلام)) فغلبوه على عسكره ، واشتدَّ به العطش ، فركب المسنّاة(55) يريد الفرات وبين يديه العبّاس أخوه ، فاعترضته خيل ابن سعد وفيهم رجل من بني دارم فقال لهم: ويلكم حُولوا بينه وبين الفرات ولا تمكِّنوه من الماء ، فقال الحسين ((عليه السلام)) : « اللّهمّ أظمئه » فغضب الدّارميُّ ورماه بسهم فأثبته في حنكه، فانتزع الحسين ((عليه السلام)) السّهم وبسط يده تحت حنكه فامتلأت راحتاه بالدَّم ، فرمى به ثمّ قال: « اللّهمَّ إنِّي أشكو إليك ما يفعل بابن بنت نبيِّك » ثمّ رجع إلى مكانه وقد اشتدَّ به العطش .

 

استشهاد الإمام الحسين((عليه السلام))

لم يبقَ مع الإمام الحسين((عليه السلام)) سوى أخيه العباس الذي تقدم إليه يطلب منه الإذن في قتال القوم فبكى الحسين وعانقه ثم أذن له فكان يحمل على أهل الكوفة فينهزمون بين يديه كما تنهزم المعزى من الذئاب الضارية وضجّ أهل الكوفة من كثرة من قتل منهم، ولما قتل قال الحسين((عليه السلام)): «الآن انكسر ظهري وقلّت حيلتي وشمت بي عدوّي»(56).

وفي رواية اُخرى: إنّ الإمام الحسين((عليه السلام)) اتجه الى نهر الفرات وبين يديه أخوه العباس فاعترضته خيل ابن سعد ـ لعنه الله ـ وفيهم رجل من بني دارم فقال لهم: ويلكم حولوا بينه وبين الفرات ولاتمكّنُوهُ من الماء، فقال الحسين((عليه السلام)): اللهم أظمئه، فغضب الدارمي ورماه بسهم فأثبته في حنكه فانتزع الحسين((عليه السلام)) السهم و بسط يده تحت حنكه فامتلأت راحتاه من الدم فرمى به ثم قال: «اللهم إني أشكو إليك ما يفعل بابن بنت نبيك»، ثم رجع إلى مكانه وقد اشتد به العطش وأحاط القوم بالعبّاس((عليه السلام)) فاقتطعوه عنه فجعل يقاتلهم وحده حتى قتل رحمة الله عليه(57).

ونظر الحسين((عليه السلام)) الى ما حوله، ومدّ ببصره إلى أقصى الميدان فلم يرَ أحداً من أصحابه وأهل بيته إلاّ وهو يسبح بدم الشهادة، مقطّعَ الأوصال والأعضاء.

وهكذا بقي الإمام((عليه السلام)) وحده يحمل سيف رسول الله((صلى الله عليه وآله)) و بين جنبيه قلب علي ((عليه السلام)) وبيده راية الحقّ البيضاء، وعلى لسانه كلمة التقوى.

وحينما التفت أبو عبدالله الحسين((عليه السلام)) يميناً وشمالا ولم يرَ أحداً يذبّ عن حرم رسول الله أخذ ينادي هل من ذابٍّ يذبّ عنا؟ فخرج الإمام زين العابدين((عليه السلام)) من الفسطاط وكان مريضاً لا يقدر أن يحمل سيفه واُم كلثوم تنادي خلفه: يابني ارجع. فقال: «يا عمّتاه! ذريني اُقاتل بين يدي ابن رسول الله((صلى الله عليه وآله))».

وإذا بالحسين((عليه السلام)) ينادي: «يا اُم كلثوم! خذيه لئلاّ تبقى الأرض خالية من نسل آل محمّد((صلى الله عليه وآله))»(58).

ويقول المؤرخون: إنه لما رجع الحسين((عليه السلام)) من المسنّاة إلى فسطاطه تقدم إليه شمر بن ذي الجوشن في جماعة من أصحابه، فأحاطوا به فأسرع منهم رجل يقال له مالك بن النسر الكندي فشتم الحسين((عليه السلام)) وضربه على رأسه بالسيف وكان عليه قلنسوة فقطعها حتى وصل إلى رأسه فأدماه فامتلأت القلنسوة دماً، فقال له الحسين((عليه السلام)): «لا أكلت بيمينك ولاشربت بها وحشرك الله مع القوم الظالمين».

ثم ألقى القلنسوة ودعا بخرقة فشدَّ بها رأسَه واستدعى قلنْسوة اُخرى فلبسها واعتمّ عليها، ورجع عنه شمر بن ذي الجوشن ومن كان معه إلى مواضعهم، فمكث هنيئة ثم عاد وعادوا إليه وأحاطوا به»(59).

