«رمز الخلود» عاشوراء ونتائـج الثـورة الحسينيـة

قيم هذا المقال
(3 صوت)

«رمز الخلود» عاشوراء ونتائـج الثـورة الحسينيـة

انبعثت ثورة الإمام الحسين ((عليه السلام)) من ضمير الأُمّة الحيّ ومن وحي الرسالة الإسلامية المقدسة ومن البيت الذي انطلقت منه الدعوة الإسلامية للبشرية جمعاء، البيت الذي حمى الرسالة والرسول ودافع عنهما، حتى استقام عمود الدين. وأحدثت هذه الثورة المباركة في التاريخ الإنساني عاصفة تقوض الذل والاستسلام وتدك عروش الظالمين، وأضحت مشعلاً ينير الدرب لكل المخلصين من أجل حياة حرّة كريمة في ظل طاعة الله تعالى.

ولا يمكن لأحد أن يغفل عما تركته هذه الثورة من آثار في الأيام والسنوات التي تلتها رغم كل التشويه والتشويش الذي يحاول أن يمنع من سطوع الحقيقة لناشدها. وبالإمكان أن نلحظ بوضوح آثاراً كثيرة لهذه الثورة العظيمة عبر الأجيال وفي حياة الرسالة الإسلامية بالرغم من أنّا لا نحيط علماً بجميعها طبعاً. وأهم تلك الآثار هي :

 

1 ـ فضح الأُمويين وتحطيم الإطار الديني المزيّف :

بفعل ثورة الإمام الحسين ((عليه السلام)) تكشفت للناس حقيقة النزعة الاُموية المتسلطة على الحكم، ونسفت تضحيات الثائرين كلَّ الاُطر الدينية المزيّفة التي استطاع الاُمويون من خلالها تحشيد الجيوش للقضاء على الثورة، مستعينين بحالة غياب الوعي وشيوع الجهل الذي خلّفته السقيفة. ونلمس هذا الزيف في قول مسلم بن عمرو الباهلي يؤنّب مسلم بن عقيل ربيب بيت النبوة والعبد الصالح لخروجه على يزيد الفاسق، ويفتخر بموقفه قائلاً : «أنا من عرف الحقّ إذ تركته، ونصح الأُمّة والإمام إذ غششته، وسمع وأطاع إذ عصيته»(1).

وهذا عمرو بن الحجاج الزبيدي ـ من قادة الجيش الأموي ـ يحفّز الناس لمواجهة الإمام الحسين ((عليه السلام)) حين وجد منهم تردّداً وتباطؤاً عن الأوامر قائلاً :

يا أهل الكوفة إلزموا طاعتكم وجماعتكم، ولا ترتابوا في قتل من مرق من الدين، وخالف الإمام(2).

فالدين في دعوى الأُمويين طاعة يزيد ومقاتلة الحسين ((عليه السلام)).

ولكن حركة الإمام الحسين ((عليه السلام)) ورفضه البيعة وتضحياته الجليلة نبّهت الأُمّة، وأوضحت لها ما طُمس بفعل التضليل. فقد وقف الإمام الحسين ((عليه السلام)) يخاطبهم ويوضّح مكانته في الرسالة والمجتمع الإسلامي: «أمّا بعد فانسبوني، فانظروا من أنا؟ ثم ارجعوا إلى أنفسكم فعاتبوها وانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكم ((صلى الله عليه وآله)) وابن وصيه وابن عمّه وأوّل المؤمنين بالله والمصدّق لرسوله بما جاء من عند ربه ؟!».

هذا بالإضافة إلى كل الخطب والمحاورات التي جرت في وضع متوتّر حسّاس أوضح للناس مكانة طرفي النزاع. ثم ما آلت إليه نتيجة المعركة من بشاعة في السلوك والفكر فاتضحت خسّة الأُمويين ودناءتهم ودجلهم.

وكان الأثر البالغ في مواصلة الثورة الحسينية بدون سلاح دمويّ حين واصلت العقيلة زينب بنت أمير المؤمنين ((عليه السلام)) فضح الجرائم التي ارتكبها بنو اُميّة ومن ثم توضيح رسالة الإمام الحسين ((عليه السلام)).

إنّ جميع المسلمين متفقون ـ على اختلاف مذاهبهم وآرائهم ـ بأنّ الموقف الحسيني كان يمثّل موقفاً إسلامياً شرعياً، وأنّ يزيد كان مرتدّاً ومتمردّاً على الإسلام والشرع الإلهي والموازين الدينية.

 

2 ـ إحياء الرسالة الإسلامية :

لقد كان استشهاد الإمام الحسين ((عليه السلام)) هزّة لضمير الأُمّة وعامل بعث لإرادتها المتخاذلة، وعامل انتباه مستمر للمنحدر الذي كانت تسير فيه بتوجيه من بني اُميّة ومن سبقهم من الحكّام الذين لم يحرصوا على وصول الإسلام نقيّاً الى من يليهم من الأجيال .

لقد استطاع سبط الرسول ((صلى الله عليه وآله)) أن يبيّن الموقف النظري والعملي الشرعي للاُمّة تجاه الانحراف الذي يصيبها حينما يستبدّ بها الطغاة، فهل انتصر الحسين ((عليه السلام)) في تحقيق هذا الهدف ؟ لعلّنا نجد الجواب فيما قاله الإمام زين العابدين((عليه السلام)) حينما سأله إبراهيم بن طلحة بن عبدالله قائلاً : من الغالب ؟ قال ((عليه السلام)) : «إذا دخل وقت الصلاة فأذّن وأقم تعرف الغالب»(3).

لقد كان الحسين ((عليه السلام)) هو الغالب إذ تحقق أحد أهم أهدافه السامية بعد محاولات الجاهلية لإماتته وإخراجه من معترك الحياة .

 

3 ـ الشعور بالإثم وشيوع النقمة على الأُمويين :

اشتعلت شرارة الشعور بالإثم في نفوس الناس، وكان يزيدها توهجاً واشتعالاً خطابات الإمام عليّ بن الحسين ((عليهما السلام)) وزينب بنت عليّ بن أبي طالب وبقية أفراد عائلة النبيّ ((صلى الله عليه وآله)) التي ساقها الطغاة الاُمويون كسبايا من كربلاء الى الكوفة فالشام .

فقد وقفت زينب ((عليها السلام)) في أهل الكوفة حين احتشدوا يحدّقون في موكب رؤوس الشهداء والسبايا، ويبكون ندماً على ما فرّطوا وما حصل لآل النبيّ ((صلى الله عليه وآله)) فأشارت إليهم أن اسكتوا فسكتوا فقالت :

أما بعد :

«يا أهل الكوفة أتبكون ؟ فلا سكنت العبرة ولا هدأت الرّنة، إنّما مثلكم مثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم ألا ساء ما تزرون، أي والله، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها فلن ترحضوها بغسل أبداً، وكيف ترحضون قتل سبط خاتم النبوة، ومعدن الرسالة ومدار حجّتكم، ومنار محجّتكم، وهو سيد شباب أهل الجنّة؟».

وتكلم عليّ بن الحسين ((عليهما السلام)) فقال :

«أيها الناس! ناشدتكم الله، هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه،

وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلتموه؟ فتباً لكم لما قدمتم

لأنفسكم وسوأة لرأيكم، بأي عين تنظرون إلى رسول الله إذ يقول لكم قتلتم عترتي، وانتهكتم حرمتي؟ فلستم من اُمتي»(4).

وروي أيضاً أن يزيد بن معاوية فرح فرحاً شديداً وأكرم عبيدالله بن زياد ولكن ما لبث أن ندم ووقع الخلاف بينه وبين ابن زياد حين علم بحال الناس وسخطهم عليه، ولعنهم وسبّهم(5).

ولقد كان الشعور بالإثم يمثّل موقفاً عاطفياً مفعماً بالحرارة والحيوية والرغبة الشديدة بالانتقام من الحكم الاُموي، مما دفع بالكثير في الجماعات الإسلامية إلى العمل للتكفير عن موقفهم المتخاذل عن نصرة الإمام الحسين ((عليه السلام)) بصيغة ثورة مسلحة لمواجهة الحكم الاُموي الظالم.

صحيح أنه لا يمكننا أن نعتبر موقف المسلمين هذا موقفاً عقلياً نابعاً من إدراك فساد الحكم الاُموي وبعده عن الرسالة الإسلامية، إلاّ أنه كان موقفاً صادقاً يصعب على الحاكمين السيطرة عليه كالسيطرة على الموقف العقلاني، فكان الحكام الظلمة وعبر مسيرة العداء لأهل البيت النبوي((عليهم السلام)) يحسبون له ألف حساب.

