شخصية الإمام علي الهادي(ع)
ولد الإمام علي الهادي(ع) في صريا([1])، وأكثر المؤرخين على أنه ولد في سنة (212هـ)([2])، وقيل في سنة (214هـ)([3])، وقد اختلفوا في الشهر واليوم الذي ولد فيهما، فبعض المصادر على أنها كانت في منتصف ذي الحجة([4])، والبعض الآخر منها على أنها في رجب، في اليوم الثاني منه أو في الخامس على الاختلاف، وقد صرّحت بولادته في رجب بعض الأدعية منها: «اللهم إني أسألك بحق المولودين في رجب محمد بن علي الثاني - الجواد - وعلي بن محمد المنتجب - الهادي -»([5]).
أبوه الإمام الجواد(ع)، وأمه السيدة القديرة سمانة المغربية التي اشتراها له محمد بن الفرج بسبعين ديناراً([6])، وتولى الإمام (ع) تربيتها، فأقبلت على العبادة والطاعة، حتى كانت من القانتات المتهجّدات والتاليات لكتاب الله تعالى([7])، ويكفي في جلالتها أنها كانت المفزع للشيعة في نقل الأحكام الشرعية، في أيام الشدة([8]).
كان الإمام الهادي(ع) متوسط القامة، ذا وجه أبيض مشرّباً بالحمرة، وذا عينين كبيرتين، وحاجبين واسعين، وكانت أسارير وجهه تبعث على الفرح والسرور لكل من رآه.
تولى منصب الإمامة بعد شهادة أبيه الجواد(ع) وكان عمره ثمان سنوات، وكان ذلك في سنة (220 هـ)، ودامت ثلاثاً وثلاثين سنة.
وقد ورد الكثير ممّا دلّ على إمامته، قال الشيخ المفيد: «الأخبار في هذا الباب كثيرة جداً... وفي إجماع العصابة على إمامة أبي الحسن(ع) ، وعدم من يدَّعيها سواه في وقته ممن يلتبس الأمر فيه غنى عن إيراد الأخبار بالنصوص على التفصيل»([9]).
ولنذكر نصاً واحداً منها، فقد قال الصقر بن دُلف: سمعت أبا جعفر محمد بن علي الرضا(ع) يقول: «إنَّ الإمام بعدي ابني علي، أمره أمري، وقوله قولي، وطاعته طاعتي، والإمامة بعده في ابنه الحسن»([10]).
يكنى الإمام الهادي(ع) بأبي الحسن الثالث، ويلقّب بالناصح، والتقي، والمرتضى، والفقيه، والعالم، والأمين، والطيب، والعسكري، والرشيد، والشهيد، والوفي، والخالص، وأشهر ألقابه الهادي([11]).
عاصر الإمام الهادي ستة من خلفاء بني العباس، وهم المعتصم والواثق والمتوكل، والمنتصر، والمستعين، والمعتز، وله مع كل واحد منهم قضايا لا يتسع المقام لذكرها أجمع.
إِشخاص الإمام الهادي(ع) إلى سامراء
لقد مارس المتوكل العباسي نفس الأسلوب الذي رسمه المأمون، ثم أخوه المعتصم من إشخاص أئمة أهل البيت(عليهم السلام) من مواطنهم، وإجبارهم على الإقامة في مقر الخلافة، وجعل العيون والحرّاس عليهم، حتى يطّلعوا على دقيق شؤونهم.
وكان المتوكل من أشدّ الخلفاء العباسيين عداءاً لعلي وآله، فبلغه مقام علي الهادي بالمدينة، ومكانته بين أهلها، وميلهم إليه، فخاف على نفسه منه، خصوصاً وقد كتب له بريحة العباسي - أحد أنصاره وأزلامه - إن كان لك بالحرمين حاجة فأخرج منها علي بن محمد، فإنّه قد دعا الناس إلى نفسه، وتبعه خلق كثير([12]).
فدعى يحيى بن هرثمة، وقال له: اذهب إلى المدينة وانظر في حاله وأشخصه إلينا.
قال يحيى: فذهبت إلى المدينة، فلمّا دخلتها ضجَّ أهلها ضجيجاً عظيماً ما سمع الناس بمثله، خوفاً على علي الهادي، وقامت الدنيا على ساق، لأنه كان محسناً إليهم، ملازماً للمسجد، لم يكن عنده ميل إلى الدنيا.