حمل الإمام الحسين((عليه السلام)) سيفه وراح يرفع صوته على عادة الحروب ونظامها في البراز، وراح ينازل فرسانهم، ويواجه ضرباتهم ببسالة نادرة وشجاعة فذّة، فما برز إليه خصم إلاّ وركع تحت سيفه ركوع الذلّ والهزيمة.

قال حميد بن مسلم: فوالله ما رأيت مكثوراً قط قد قتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً ولا أمضى جناناً منه، أَن كانت الرجّالة لتشدّ عليه فيشدَّ عليها بسيفه فتنكشف عن شماله انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذئب(60).

ولمّا عجزوا عن مقاتلته، لجأوا إلى أساليب الجبناء; فقد استدعى شمر الفرسان فصاروا في ظهور الرجّالة، وأمر الرماة أنْ يرموه فرشقوه بالسهام حتى صار جسمُه كالقنفذ فأحجم عنهم، فوقفوا بإزائه وخرجت أُخته زينب إلى باب الفسطاط فنادت عمر بن سعد بن أبي وقاص: ويلك يا عمر! أيقتل أبو عبدالله وأنت تنظر إليه؟! فلم يجبها عمر بشيء، فنادت ويحكم! أما فيكم مسلم؟ فلم يجبها أحد بشيء. ونادى شمر بن ذي الجوشن الفرسان والرجّالة فقال: ويحكم! ماتنتظرون بالرجل؟ ثكلتكم أُمهاتكم، فحملوا عليه من كل جانب.

فضربه زُرعة بن شريك على كتفه اليسرى فقطعها، وضربه آخر منهم على عاتقه فكبامنها لوجهه، وطعنه سنان بن أنس النخعي بالرمح فصرعه، وبدر إليه خُولى بن يزيد الأصبحي فنزل ليحتزّ رأسه فأرعد فقال له شمر: فتَّ الله في عضدك، مالك ترعد؟

ونزل شمر إليه فذبحه ثم رفع رأسه إلى خولى بن يزيد فقال: إحمله إلى الأمير عمر بن سعد.

ثم أقبلوا على سلب الحسين((عليه السلام)) فأخذ قميصه اِسحاق بن حَيْوَة الحضرمي، وأخذ سراويله أبجر بن كعب، وأخذ عمامته أخنس بن مرثد، وأخذ سيفه رجل من بني دارم، وانتهبوا رحله وإبله وأثقاله وسلبوا نساءه(61).

 

امتداد الحمرة في السماء :

ومادت الأرض واسودَّتْ آفاق الكون وامتدت حمرة رهيبة في السماء كانت نذيراً من الله لاُولئك السفّاكين المجرمين الذين انتهكوا جميع حُرُماتِ الله(62).

وصبغ فرس الحسين((عليه السلام)) ناصيته بدم الإمام الشهيد المظلوم وأقبل يركض مذعوراً نحو خيام الحسين((عليه السلام)) ليعلم العيال بمقتله واستشهاده، وقد صوّرت زيارة الناحية المقدّسة هذا المشهد المأساوي كما يلي:

«فلما نظرت النساء الى الجواد مخزياً والسرج عليه ملوياً خرجن من الخدور ناشرات الشعور، على الخدود لاطمات وللوجوه سافرات وبالعويل داعيات وبعد العز مذَلَّلات وإلى مصرع الحسين مبادرات».

ونادت عقيلة بني هاشم زينب بنت عليّ بن أبي طالب((عليه السلام)) وهي ثكلى: «وا محمّداه! وا أبتاه! وا علياه! وا جعفراه! وا حمزتاه! هذا حسين بالعراء، صريع بكربلاء، ليت السماء أطبقت على الأرض! وليت الجبال تدكدكت على السهل!!»(63).

 

حرق الخيام وسلب حرائر النبوة :

وعمد المجرمون اللئام إلى حرق خيام الإمام أبي عبدالله الحسين((عليه السلام)) غير حافلين بمن في الخيام من بنات الرسالة وعقائل النبوّة. قال الإمام زين العابدين ((عليه السلام)): «والله ما نظرت إلى عمّاتي وأخواتي إلاّ وخنقتني العبرة وتذكّرت فرارهن يوم الطف من خيمة إلى خيمة ومن خباء الى خباء، ومنادي القوم ينادي: أحرقوا بيوت الظالمين!»(64).

وعمد أراذل جيش الكوفة إلى سلب حرائر النبوة وعقائل الرسالة فنهبوا ما عليهن من حليّ وحلل، كما نهبوا ما في الخيام من متاع.

 

الخيل تدوس الجثمان الطاهر :

لقد بانت خِسّة الأُمويين لكلِّ ذي عينين، وعبّرت عن مسخ في الوجدان الذي كانوا يحملونه وماتت الإنسانية فتحولت الأجساد المتحركة إلى وحوش دنيئة لا تملك ذرّة من رحمة ولا يزعها وازع من بقية ضمير إنساني.