 

4 ـ إحياء إرادة الأُمّة وروح الجهاد فيها(6) :

كانت ثورة الإمام الحسين ((عليه السلام)) السبب في إحياء الإرادة لدى الجماهير المسلمة وانبعاث الروح النضالية، وهزّة قوية في ضمير الإنسان المسلم الذي ركن الى الخنوع والتسليم، عاجزاً عن مواجهة ذاته ومواجهة الحاكم الظالم الذي يعبث بالاُمّة كيف يشاء، مؤطّراً تحركه بغطاء ديني يحوكه بالدجل والنفاق، وبأيدي وعاظ السلاطين أحياناً واُخرى بحذقه ومهارته في المكر والحيلة.

فتعلم الإنسان المسلم من ثورة الحسين ((عليه السلام)) أن لا يستسلم ولا يساوم، وأن يصرخ معبّراً عن رأيه ورغبته في حياة أفضل في ظل حكم يتمتع بالشرعية أو على الأقل برضا الجماهير.

ونجد انطلاقات عديدة لثورات على الحكم الأموي وإن لم يُكتب لها النجاح; إلاّ أنها توالت حتى سقط النظام. ورغم أن أهدافها كانت متفاوته إلاّ أنها كانت تستلهم من معين ثورة الحسين ((عليه السلام))، أو تستعين بالظرف الذي خلقته. فمن ذلك ثورة التوابين(7) التي كانت ردّة فعل مباشرة للثورة الحسينية، وثورة المدينة(8)، وثورة المختار الثقفي(9) الذي تمكن من محاكمة المشاركين في قتل الحسين((عليه السلام)) ومجازاتهم بأفعالهم الشنيعة وجرائمهم الفضيعة، ثم ثورة مطرف بن المغيرة، وثورة ابن الأشعث، وثورة زيد بن عليّ ابن الحسين ((عليهما السلام))(10)، وثورة أبي السرايا(11).

لقد أحيت الثورة الحسينية روح الجهاد وأجّجتها، وبقي النبض الثائر في الأُمّة حيّاً رغم توالي الفشل اللاحق ببعض تلكم الثورات. إلاّ أنّ الأُمّة الإسلامية أثبتت حيويّتها وتخلّصت من المسخ الذي كاد أن يطيح بها بأيدي الأُمويين وأسلافهم .

 

مـن تـراث الإمـام الحسيـن ((عليه السلام))

نظرة عامّة في تراث الإمام الحسين ((عليه السلام)) :

الحسين بن عليّ بن أبي طالب ((عليهما السلام)) قائد مبدئي وأحد أعلام الهداية الربّانية الذين اختارهم الله لحفظ دينه وشريعته، وجعلهم اُمناء على تطبيقها، وطهّرهم من كل رجس ليصونوها من أي تحريف أو تحوير.

إنّ المحنة التي عاشها الأئمّة الثلاثة عليّ والحسن والحسين ((عليهم السلام))

كانت أكبر محنة للعقيدة والأُمّة; لأنّها قد بدأت بانحراف القيادة عن خط الرسالة; ولكنها لم تقتصر على الانحراف عن المبدأ الشرعي في ممارسة الحكم فحسب; وإنما كانت تمتد أبعادها إلى أعماق الأُمة والشريعة.

إنّ هذا الانحراف الخطير قد زاد في عزيمة هؤلاء الأئمّة الهداة، ممّا جعلهم يهتمون بإحكام قواعد الشريعة في الأُمّة وتعليمها وتربيتها بما يحول دون تسرّب الانحراف إليها بسرعة، وبما يحول دون تفتيتها وتمزيق قواها. ومن هنا كانت تربية الجماعة الصالحة والسهر على تنشئتها والاهتمام بقضاياها أمراً في غاية الأهمّية، ويظهر للمتتبع والمحقّق عظمة ذلك فيما لو أراد أن يقارن بين مواقف المسلمين تجاه أهل بيت الرسول ((صلى الله عليه وآله)) خلال خمسين عاماً بعد وفاة الرسول ((صلى الله عليه وآله)).

ومن هنا كان التراث الذي تركه لنا كل من الإمام المرتضىوالحسن المجتبى والحسين الشهيد((عليه السلام)) بكربلاء تراثاً عظيماً ومهمّاًجدّاً.

حيث نلمس الغناء في هذه الثروة الفكرية والعلمية التي وصلتنا عنهم((عليهم السلام)).

وللمتتبع أن يراجع موسوعة كلمات الإمام الحسين ((عليه السلام)) ووثائق

الثورة الحسينية، وبلاغة الحسين ومجموعة خطبه ورسائله; ليقف على عظمة هذه الثروة الكبرى وقفة متأمل ومستفيد. وها نحن نستعرض صوراً من اهتمامات هذا الإمام العظيم فيما يلي من بحوث :

 

في رحاب العقل والعلم والمعرفة :

1 ـ سُئل الإمام الحسين((عليه السلام)) عن أشرف الناس، فقال: «من اتّعظ قبل أن يوعَظ واستيقظ قبل أن يوقظ»(12).

2 ـ وقال ((عليه السلام)): «لا يكملُ العقلُ إلاّ باتّباع الحق»(13).

3 ـ «العاقل لا يحدِّث مَن يخاف تكذيبَه، ولا يَسأل مَن يخاف منعَه ولا يثِقُ بِمَن يخافُ غدرَه، ولا يرجو مَن لا يوثقُ برجائه»(14) .

4 ـ «العلم لقاحُ المعرفة، وطول التجارب زيادةٌ في العقل، والشرف التقوى، والقنوعُ راحةُ الأبدان، ومن أحبَّكَ نهاكَ ومن أبغضك أغراك»(15).

5 ـ «من دلائل العالم انتقادُه لحديثهِ وعلمه بحقائق فنونِ النظر»(16).

6 ـ «لو أنّ العالِمَ كلّ ما قال أحْسَنَ وأصابَ لاَوْشَكَ أن يجنّ من العُجْبِ، وإنّما العالِمُ مَن يكثرُ صَوابُه»(17).

7 ـ وفي دعاء عرفةَ للإمام الحسين ((عليه السلام)) مقاطع بديعة ترتبط بالمعرفة البشرية وسُبُل تحصيلها وقيمة كل سبيل وما ينبغي للعاقل أن يسلكه من السبل الصحيحة والموصلة الى المقصود، نختار منها نماذج ذات علاقة ببحثنا هذا:

قال ((عليه السلام)) :

أ ـ «إلهي أنا الفقير في غناي فكيف لا أكون فقيراً في فقري؟ إلهي أنا الجاهل في علمي فكيف لا أكون جهولاً في جهلي؟ ...» .

ب ـ «إلهي علمتُ باختلاف الآثار وتنقّلات الأطوار أنّ مرادك منّي أن تتعرّف إليَّ في كل شيء حتى لا أجهلك في شيء ...» .

ج ـ «إلهي تردّدي في الآثار يوجب بُعد المزار فَاجمعني عليك بحذمة توصلني إليك، كيف يُستَدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك ؟ أيكونُ لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكونَ هو المظهِرَ لك ؟! متى غبتَ حتى تحتاج الى دليل يدلّ عليك ؟!. ومتى بَعُدْتَ حتّى تكونَ الآثار هي التي توصل إليك؟ عميت عين لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبّك نصيباً».

د ـ «إلهي أمرتَ بالرجوع إلى الآثار فأرجعني اليك بكسوةِ الأنوار وهداية الاستبصار حتى أرجعَ إليك منها كما دخلتُ إليك منها مَصونَ السرِّ عن النظرِ إلَيْها ومرفوع الهمّة عن الاعتمادِ عليها».

هـ ـ «منك أطلُبُ الوصول إليك وبك استدلُّ عليك فاهدني بنورك إليك وأقمني بصدْق العبودّية بين يديك».

و ـ «إلهي علّمني من علمك المخزون وصُنّي بستْرك المصون. إلهي حقّقني بحقايق أهلِ القُرب...».

ز ـ «إلهي أخرِجني من ذُلِّ نفسي وطهّرني مِن شكّي وشركي قبل حلول رمسي».

ح ـ «إلهي إنّ القضاء والقدر يُمنيّني، وإنّ الهوى بوثائق الشهوة أسرني، فكن أنت النصير لي حتَى تنصرني وتبصرني».