قال يحيى: فجعلت أسكِّنهم وأحلف لهم أني لم أؤمر فيه بمكروه، وأنه لا بأس عليه، ثم فتشت منزله فلم أجد فيه إلاّ مصاحف وأدعية وكتب العلم، فعظم في عيني، وتولّيت خدمته بنفسي، وأحسنت عشرته، فلما قدمت به بغداد، بدأت بإسحاق بن إبراهيم الطاهري، وكان والياً على بغداد، فقال لي: يا يحيى إنّ هذا الرجل قد ولده رسول الله، والمتوكل من تعلم، فإن حرّضته على قتله، كان رسول الله خصمك يوم القيامة، فقلت له: والله ما وقعت منه إلاّ على كل أمر جميل، ثم صرت إلى (سر من رأى)، فلما دخلت على المتوكل وأخبرته بحسن سيرته وسلامته وورعه وزهادته، وأني فتشت داره فلم أجد فيها إلا المصاحف وكتب العلم، وأنّ أهل المدينة خافوا عليه، فأمر المتوكّل به فأنزلوه في خان يقال له خان الصعاليك، ليوهن الإمام ويقلل من شأنه، فأقام فيه الإمام يومه، ثم تقدم المتوكل فأفرد له داراً، فانتقل إليه، وكان تحت رقابة شديدة([13]).
ولكن مع هذه الرقابة الشديدة، وعلى الرغم من أنّ الإمام يعيش في نفس بلد المتوكل، إلاَّ أنه وشي به إلى المتوكل بأنّ في داره كتباً وسلاحاً من شيعته، وأنه عازم على الوثوب على الدولة، فبعث إليه جماعة من الأتراك، فهاجموا داره ليلاً فلم يجدوا فيها شيئاً، ووجدوه وعليه مدرعة من صوف، وهو جالس على الرمل والحصى، متوجه إلى الله تعالى يتلو آيات القرآن، فحملوه على هذه الحالة إلى المتوكل، وكان الأخير جالساً في مجلس الشرب، والكأس في يده، فلما أدخلوه عليه ناوله الكأس، فقال (ع) : «والله ما خامر لحمي ودمي قط فاعفني»، فأعفاه، ثم قال له: أنشدني شعراً! فقال (ع) : أنا قليل الرواية للشعر: فقال: لابد، فأنشده (ع) :
باتوا على قلل الأجيال تحرسهم |
|
غُلْب الرجال فما أغنتهم القلل |
واستنزلوا بعد عزّ من معاقلهم |
|
وأسكنوا حُفراً يا بئس ما نزلوا |
ناداهم صارخ من بعد دفنهم |
|
أين الأسرة والتيجان والحلل؟ |
أين الوجوه التي كانت منعّمة |
|
من دونها تضرب الأستار والكلل؟ |
فأفصح القبـر عنهم حين ساءلهم |
|
تلك الوجوه عليها الدود يقتتل |
قد طالما أكلوا دهراً وما شربوا |
|
فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكلوا |
فبكى المتوكل حتى بلّت لحيته دموع عينه، وبكى الحاضرون([14]).
اهتمامات الإمام الهادي(ع)
اهتم الإمام (ع) في نشر الثقافة الإسلامية، والدفاع عن فكر الإسلام، ومحاربة المفوّضة والمجبّرة، وإثبات العدل والمنزلة بين المنزلتين، وله رسالة في ذلك أوردها الحرّاني في (تحف العقول).
كما اهتم بتفسير القرآن الكريم كثيراً، ورفع غوامضه، كما عمل على إرشاد الضالين، والإجابة على جميع التساؤلات الواردة من مختلف بقاع العالم الإسلامي، كما كان حلّالاً لمعضلات المتوكل وغيره من الخلفاء، وبسبب إلتفاف الأمة حوله عمد المتوكل إلى زجّه في سجن مظلم وبحذاه قبر محفور، ولكن كل ذلك لم يوهن من عزم الإمام على مواصلة طريق أجداده، وفي النهاية وجدوا أن الطريقة الوحيدة للتخلص من كل ما يعانونه إطفاء نور الله، فدسّ المعتز السم إليه، فاستشهد(ع) في رجب سنة (254هـ)، ودفن في داره في سامراء([15]).
فالسلام على علي الهادي يوم ولد، ويوم أدّى رسالته، ويوم استشهد، ويوم يبعث حياً.
([1]) صريا: قرية أسسها الإمام موسى بن جعفر(ع) تبعد من المدينة ثلاثة أميال، جوهرة الكلام: 151.
([2]) أصول الكافي 1: 497، والإرشاد 2: 368.
([4]) على رواية الشيخ المفيد في الإرشاد.
([5]) مفاتيح الجنان: أدعية رجب.
([6]) تاريخ الخميس 2: 321، ودلائل الإمامة: 216
([10]) المصدر السابق، وبحار الأنوار 12: 127.
([11]) قبسات من سيرة القادة الهداة 2: 202.
([13]) الإرشاد 2: 298، وإعلام الورى: 348.