فحين حاصرت جيوش الضلالة أهل بيت النبوة ((عليهم السلام)) في عرصات كربلاء كتب ابن زياد إلى عمر بن سعد كتاباً وهو يبيّن له ما يستهدفه من نتيجة للمعركة، وما تنطوي عليه نفسه الشريرة من حقد دفين على الرسالة والرسول ((صلى الله عليه وآله))، وكل ما يمتّ إليهما بصلة أو قرابة، وقد جاء فيه ما يلي:

أما بعد: فإني لم أبعثك إلى الحسين لتكفّ عنه، ولا لتطاوله، ولا لتمنّيه السلامة والبقاء، ولا لتعقد له عندي شافعاً، انظر فإن نزل حسين وأصحابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم سلماً، وإن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثّل بهم فإنهم لذلك مستحقّون، فإن قتل الحسين فأوطئ الخيل صدره وظهره، فإنه عاقّ مشاقّ قاطع ظلوم وليس في هذا أن يضر بعد الموت شيئاً، ولكن علىّ قول، لو قد قتلته فعلت هذا به(65).

على أن ابن زياد كان من أعمدة الحكم الاُموي. ولا نعلم أوامر صدرت من أحد أفراده بحيث كانت ترعى حرمة أو تقديراً لمقام ابن النبيّ((صلى الله عليه وآله)) الذي لم يكن خافياً على أحد من الأُمويين .

وهكذا انبرى ابن سعد بعد مقتل ريحانة رسول الله ((صلى الله عليه وآله)) لينفّذ أوامر سيّده الحاقد ابن زياد، فنادى في أصحابه: من ينتدب للحسين فيوطئه فرسه ؟

فانتدب عشرة، فداسوا جسد الحسين ((عليه السلام)) بخيولهم حتى رضّوا ظهره(66).

 

عقيلة بني هاشم أمام الجثمان العظيم :

ووقفت حفيدة الرسول ((صلى الله عليه وآله)) وابنة أمير المؤمنين ((عليه السلام)) العقيلة زينب ((عليها السلام)) على جثمان أخيها العظيم، وهي تدعو قائلةً: «اللهم تقبّل منّا هذا القربان»(67).

إنَّ الإنسانية لتنحني إجلالاً وخضوعاً أمام هذا الإيمان الذي هو السرّ الوحيد في خلود تضحية الحسين((عليه السلام)) وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.

 

الهوامش

(1) مروج الذهب : 3 / 64، مقتل الحسين ( الخوارزمي ) : 1 / 187 و 216.

(2) مقتل الحسين ( الخوارزمي ) : 1 / 191 .

(3) الفتوح : 5 / 24 ، الإرشاد للمفيد: 2/35، ينابيع المودّة : 402 .

(4) القصص (28): 22 .

(5) الإرشاد 2: 36، بحار الأنوار 44: 332.

(6) تأريخ ابن عساكر : 13 / 68 .

(7) الأخبار الطوال : 209 .

(8) سيرة الأئمّة الاثني عشر: 2 / 58 .

(9) النجاء : السرعة .

(10) الفتوح لابن أعثم : 5 / 33، تأريخ الطبري : 4 / 262، الإرشاد : 2 / 38 ، تذكرة الخواص : 213، مقتل الحسين للخوارزمي : 1 / 195، روضة الواعظين : 171 .

(11) الفتوح لابن أعثم : 5 / 35، الإرشاد: 2/39 ، إعلام الورى : 1 / 436، مقتل الحسين للخوارزمي: 1 / 195.

(12) الفتوح : 5 / 36 ، ومقتل الحسين للخوارزمي : 1 / 196 .

(13) الإرشاد : 2 / 41 ، وإعلام الورى : 1 / 437 .

(14) الإصابة : 1 / 332 .

(15) تهذيب التهذيب : 2 / 349 .

(16) الإرشاد : 2 / 41 ، ومناقب آل أبي طالب : 4 / 90 ، وتذكرة الخواص : 220 .

(17) تاريخ الطبري: 6 / 224، حياة الإمام الحسين : 2 / 348 .

(18) أنساب الأشراف : 79، الأخبار الطوال : 178، الفتوح لابن أعثم : 5 / 69، تاريخ الطبري : 4 / 271، إعلام الورى : 1 / 440، مناقب آل أبي طالب : 4 / 91 .

(19) الفتوح لابن اعثم : 5 / 83 ، إعلام الورى : 1 / 441، الكامل في التاريخ : 3 / 271.

(20) إعلام الورى : 1 / 441، مناقب آل أبي طالب : 4 / 92 ، الكامل في التاريخ : 3 / 271، سيرة الأئمّة الاثني عشر، القسم الثاني : 63.