ط ـ «أنتَ الذي أشرقت الأنوار في قلوب أوْليائك حتى عرفوك ووحَّدوك، وأنت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبّائك حتّى لم يحبّوا سِواك ولم يلجأوا إلى غيرك، أنت المُؤنس لهم حيث أوحشتهم العوالم، وأنت الذي هديتهم حيث استبانت لهم المعالم. ماذا وجد من فقدكَ ؟! وما الذي فقد من وجدك ؟!».

ي ـ «أنت الذي لا إله غيرك، تعرفت لكلّ شيء فما جهلك شيءٌ، وأنت الذي تعرّفت إليَّ في كلّ شيء فرأيْتُك ظاهراً في كل شيء . . . كيف تخفى وأنت الظاهرُ ؟ أم كيف تغيبُ وأنت الرقيبُ الحاضِرُ؟!»(18).

 

في رحاب القرآن الكريم :

لقد اعتنى أهل البيت الطاهرون بالقرآن الكريم اعتناءاً وافراً فعكفوا على تعليمه وتفسيره وفقه آياته وتطبيقه وصيانته عن أيدي العابثين والمحرّفين، وتجلّت عنايتهم به في سلوكهم وهديهم وكلامهم. وقد اُثرت عن الإمام أبي عبدالله الحسين ((عليه السلام)) كلمات جليلة حول التفسير والتأويل والتطبيق، وهي جديرة بالمطالعة والتأمل نختار نماذج منها:

أ ـ قال ((عليه السلام)) : «كتاب الله عزّوجل على أربعة أشياء: على العبارة والإشارة واللطائف والحقائق، فالعبارةُ للعوام، والإشارة للخواص واللطائفُ للأولياء، والحقائق للأنبياء»(19).

ب ـ «من قرأ آيةً من كتاب الله في صلاته قائماً يُكتَب له بكل حرف مِئةُ حَسَنَة، فإن قَرَأها في غير صلاة كتب اللهُ له بكل حرف عَشْراً، فإن استمَعَ القرآنَ كان له بكل حرف حَسَنةٌ، وإن خَتَمَ القرآنَ ليلاً صلّت عليه الملائكة حتى يُصبِحَ، وإن ختَمَه نهاراً صلّت عليه الحفَظَةُ حتى يُمسيَ. وكانت له دعوةٌ مستجابَةٌ وكان خيراً له ممّا بين السماءِ والأرضِ»(20).

ج ـ وعنه ((عليه السلام)) في تفسير قوله تعالى : (تُبَدُّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الاَْرْضِ )يعني بها «أرض لم تكتسب عليها الذنوب، بارزة ليست عليها جبال ولا نبات كما دحاها أوّل مرة»(21).

د ـ وسأله رجل عن معنى (كهيعص) فقال له: لو فسّرتُها لك لمشيت على الماء(22).

هـ ـ وقال النصرُ بن مالك له: يا أبا عبدالله حَدِّثني عن قول الله عزَّوجَلَّ (هذَانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ )، قال: «نحن وبنو اُمية اختصمنا في الله عزّوجلّ، قلنا صدق الله، وقالوا: كذب اللهُ، فنحن وإيّاهم الخصمان يوم القيامة»(23).

و ـ وفي قوله تعالى: (الَّذِينَ إِن مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ)قال ((عليه السلام)): «هذه فينا أهل البيت»(24).

ز ـ في قوله تعالى : (قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) قال((عليه السلام)): «انّ القرابة الّتي أمَرَ اللهُ بصلتها وعظم حقّها وجعل الخير فيها قرابتنا أهل البيت الذين أوجب حقَّنا على كلّ مسلم»(25).

ح ـ وفسّر النعمة في قوله تعالى: ( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) «بما أنعم الله على النبيّ ((صلى الله عليه وآله)) من دينهِ»(26).

ط ـ وفسّر الصَمَد بقوله : إنّ الله قد فَسَّرَهُ بقوله: (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُن لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)(27).

ي ـ وقال : «الصمد : الذي لا جوف له، والصمد: الذي قد انتهى سؤدده، والصمد: الذي لا يأكل ولا يشرب. والصمد : الذي لا ينام، والصمد: الدائم الذي لم يزل ولا يزال»(28).

ك ـ وروي أنّ عبد الرحمن السلمي علّم ولد الحسين ((عليه السلام)) سورة الحمد، فلمّا قرأها على أبيه أعطاه ((عليه السلام)) ألف دينار وألف حُلّة وحشا فاه دُرّاً ، فقيل له في ذلك، فقال ((عليه السلام)) : وأين يقع هذا من عطائه ؟ يعني بذلك تعليمه القرآن(29).

 

في رحاب السُنّة النبويّة المباركة :

لقد عاصر الحسين جدّه رسول الله ((صلى الله عليه وآله)) وعاش في كنف الوحي والرسالة وارتضع من ثدي الإيمان، فحمل هموم الرسالة الخاتمة كاُمّه وأبيه وأخيه، وعلم أنّ سنة الرسول وسيرته هي المصدر الثاني للإشعاع الرسالي، وأيقن بضرورة الاهتمام بهما وضرورة الوقوف أمام مؤامرات التحريف والتضييع، ومنع التدوين التي تزعّمها جملة من كبار الصحابة وكيف واجهوا جدّه بكل صلف، حذراً من انكشاف الحقائق التي تحول دون وصولهم للسلطة أو تعكّر عليهم صفوها.

ومن هنا نجد الحسين ((عليه السلام)) يقف بكل شجاعة أمام هذا التآمر على الدين، ويضحّي بأغلى ما لديه من أجل إحياء شريعة جدّه سيد المرسلين، محقّقاً شهادة جدّه الخالدة في حقّه : «حسين منّي وأنا من حسين»، «ألا وإن الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة».

وهكذا نجد في تراثه الرائع اعتناءه البليغ بنقل السيرة النبوية الشريفة، والتحديث بسنّته والعمل بها وإحيائها، ولو بلغ مستوى الثورة على من يتسلّح بها لمسخها وتشويهها.

قال صلوات الله عليه :

1 ـ «كان رسول الله ((صلى الله عليه وآله)) أحسن ما خلق اللهُ خلْقاً»(30).

2 ـ وروى الحسين ((عليه السلام)) ـ كأخيه الحسن ـ وصفاً دقيقاً للرسول((صلى الله عليه وآله)) وهديه في سيرته مع نفسه وأهل بيته وأصحابه ومجلسه وجلسائه، أخذاه من أبيهما علي((عليه السلام)) وهو الذي ربّاه الرسول((صلى الله عليه وآله)) منذ نعومة أظفاره حتى التحاقه بالرفيق الأعلى. ونشير إلى مقطع من هذه السيرة. قال الحسين ((عليه السلام)) فسألته عن سكوت رسول الله ((صلى الله عليه وآله))، فقال:

«كان سكوته على أربع : على الحلم والحذر والتقدير والتفكّر. فأما التقدير ففي تسوية النظر والاستماع بين الناس، وأمّا تفكّره ففيما يبقى أو يفنى. وجمع له الحلم في الصبر، فكان لا يغضبه شيء ولا يستفزّه، وجُمع له الحذر في أربع: أخذه بالحَسَن ليُقتدى به، وتركه القبيح ليُنتهى عنه، واجتهاده الرأي في صلاح اُمّته، والقيام في ما جُمع له من خير الدنيا والآخرة»(31).

3 ـ وروى أيضاً أنّ رسول الله ((صلى الله عليه وآله)) أصبح وهو مهموم، فقيل له: ما لَكَ يا رسول الله؟ فقال: «إني رأيت في المنام كأنّ بني اُميّة يتعاورون منبري هذا». فقيل: يا رسول الله! لا تهتم فإنها دُنياً تنالهُمُ، فأنزل الله: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ...)(32).

4 ـ وروى أيضاً أنّ النبيّ ((صلى الله عليه وآله)) كان إذا أكل طعاماً يقول: «اللهم بارك لنا فيه، وارزقنا خيراً منه»، وإذا أكل لَبَناً أو شَرِبَه يقول: «اللهم بارك لنا فيه وارزقنا منه»(33).

وكان يرفع يديه إذا ابتهل ودعا يفصل بينهما كما يَستَطْعِمُ المسكينُ(34).

5 ـ وسُئل عن الأذان وما يقول الناس فيه، قال: «الوحي ينزل على نبيّكم، وتزعمون أنّه أخَذَ الأذانَ عن عبدالله بن زيد؟! بل سمعت أبي عليّ بن أبي طالب((عليه السلام)) يقول: أهبَطَ الله عزّوجلَّ ملكاً حين عُرِج برسول الله((صلى الله عليه وآله)) فأذّن مثنى مثنى، وأقامَ مثنى مثنى، ثم قال له جبرئيل: يا محمّد هكذا أذان الصلاة»(35).

6 ـ وروى أنّ رسول الله((صلى الله عليه وآله)) بعث مع عليّ((عليه السلام)) ثلاثين فرساً في غزاة السلاسل فقال: «يا عليّ أتلو عليك آيةً في نفقة الخيل: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً ) يا علي هي النفقة على الخيل ينفق الرجلُ سّراً وعلانيةً»(36).

وقد نقل ((عليه السلام)) حوادث عصر الرسول ((صلى الله عليه وآله)) ممّا رآه مباشرة أو سمعه عن اُمّه أو أبيه وهما المعصومان من الزلل والمعتمدان في النقل(37).

 

في رحاب أهل البيت ((عليهم السلام)) :

لقد دلّ حديث الثقلين ـ المتواتر والمقبول لدى عامة المسلمين ـ على أنّ خلود الإسلام رهن الأخذ بركنين مُتلازمين وهما: القرآن الكريم وعترة النبيّ المختار صلوات الله عليهم أجمعين فإنّهما لن يفترقا حتى يردا الحوض على النبيّ ((صلى الله عليه وآله)). فلا بد للمسلمين من التمسّك بهما ليصونوا أنفسهم عن الضلال في كل عصر وزمان.

ومن هنا جهد أعداء الإسلام القدامى على التفريق بين هذين الركنين; تارةً بدعوى تحريف القرآن لفظاً أو معنىً، واُخرى بالمنع عن تفسيره أو تطبيقه، وثالثةً بانتقاص العترة، ورابعةً بعزلهم عن ممارسة دورهم السياسي والاجتماعي والتثقيفي، وخامسةً بطرح البديل عنهم ورفع شعار الاستغناء عنهم وعن علمهم ودرايتهم.

والأئمّة المعصومون المأمونون ـ على سلامة الرسالة الإسلامية بنصّ من الوحي الإلهي ـ كثّفوا جهودهم وركّزوا جهادهم على صيانة هذين الأساسين من أيدي العابثين وان كلّفهم ذلك أنفسهم وأموالهم، بل كلّ ما يملكون تقديمه فداءً للرسالة المحمّدية.

ونشير إلى جملة من النصوص المأثورة عن الحسين بن عليّ((عليهما السلام)) في هذا الصدد :

1 ـ لما قضى رسول الله ((صلى الله عليه وآله)) مناسكه من حجة الوداع ركب راحلته وأنشأ يقول: «لا يدخل الجنّة إلاّ من كان مُسلماً. فقام إليه أبو ذرّ الغفاري((رحمه الله)) فقال: يا رسول الله: وما الإسلام ؟ فقال ((صلى الله عليه وآله)): الإسلام عريان ولباسه التقوى وزينته الحياء وملاكه الورع، وكماله الدين، وثمرته العمل، ولكلّ شيء أساس وأساس الإسلام حبنّا أهل البيت»(38).

2 ـ وجاء عنه ((عليه السلام)) أنّه قال: «من أحبّنا كان منّا أهل البيت». واستدلّ على ذلك بقوله تعالى تقريراً لقول العبد الصالح: «فمن تبعني فإنّه منّي»(39).

وواضح أنّ من أحبّهم فسوف يتّبعهم ومن تبعهم كان منهم.

3 ـ وقال ((عليه السلام)): «أحِبّونا حُبَّ الإسلام فإنّ رسول الله((صلى الله عليه وآله)) قال: لا ترفعوني فوق حقّي; فإن الله تعالى اتخّذني عبداً قبل أن يتخّذني رسولاً»(40).

4 ـ وقال ((عليه السلام)): «ما كُنّا نعرفُ المنافقين على عهد رسول الله ((صلى الله عليه وآله)) إلاّ ببغضهم عليّاً وولده ((عليهم السلام))»(41).

5 ـ وروي أنّ المنذر بن الجارود مرّ بالحسين((عليه السلام)) فقال: كيف أصبحت جعلني الله فداك ـ يا ابن رسول الله ؟ فقال ((عليه السلام)) : «أصبَحَتْ العربُ تعتدّ على العَجَم بأنّ محمّداً منها، وأصَبَحَتْ العَجَمُ مُقِرَّةً لها بذلك، وأصبَحْنا وأصبَحَتْ قريشٌ يعرفون فضلَنا ولا يَرَوْنَ ذلكَ لنا، ومن البلاء على هذِهِ الاُمّةِ أنّا إذا دعوناهُم لم يُجيبونا وإذا تركناهم لم يهتدوا بغيرِنا»(42).

 

بشائر الحسين ((عليه السلام)) بالمهدي المنتظر ((عليه السلام)) ودولته :

تراكمت البشائر النبويّة حول غيبة الإمام المهدي المنتظر وظهوره وخصائص دولته وأوصافه ونسبه الشريف، كما توضح الصحاح والمسانيد هذه الحقيقة في أبواب الملاحم والفتن وأشراط الساعة وغيرها.

واعتنى الأئمة من أهل البيت ((عليهم السلام)) بهذه القضية اعتناءاً لا يقل عن عناية الرسول الخاتم ((صلى الله عليه وآله)) واستمراراً للخط الذي اختطّه والمنهج الذي سلكه في التمهيد لدولة الحق التي تتكفل تحقيق آمال الأنبياء والأوصياء جميعاً وعلى مدى التاريخ.

وقد كثرت النصوص الواصلة إلينا عن أبي الأئمّة التسعة من ولد الحسين ((عليه السلام)). فروى عن جدّه رسول الله((صلى الله عليه وآله)) وعن أبيه أمير المؤمنين((عليه السلام)) مجموعة فريدة من التصريحات المهمّة بشأن المهدي((عليه السلام)) نختار نماذج منها:

1 ـ قال ((عليه السلام)) : دخلت على جدّي رسول الله ((صلى الله عليه وآله)) فأجلسني على فخذه وقال لي: «إنّ الله اختار من صُلبك يا حسين تسعة أئمة تاسعهم قائمهم، وكلّهم في الفضل

والمنزلة عند الله سواء»(43).

2 ـ وسأله شعيب بن أبي حمزة قائلاً : أنت صاحبُ هذا الأمر؟ فأجابه: لا، فقال له: فمن هو؟ فأجاب ((عليه السلام)): «الذي يملؤها عدلاً كما مُلئِت جَوْراً، على فترة من الأئمّة تأتي، كما أنّ رسول الله ((صلى الله عليه وآله)) بُعِث على فترة من الرسل»(44).

3 ـ وقال ((عليه السلام)) : «لصاحب هذا الأمر غيبتان إحداهما تطول حتى يقول بعضهم: مات وبعضهم: قتِل، وبعضهم: ذهب، ولا يطّلعُ على موضعه أحدٌ مِن وليّ ولا غيرهِ إلاّ المولى الذي يلي أمره»(45).

4 ـ وقال ((عليه السلام)) : «لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد لطوَّلَ الله عزّوجلّ ذلك اليوم حتى يخرجَ رجلٌ من ولدي فيملأها عدلاً وقسطاً كما مُلئِت جوراً وظُلماً، كذلك سمعت رسول الله((صلى الله عليه وآله)) يقول»(46) .

5 ـ وقال ((عليه السلام)): «للمهدي خمسُ علامات: السفياني واليماني والصيحةُ من السماء والخسفُ بالبيداء وقتل النفسِ الزكيّة»(47).

6 ـ وقال ((عليه السلام)) أيضاً: «لو قام المهديّ لأنكره الناس; لأنّه يرجع إليهم شابّاً موفّقاً، وإنّ من أعظم البليّة أن يخرج إليهم صاحبُهم شابّاً وهم يحسبونَه شيخاً كبيراً»(48).

7 ـ وقال ((عليه السلام)): «في التاسع من ولدي سُنّة من يوسف وسنّة من موسى بن عمران ((عليهما السلام)) وهو قائمنا أهل البيت، يُصلح الله تبارك وتعالى أمرَه في ليلة واحدة»(49).

8 ـ وقال ((عليه السلام)): «إذا خرج المهدي ((عليه السلام)) لم يكن بينه وبين العرب وقريش إلاّ السيف، وما يستعجلون بخروج المهديّ؟ والله ما لباسُه إلاّ الغليظُ ولا طعامه إلاّ الشعيرُ، وما هو إلاّ السيفُ، والموتُ تحت ظِلِّ السَيْفِ»(50).

 

في رحاب العقيدة والكلام :

ونختار نماذج ممّا وصلنا من نصوص عن أبي الشهداء الحسين بن عليّ((عليهما السلام)).