(21) جاء في «الإرشاد» أنّهم كانوا سبعين رجلا .

(22) الفتوح : 5 / 88، تاريخ الطبري : 4 / 280، مقاتل الطالبيّين : 92، إعلام الورى : 1 / 442 ، ويراجع في تفصيلاته الى : أعيان الشيعة: 1/592، والكامل في التاريخ: 4/32 .

(23) الإرشاد : 2 / 67 .

(24) الكامل في التاريخ : 4 / 39 .

(25) اللهوف على قتلى الطفوف : 27 ، وبحار الأنوار : 44 / 364، أعيان الشيعة : 1 / 592.

(26) كشف الغمّة : 2 / 204، إحقاق الحق : 11 / 598 .

(27) القصص (28) : 41 .

(28) الأخبار الطوال : 252،، تاريخ الطبري : 3 / 309، إعلام الورى : 1 / 451، معجم البلدان : 4 / 444، بحار الأنوار : 44 / 380.

(29) الأخبار الطوال : 253، حياة الحيوان للدميري : 1 / 60، مجمع الزوائد : 9 / 192.

(30) تذكرة الخواص : 260، ناسخ التواريخ : 2 / 168، نفس المهموم : 205، ينابيع المودة: 406.

(31) سيرة الائمّة الاثني عشر القسم الثاني : 68.

(32) الفتوح : 5 / 97، الإرشاد للمفيد: 2 / 85، إعلام الورى: 1 / 451، مقتل الحسين للخوارزمي : 1 / 245، البداية والنهاية : 8 / 189، بحار الأنوار : 44 / 284.

(33) إعلام الورى : 1 / 452.

(34) الإرشاد: 2/93.

(35) راجع بحار الأنوار 45: 3، أعيان الشيعة : 1 / 601 .

(36) الإرشاد : 2 / 96.

(37) الأعراف: 196 .

(38) الإرشاد: 2 / 98، إعلام الورى: 1/459.

(39) هود (11) : 91 .

(40) الفتوح : 5 / 113،الإرشاد : 2 / 99 ، بحار الأنوار : 5 / 15 .

(41) مقتل الحسين ، للمقرم: 277 .

(42) تاريخ الطبري : 3 / 318، مقتل الحسين ، للمقرم: 277 .

(43) استصرختمونا: طلبتم نجدتنا.

(44) إلباً: مجتمعين متضامنين ضدنا.

(45) الدَّبا : الجراد الصغير.

(46) تاريخ ابن عساكر: 69/265، اللهوف في قتلى الطفوف، ابن طاووس: 59 و 124.

(47) يونس (10): 71 .

(48) هود (11) : 56 .

(49) راجع إعلام الورى : 1 / 458، تاريخ ابن عساكر، ترجمة الإمام الحسين((عليه السلام)) : 216، مقتل الحسين للخوارزمي : 2 / 6، مقتل الحسين، للمقرم: ص286.

(50) مقتل الحسين للمقرم: 289.

(51) الإرشاد: 2 / 101 ، إعلام الورى : 1 / 461، اللهوف : 100.

(52) مقتل الحسين للمقرم : 292.

(53) سيرة الأئمّة الاثني عشر : 2 / 76 .

(54) جلّى ببصره : إذا رمى به كما ينظر الصقر الى الصيد . « الصحاح ـ جلا ـ 6 : 2305 » .

(55) المسناة : تراب عال يحجز بين النهر والأرض الزراعية . « تاج العروس ـ سنى ـ 10 : 185 » .

(56) بحار الأنوار : 45 / 440، المنتخب للطريحي : 431، سيرة الائمّة الاثني عشر : 2 / 77 .

(57) الإرشاد: 2 / 109.

(58) بحار الأنوار : 45 / 46.

(59) الإرشاد: 2 / 110، إعلام الورى : 1 / 467.

(60) الإرشاد : 2 / 111، إعلام الورى : 1 / 468.

(61) إعلام الورى : 1 / 469، الإرشاد : 2 / 112.

(62) إعلام الورى : 1 / 429، راجع كشف الغمّة : 2 / 9، سير أعلام النبلاء : 3 / 312، تاريخ الاسلام للذهبي : 15، حوادث سنة 61.

(63) مقتل الحسين للمقرم : 346 .

(64) حياة الإمام الحسين (عليه السلام) ، نقلاً عن تاريخ المظفري : 238 .

(65) تاريخ الطبري : 4 / 314 ، إعلام الورى : 1 / 453 .

(66) إعلام الورى : 1 / 470 ، مقتل الحسين للخوارزمي : 2 / 39 .

(67) حياة الإمام الحسين بن علي ((عليه السلام)) : 2 / 301 .

قراءة 17274 مرة