1 ـ ومما قاله عن توحيد الله سبحانه : «... ولا يقدّر الواصِفون كنه عظمته، ولا يخطر على القلوبِ مبلَغَ جبروته; لأنه ليس له في الأشياء عديل، ولا تدركه العلماء بألبابها ولا أهل التفكير بتفكيرهم إلاّ بالتحقيق إيقاناً بالغيبِ; لأنه لا يوصَفُ بشيء من صفات المخلوقين وهو الواحد الصمدُ، ما تُصُوِّر في الأوهامِ فَهُوَ خلافُه ... يوجِدُ المفقودَ ويُفقِدُ الموْجُودَ، ولا تجتمع لغيره الصفتانِ في وقت، يصيب الفكرُ منه الإيمانَ به موجوداً، ووجودَ الإيمانِ لا وجودَ صِفَة، به توصف الصفاتُ لا بها يوصَفُ، وبه تُعرَفُ المعارِفُ لا بها يُعرَف، فذلك الله، لا سَميَّ لَهُ، سبحانه ليس كمثلِهِ شيء، وهو السميعُ البصيرُ(51).

ومما قاله أيضاً لابن الأزرق : «أصف إلهي بما وصف به نفسَه وأُعرِّفُه بما عرّف به نفسَه، لا يُدْرَك بالحواس ولا يُقاس بالناسِ، فهو قريبٌ غير ملتصِق، وبعيدٌ غير مُتَقَصّ (تقص) يُوَحَّدُ ولا يُبَعَّضُ، مَعروف بالآيات موصوف بالعلاماتِ، لا إله إلاّ هو الكبير المتعالُ»(52).

2 ـ وخرج على أصحابه فقال: «أيّها الناسُ! إنّ اللهَ جَلَّ ذكرهُ ما خَلَقَ العباد إلاّ ليعرفوهُ، فإذا عرفوه عبدوه، فإذا عبدوه استغنَوْا بعبادته عن عبادة ما سواهُ. ثم سأله رجل عن معرفة الله فقال: معرفةُ أهل كلّ زمان إمامَهُم الذي يجب عليهم طاعَتُه»(53).

3 ـ وتكلّم عن ملاك التكليف قائلاً : «ما أخَذَ الله طاقة أحد إلاّ وضع عنه طاعتَه، ولا أخذ قدرته إلاّ وضع عنهُ كُلْفَتَه»(54).

4 ـ وكتب للحسن بن أبي الحسن البصري جواباً عن سؤاله حول القدر: «إنّه من لم يؤمن بالقدر خيرِه وشرِّه فقد كفر، ومن حمل المعاصي على الله عزوجل فقد افترى على الله افتراءً عظيماً، إنّ الله تبارك وتعالى لا يُطاع بإكراه ولا يُعصى بغَلَبَة ولا يُهملُ العبادَ في الهلكة، لكنّه المالك لما ملّكهم، والقادرُ لما عليه أقدَرَهُم، فإن ائتمروا بالطاعة; لم يكن الله صادّاً عنها مُبطِئاً، وإن ائتمروا بالمعصية فشاء أن يمن عليهم فيحولَ بينهَم وبين ما ائتمروا به فعل، وإن لم يفعل فليس هو حَمَلَهم عليها قسراً ولا كلّفهم جبراً، بل بتمكينهِ إيّاهم بعد إعذاره وإنذاره لهم واحتجاجه عليهم طوّقَهُم ومكّنهم وجعل لهم السبيل إلى أخذ ما إليه دعاهم وترك ما عنه نهاهم...»(55).

5 ـ واشتملت أدعيته ((عليه السلام)) على دُرر باهرة في التوحيد والمعرفة والهداية الإلهية ولا سيما دعاء العشرات المرويّ عنه(56)، ودعاء عرفة الذي عُرِف به; لِما يسطع به من معارف زاخرة وعلوم جمّة، بل هو دورة عقائدية كاملة. وإليك مطلعه :

«الحمد لله الذي ليس لقضائه دافع ولا لعطائه مانعٌ ولا كصنعه صنعُ صانِع، وهو الجوادُ الواسِعُ، فَطَر أجناسَ البدائعِ وأتقنَ بحكمتِهِ الصنائعَ، لا تخفى عليه الطلائعُ ولا تضيع عنده الودائعُ، أتى بالكتابِ الجامعِ وبشرع الإسلام النور الساطعِ وهو للخليقة صانعٌ وهو المستعانُ على الفجائِع...»(57).

 

في رحاب الأخلاق والتربية الروحية :

1 ـ سُئل عن خير الدنيا والآخرة فكتب ((عليه السلام)): «بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعدُ: فإنه من طلب رضى الله بسخط الناس كفاه الله اُمور الناس، ومن طلب رضى الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس . والسلام»(58).

2 ـ بيّن ((عليه السلام)) أقسام العبادة ودرجات العُبّاد قائلاً: «إنّ قوماً عبدوا الله رغبةً فتلك عبادة التجّار ، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبةً فتلك عبادةُ العبيد، وإنّ قوماً عبدوا اللهَ شُكراً فتلك عبادةُ الأحرار، وهي أفضل العبادة»(59).

3 ـ قال ((عليه السلام)) عن آثار العبادة الحقيقية: «من عَبَدَ الله حقَّ عبادته آتاه الله فوق أمانيه وكفايتهِ»(60).

4 ـ سُئل عن معنى الأدب فقال: «هو أن تخرج من بيتك فلا تَلقى أحداً إلاّ رأيت له الفضلَ عليك»(61).

5 ـ قال الإمام الحسين ((عليه السلام)) : «مالُكَ إن يكن لك كنتَ له فلا تُبقِ عليه; فإنّه لا يُبقي عليك، وكلْهُ قبل أن يأكلك»(62).

 

في رحاب مواعظه الجليلة :

1 ـ كتب إليه رجل : عِظني بحرفين فكتب إليه: «مَن حاوَل أمراً بمعصية الله تعالى كانَ أفْوَتَ لما يَرجو وأسْرَعَ لمجي ما يحذَرُ»(63).

2 ـ وجاءه رجل فقال له: أنا رجلٌ عاص ولا أصبر عن المعصية فعظني بموعظة فقال ((عليه السلام)) : «إفعل خمسةَ أشياءَ واذنب ما شئتَ، فأوّل ذلك: لا تأكل رزقَ اللهِ واذنب ما شئِتَ، والثاني : اخرج من ولاية الله واذنِب ما شئت. والثالث: اطلُبْ موضِعاً لا يراكَ اللهُ واذنب ما شِئتَ. والرابع: إذا جاء ملَكُ الموتِ ليقبِضَ روحَكَ فادفَعْهُ عن نفسِكَ واذنب ما شئتَ، والخامِسُ: اذا أدخَلَكَ مالكُ النارِ فلا تدخُلْ في النارِ واذنِب ما شئتَ»(64).

3 ـ ومما جاء عنه ((عليه السلام)) في الموعظة : «ياابن آدمَ! تفكَّرْ وقل: أينَ ملوكُ الدنيا وأربابُها؟ الذين عَمّروا واحتفَروا أنهارها وغَرَسوا أشجارها ومدّنوا مدائِنَها، فارقوها وهم كارهون وورثها قوم آخرون، ونحن بهم عمّا قليل لاحقونَ. ياابن آدم! اُذكر مصرعك، وفي قبرك مضجعَك وموقفَك بين يَدَي اللهِ تشهَدُ جوارحُكَ عليكَ يوم تَزِلُّ فيه الأقدامُ وتبلغُ القلوبُ الحناجِرَ وتبيضّ وجوهٌ وتسوَدُّ وجوهٌ وتبدو السرائرُ، ويوضَعُ الميزانُ القِسط. ياابن آدمَ! اذكُر مصارعَ آبائك وأبنائك كيف كانوا وحيثُ حَلّوا وكأنّك عن قليل قد حَلَلْتَ مَحَلَّهُم وصِرتَ عِبرَةً للمعتَبِر»(65).

4 ـ وخطب ((عليه السلام)) فقال : «يا أيّها الناسُ! نافسِوا في المكارم، وسارِعوا في المغانِم، ولا تحتسِبوا بمعروف لم تُعجّلوا، واكسبوا الحمدَ بالنُجح، ولا تكتسِبوا بالمطلِ ذَمّاً، فمهما يكنْ لاِحد عند أحد صنيعةٌ له رأى أنّه لا يقومُ بشكرِها; فالله له بمكافاتهِ فإنّه أجْزَلُ عطاءً وأعظمُ أجراً. واعلموا أن حوائج الناس اليكم من نعم الله عليكم ، فلا تملّوا النعم فتُحوّر نقماً»(66).

 

في رحاب الفقه والأحكام الشرعية :

لقد أثبت أهل البيت المعصومون جدارتهم للمرجعية الدينية بعد رسول الله((صلى الله عليه وآله)) في المجالَين العلمي والسياسيّ معاً.

وقد عمل خطّ الخلافة بشكل مدروس على حذف هذا الخطّ النبوي وعزله عن الساحة السياسية والاجتماعية، وخطّط أهل البيت((عليهم السلام)) لمواجهة هذه المؤامرة، كما عرفت.

غير أنّ البُعْد العلمي قد برز وطغى على البعد السياسي حتى اتُّهِمَ أهل البيت((عليهم السلام)) باعتزالهم الساحة السياسية بعد الحسين((عليه السلام)) ولكن العجز العلمي للخطّ الحاكم بالرغم من كل ما اُوتي من إمكانات ماديّة وبشرية هو الذي قد بانَ على مدى التاريخ، وتميّزت مرجعيّة الأئمة الأطهار على من سواها من المرجعيات السائدة آنذاك. وكانت حاجة الاُمة الإسلامية إلى تفاصيل الأحكام الشرعية نظراً للمستجدات المستمرّة هي السبب الآخر في ظهور علم أهل البيت((عليهم السلام)) وفضلهم وكمالهم.

وما سجّلته كتب التاريخ من حقائق لا تخفى على اللبيب مثل حقيقة عدم عجزهم أمام الأسئلة المثارة، وعدم اكتسابهم العلم من أحد من أهل الفضل سوى الرسول((صلى الله عليه وآله)) وأهل بيته المعصومين((عليهم السلام)) لدليل واضح على تميّزهم عمّن سواهم.

وهنا نختار نماذج مما يرتبط بالفقه بمعناه المصطلح بمقدار ما يسمح

به المجال.

1 ـ ممّا يرتبط بباب الصلاة، ذكر الإمام محمّد الباقر ((عليه السلام)) جواز الصلاة بثوب واحد مستشهداً بأنه قد حدّثه من رأى الحسين بن عليّ ((عليهما السلام))

وهو يصلّي في ثوب واحد وحدّثه أنه رأى رسول الله ((صلى الله عليه وآله)) يُصلّي في

ثوب واحد(67).

2 ـ وجاء أنّ الأئمّة ((عليهم السلام)) كانوا يجهرون «ببسم الله الرحمن الرحيم» فيما يجهر فيه بالقراءة من الصلوات في أوّل فاتحة الكتاب وأوّل السورة في كل ركعة. وجاء عن الحسين ((عليه السلام)) قوله: «اجتمعنا ولد فاطمة ((عليها السلام)) على ذلك»(68).

3 ـ وكان الحسين بن عليّ ((عليهما السلام)) يصلي فمرّ بين يديه رجل، فنهاه بعض جلسائه، فلما انصرف من صلاته قال له : «لِمَ نَهَيْتَ الرَجُلَ؟ فقال: ياابن رسول الله! خطر فيما بينك وبين المحراب، فقال ((عليه السلام)): ويحك إنّ الله عزّوجلّ أقربُ إليَّ من أن يخطرَ فيما بيني وبين ]وبينَهُ[ أحد»(69).

4 ـ وكان الحسين ((عليه السلام)) جالساً فمرّت عليه جنازةٌ فقام الناسُ حين طلعت الجنازة، وهنا أوضح الإمام ((عليه السلام)) للناس ما تصوّروه خطأً من أنّ القيام عند مرور الجنازة من السنّة باعتبار ما سمعوه من قيام رسول الله عند مرور الجنازة. فقال الحسين بن عليّ ((عليهما السلام)): «مرَّت جنازة يهوديّ فكان رسول الله((صلى الله عليه وآله)) على طريقها جالساً فكره أن تعلو رأسَه جنازةُ يهوديّ فقامَ لِذلك»(70).

وقد أحصى مؤلّف موسوعة كلمات الإمام الحسين ((عليه السلام)) ما يقارب من مائتين وخمسين رواية في الأحكام الشرعية وردت عن الإمام الحسين ((عليه السلام)) في مختلف أبواب الفقه الإسلامي.

على أنّ سيرة الإمام الحسين((عليه السلام)) مثل سيرة سائر الأئمّة الأطهار تعتبر مصدراً من مصادر استلهام الأحكام الشرعية لتنظيم السلوك الفردي والاجتماعي للإنسان المسلم وللمجتمع الإسلامي.

 

في رحاب أدعية الإمام الحسين ((عليه السلام)) :

لقد تميّز تراث أهل البيت ((عليهم السلام)) بظاهرة الدعاء تميّزاً فريداً في جانبي الكمّ والكيف معاً.

فالاهتمام بالدعاء في جميع الحالات والظروف التي يمرّ بها الإنسان في الحياة كما قال تعالى : ( قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ )(71) هو المظهر الذي ميّز سلوك أهل البيت عمّن سواهم، وعلى ذلك ساروا في تربيتهم لشيعتهم.

والمسلمون بشكل عام يلمسون هذه الظاهرة بوضوح في موسم الحجّ وغيره من مواسم العبادة عند أتباع أهل البيت((عليهم السلام)) وشيعتهم.

وتفرّدت أدعية أهل البيت((عليهم السلام)) في المحتوى والمقاصد والمعاني التي اشتملت عليها أدعيتهم; فإنّها تُفصح بوضوح عن البون الشاسع بينهم وبين غيرهم فأين الثرى وأين الثريّا؟

وتدلّنا بعض النصوص المأثورة عن الإمام الحسين ((عليه السلام)) على سر هذا الاهتمام البليغ منهم بالدعاء.

1 ـ قال ((عليه السلام)) : «أعجز الناس مَن عجز عن الدعاء، وأبخل الناس مَن بخل بالسلام»(72).

2 ـ وجاء عنه أنه كان يدعو في قنوت الوتر بالدعاء الذي علّمه رسول الله((صلى الله عليه وآله)) وهو : «اللهم إنك تَرى ولا تُرى وأنت بالمنظر الأعلى وانّ إليك الرجعى وإنّ لك الآخرة والاُولى ، اللهم إنّا نعوذ بك من أن نَذِلّ ونخزى»(73).

3 ـ من الأدعية القصيرة المأثورة عنه قوله ((عليه السلام)) : «اللهم لا تستدرِجني بالإحسانِ ولا تؤدِّبني بالبلاء»(74).

وقال في معنى الاستدراج : «الاستدراج من الله لعبده أن يُسبغ عليه النِعَمَ ويَسْلُبَه الشُكرَ»(75).

4 ـ ومن أدعيته في قنوته : «اللهمّ مَن آوى إلى مأوى فأنتَ مأوايَ، ومن لجأ الى مَلجَأ فأنتَ مَلجايَ اللهم صلّ على محمّد وآلِ محمّد واسمع ندائي وأجب دُعائي واجعل مآبي عندك ومثوايَ، واحرُسني في بَلواي من افتتانِ الامتحان ولُمَّةِ الشيطانِ بعظمتك التي لا يشوبُها وَلَعُ نفس بِتَفتين، ولا واردُ طيف بتظنين ولا يلُمُّ بها فَرَجٌ حتى تقلبني إليك بإرادتك غير ظنين ولا مظنون ولا مُراب ولا مُرتاب، إنّك أنت أرحمُ الراحِمينَ»(76).

5 ـ وله دعاء آخر كان يدعو به في قنوته هو: «اللهم منك البدءُ ولك المشيئةُ ولك الحولُ ولك القوّةُ، وأنت اللهُ الذي لا إله إلاّ أنتَ جَعَلْتَ قلوبَ أوليائك مسكناً لمَشِيّتِكَ ومكمَناً لإرادتكَ، وجَعَلتَ عُقولَهُم مَناصِبَ أوامِركَ ونواهيكَ فأنتَ إذا شِئت ما نشاءُ حرّكتَ مِن أسرارهم كوامِن ما أبطَنْتَ فيهم، وأبَدأتَ من إرادتك على ألسنتِهِم ما أفهَمْتَهُم به عنكَ في عقودِهم بعقول تدعوك وتدعو إليك بحقائقِ ما مَنَحتَهُم به، وإنّي لأعلَمُ ممّا علّمتني ممّا أنت المشكورُ على ما منه أريتني وإليه آوَيتني».

6 ـ وله دعاء يُسمّى بـ (العشرات) .

7 ـ وله دعاء كان يدعو به حين كان يمسك الركن اليماني ويناجي ربّه هو: «إلهي أنعمتني فلم تجدني شاكراً وأبليتني فلم تجدني صابراً، فلا أنت سلَبْتَ النعمة بترك الشكر، ولا أدَمْتَ الشدّةَ بترك الصبرِ إلهي ما يكونُ من الكريمِ إلاّ الكرَمُ»(77).

8 ـ وروي أنّ شريحاً دخل مسجد الرسول ((صلى الله عليه وآله)) فوجد الحسين((عليه السلام)) في المسجد ساجداً يعفِّر خدّه على التراب وهو يقول: «سيّدي ومولاي ألِمقامِعِ الحديد خَلَقْتَ أعضائي؟ أم لِشُربِ الحميمِ خَلَقْتَ أمعائي؟ إلهي لئن طالبتني بذنوبي لاُطالبنّك بكرمك، ولئن حَبَستني مع الخاطئينَ لأخبِرنَّهُم بحُبّي لك، سيّدي! إنّ طاعَتي لا تنفعُك، وَمعصيتي لا تضرّك، فهب لي ما لا ينفعُك واغفر لي ما لا يضرّك فإنك أرحم الراحمين»(78).

9 ـ وكان من دعائه إذا دخل المقابِرَ: «اللّهم ربَّ هذه الأرواح الفانيةِ والأجساد البالية، والعِظامِ النَخِرةِ التي خرجتْ من الدنيا وهي بك مؤمنة أدخِل عليهم رَوْحاً منك وسلاماً مِنّي، وقال((عليه السلام)): إذا دعا أحد بهذا الدعاء كتب الله له بعدد الخلق من لدن آدم الى أن تقوم الساعةُ حسنات»(79).

10 ـ ومن دعائه في الصباح والمساء قوله: «بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله وبالله ومن الله وإلى الله وفي سبيل الله وعلى ملّة رسول الله وتوكّلت على الله ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العليّ العظيم. اللهم إني أسلمْتُ نفسي إليك ووجّهت وجهي إليك وفوّضت أمري إليك، إياك أسألُ العافية من كل سوء في الدنيا والآخرة، اللهم إنك تكفيني من كلّ أحد ولا يكفيني أحدٌ منك فاكفني من كلّ أحد ما أخاف وأحذرُ، واجعل لي من أمري

فرجاً ومخرجاً إنك تعلمُ ولا أعلم وتقدرُ، ولا أقدِر، وأنت على كل شيء قدير برحمتك

يا أرحم الراحمين»(80).

وأمّا دعاء عرفة المرويّ عن الإمام الحسين ((عليه السلام)) فهو من غرر الأدعية المطوّلة والتي تستدرّ الرحمة الإلهية بما تمليه على الإنسان من أسباب الإنابة والتوبة وشموخ المعرفة، وقد أشرنا الى مقاطع منه في بحوث سابقة.

وإليك مقطعاً آخر من هذا الدعاء:

«الحمدلله الّذي لم يتّخذ ولداً فيكون موروثاً، ولم يكن له شريك في الملك فيضادّه فيما ابتدع، ولا وليّ من الذلّ فيرفده فيما صنع، سبحانه سبحانه سبحانه لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا وتفطرتا، فسبحان الله الواحد الحقّ الأحد الصمد الّذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، الحمدلله حمداً يعدل حمد ملائكته المقرّبين، وأنبيائه المرسلين، وصلّى الله على خيرته من خلقه محمّد خاتم النبّيّين وآله الطّاهرين المخلصين، اللّهمَّ اجعلني أخشاك كأ نّي أراك، وأسعدني بتقواك، ولا تشقني بمعصيتك، وخر لي في قضائك، وبارك لي في قدرك حتّى لا اُحبّ تعجيل ما أخّرت، ولا تأخير ما عجّلت»(81).

 

في رحاب أدب الإمام الحسين ((عليه السلام)) :

لا ريب في أنّ الإمام الحسين((عليه السلام)) يعدّ امتداداً لجدّه وأبيه وأخيه من حيث المعرفة ومن حيث الاقتدار الفني في التعبير.

وقد جاء على لسان خصومهم «أنهم أهل بيت قد زقّوا العلم زَقّـاً»، و«أنها ألسِنَةُ بني هاشم التي تفلق الصخر وتغرف من البحر»(82).

وعلّق عمر بن سعد يوم عاشوراء على خطبة للإمام الحسين ((عليه السلام)): «إنّه ابن أبيه، ولو وقف فيكم هكذا يوماً جديداً، لما انقطع ولما حُصِر»(83).

وقال أصحاب المقاتل عن كلماته وخطبه في كربلاء ويوم عاشوراء أنه لم يُسمع متكلّم قطّ قبله ولا بعده أبلغ في منطقه من الحسين((عليه السلام))(84).

وبالرغم من قصر المدّة الزمنيّة لإمامته وعدم إتاحة الفرصة السياسيّة التي تفرض صياغة الخطب عادةً بخاصّة أنّه ((عليه السلام)) التزم بالهدنة التي عقدها أخوه((عليه السلام)) في زمن معاوية، فقد اُثر عنه ((عليه السلام)) في ميدان الخطبة وغيرها أكثر من نموذج فضلاً عن أنه ((عليه السلام)) في زمن أبيه ((عليه السلام)) قد ساهم في خطب المشاورة والحرب(85)، وحشَد فيها كل السمات الفنّية التي تتناسب والغرض الذي استهدف توصيله الى الجمهور(86).

وأمّا خطب المعركة التي خاضها في الطف أو كربلاء، حيث فجّرت هذه المناسبة عشرات الخطب منذ بدايتها إلى نهايتها، فقد تنوّعت صياغةً ومضموناً، وتضمّنت التذكير بكتبهم التي أرسلوها إليه وبطاعة الله وبنصرته وبالتخليّ عن قتاله. وممّا جاء في إحداها : «تبـّاً لكم أيّتها الجماعة وتَرَحاً، أحين استصرختمونا والهِين ، فأصرخناكم موجِفين مؤدّين مستعدّين سَلَلْتُم علينا سيفاً لنا في أيْمانِكم وحششتُم علينا ناراً قدحناها على عدوّكم وعدوّنا فأصبحتم إلبْاً على أوليائكم ويداً عليهم لأعدائكم بغيرِ عدل أفشوه فيكُم ولا أمل أصبح لكم فيهم إلاّ الحرام من الدنيا أنالوكم وخسيس عيش طمعتم فيه ...».

واحتشدت هذه الخطبة بعناصر الفن المتنوعة بالإضافة الى عنصرَي المحاكمة والعاطفة. وبمقدور المتذوّق الفني الصرف أن يلحظ ما تتضمّنه من دهشة فنّية مثيرة كل الإثارة(87).

والأشكال الأدبيّة الاُخرى التي طرقها أدب الإمام الحسين ((عليه السلام)) هي الرسائل والخواطر والمقالة والأدعية والشعر(88) والحديث الفني.

ونشير الى نموذجين من شعره بما يتناسب مع المجال هنا:

ـ 1 ـ

تباركَ ذو العلا والكبرياءِ *** تفرّد بالجلالِ وبالبقاءِ

وسوّى الموتَ بين الخلق طُرّاً *** وكلّهُم رهائنُ للفناءِ

ودنيانا ـ وإن ملنا إليها *** وطالَ بها المتاعُ ـ الى انقضاءِ

ألا إنَّ الركونَ على غرور *** الى دار الفناءِ من الفناءِ

وقاطنها سريعُ الظعنِ عنها *** وإن كان الحريصُ على الثَواءِ(89)

ـ 2 ـ

اغنَ عن المخلوق بالخالقِ *** تَغنَ عن الكاذبِ والصادقِ

واسترزقِ الرحمنَ من فضلهِ *** فليسَ غيرُ الله من رازقِ

من ظنّ أنّ الناس يغنونه *** فليس بالرحمن بالواثقِ

أو ظن أن المال من كسبه *** زلّت به النعلان من حالق(90)

 

الهوامش

(1) تاريخ الطبري : 4 / 281 .

(2) المصدر السابق : 4 / 331 .

(3) حياة الإمام الحسين بن علي ((عليهما السلام)) : 3 / 440 عن أمالي الشيخ الطوسي .

(4) حياة الإمام الحسين بن علي ((عليهما السلام)) : 3 / 341 عن مثير الأحزان .

(5) تأريخ الطبري : 4 / 388 ، تأريخ الخلفاء : 208 .

(6) للمزيد من التفصيل راجع ثورة الحسين (النظرية ، الموقف ، النتائج ) للسيّد محمّد باقر الحكيم :100.

(7) تاريخ الطبري : 4 / 426، 449 .

(8) المصدر السابق : 4 / 464 .

(9) المصدر السابق : 4 / 487 .

(10) مقاتل الطالبيين : 135 .

(11) المصدر السابق : 523 .

(12) موسوعة كلمات الإمام الحسين : 743 عن إحقاق الحقّ: 11 / 590 .

(13) أعلام الدين: 298، موسوعة كلمات الإمام الحسين: 743. وورد هذا النصّ عن الإمام علي((عليه السلام)) أيضاً.

(14) موسوعة كلمات الإمام الحسين: 742 عن حياة الإمام الحسين((عليه السلام)): 1/181.

(15) أعلام الدين: 298،، بحار الأنوار : 78 / 128 ، الحديث 11، موسوعة كلمات الإمام الحسين ((عليه السلام)) : 742 و743 .

(16) تحف العقول: 248، موسوعة كلمات الإمام الحسين((عليه السلام)): 742.

(17) موسوعة كلمات الإمام الحسين((عليه السلام)): 887.

(18) موسوعة كلمات الإمام الحسين : 803 ـ 806 عن إقبال الأعمال : 339 .

(19) معارج اليقين: 116، موسوعة كلمات الإمام الحسين((عليه السلام)): 551 عن جامع الأخبار : 48.

(20) موسوعة كلمات الإمام الحسين((عليه السلام)): 551 ، عن الكافي : 2 / 611، الحديث 3 .

(21) تفسير العياشي 2: 236، موسوعة كلمات الإمام الحسين((عليه السلام)): 560 عن تفسير البرهان : 2 / 323 .

(22) موسوعة كلمات الإمام الحسين((عليه السلام)): 561 عن ينابيع المودّة : 484 .

(23) الخصال، الشيخ الصدوق: 43، موسوعة كلمات الإمام الحسين((عليه السلام)): 563 عن حياة الحسين : 2 / 234 .

(24) مناقب آل أبي طالب 3: 207، موسوعة كلمات الإمام الحسين((عليه السلام)) : 564 عن بحار الأنوار : 24 / 166 .

(25) شواهد التنزيل 2: 208، موسوعة كلمات الإمام الحسين : 565، بحار الأنوار : 23 / 251 الحديث 37 .

(26) موسوعة الإمام الحسين((عليه السلام)): 567، المحاسن : 1 / 344 الحديث 11 .

(27) المصباح، الكفعمي: 329، موسوعة الإمام الحسين((عليه السلام)): 568 ، التوحيد : 91 الحديث 5 ثم نقل تفسيرها بشكل تفصيلي فراجع.

(28) التوحيد: 90، تفسير مجمع البيان 10: 487، موسوعة الإمام الحسين((عليه السلام)): 569 ، معادن الحكمة : 2/ 51.

(29) مناقب آل أبي طالب 3: 222، موسوعة الإمام الحسين((عليه السلام)): 827 ، بحار الأنوار : 44 / 191 .

(30) كنز العمّال : 7 / 217 حديث رقم 18694، موسوعة كلمات الإمام الحسين((عليه السلام)): 571 .

(31) عيون أخبار الرضا 2: 285، معاني الأخبار : 79،مجمع الزوائد : 8 / 275، موسوعة كلمات الإمام الحسين((عليه السلام)) : 571 ـ 575.

(32) الدر المنثور 4: 191، موسوعة الإمام الحسين((عليه السلام)): 575، الغدير : 8 / 248 .

(33) عيون أخبار الرضا : 2 / 42، موسوعة الإمام الحسين((عليه السلام)): 578 .

(34) بحار الأنوار : 16 / 287، موسوعة الإمام الحسين((عليه السلام)): 578.

(35) مستدرك الوسائل : 4 / 17، موسوعة الإمام الحسين((عليه السلام)): 683 .

(36) مستدرك الوسائل : 8 / 253 ، موسوعة كلمات الإمام الحسين ((عليه السلام)) : 710 .

(37) راجع موسوعة كلمات الإمام الحسين وتتبع ما نقله عن رسول الله ((صلى الله عليه وآله)) .

(38) أمالي الطوسي: 84، وبشارة المصطفى، الطبري (الشيعي): 151، موسوعة كلمات الإمام الحسين : 582، أمالي الطوسي : 1 / 82 .

(39) نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 85 ، موسوعة كلمات الإمام الحسين: 582 .

(40) المعجم الكبير: 3/128، مجمع الزوائد : 9 / 21، موسوعة كلمات الإمام الحسين: 582 .

(41) عيون أخبار الرضا ((عليه السلام)) : 2 / 72 وكفاية الأثر: 102، موسوعة كلمات الإمام الحسين: 585.

(42) نزهة الناظر: 85، موسوعة كلمات الإمام الحسين((عليه السلام)): 586.

(43) ينابيع المودّة : 590، موسوعة كلمات الإمام الحسين : 659.

(44) انظر الكافي 1: 341، عقد الدرر: 158، موسوعة الإمام الحسين: 660.

(45) عن عقد الدرر : 134، موسوعة كلمات الإمام الحسين : 660.

(46) كمال الدين : 317، موسوعة كلمات الإمام الحسين: 661.

(47) عقد الدرر : 111، موسوعة كلمات الإمام الحسين: 662.

(48) عقد الدرر: 41، موسوعة كلمات الإمام الحسين: 665.

(49) كمال الدين : 317، موسوعة كلمات الحسين: 665.

(50) عقد الدرر : 228، موسوعة كلمات الإمام الحسين: 663.

(51) تحف العقول : 173، موسوعة كلمة الإمام الحسين : 530 .

(52) التوحيد: 80، موسوعة كلمات الإمام الحسين: 533.

(53) علل الشرائع 1: 9، كنز الفوائد: 151، موسوعة كلمات الإمام الحسين : 540 عن علل الشرايع.

(54) تحف العقول : 175، موسوعة كلمات الإمام الحسين : 542 .

(55) فقه الرضا، ابن بابويه: 409، معادن الحكمة : 2 / 45، موسوعة كلمات الإمام الحسين: 540 ـ 541.

(56) البلد الأمين للكفعمي : 24 .

(57) إقبال الأعمال : 339، موسوعة كلمات الإمام الحسين : 793 ـ 806.

(58) أمالي الصدوق : 167 .

(59) تحف العقول : 175 .

(60) بحار الأنوار : 71 / 184 .

(61) ديوان الإمام الحسين : 199 .

(62) نزهة الناظر: 84، بحار الأنوار : 71 / 357 .

(63) الكافي : 2 / 373 .

(64) بحار الأنوار : 78 / 126 .

(65) إرشاد القلوب : 1 / 29 .

(66) كشف الغمّة : 2 / 29 .

(67) دعائم الاسلام : 1 / 175 .

(68) مستدرك الوسائل : 4 / 189 .

(69) وسائل الشيعة : 3 / 434 الحديث 4 .

(70) الكافي : 3 / 192 .

(71) الفرقان (25): 77.

(72) روضة الواعظين: 459، بحار الأنوار : 93 / 294، الأمالي، المفيد: 317 .

(73) مسند الإمام أحمد : 1 / 201، كنز العمال : 8 / 82 .

(74) نزهة الناظر: 83، كشف الغمّة 2: 241، الدرّة الباهرة، الشهيد الأوّل: 5، بحار الأنوار : 78 / 128.

(75) تحف العقول : 175 .

(76) مهج الدعوات : 49 .

(77) إحقاق الحق : 11 / 595 .

(78) المصدر السابق : 11 / 424 .

(79) بحار الأنوار 99: 301، مستدرك الوسائل : 2 / 373 الحديث 2323 .

(80) مهج الدعوات : 157 .

(81) بحار الأنوار: 98 / 218 ـ 219.

(82) المجالس السنية : 21 ، 28 ، 30 .

( 84 و 83) المجالس السنية: 21، 28، 30 .

(85) راجع حياة الإمام الحسين في عهد أبيه، في هذا الكتاب ص 74 ـ 81.

(86) تاريخ الأدب العربي في ضوء المنهج الإسلامي : 307 ـ 311 .

(87) تاريخ الأدب العربي في ضوء المنهج الإسلامي : 311 ـ 303 .

(88) للاطلاع التفصيلي على خصائص كل شكل في أدب الحسين ((عليه السلام)) راجع تاريخ الأدب العربي في ضوء المنهج الإسلامي للدكتور محمود البستاني.

(89) ديوان الإمام الحسين : 4 / 115 .

(90) البداية والنهاية : 8 / 228 .

قراءة 8369 مرة