مولده ونسبه الشريف:
ولد الإمام محمد الباقر(ع) يوم الجمعة - وقيل الاثنين - في غرة رجب سنة (57هـ)، وهناك من قال بأن ولادته كانت في الثالث من صفر، أبوه الإمام الهمام علي بن الحسين(ع) زين العابدين وسيد الساجدين، وأمه فاطمة بنت الإمام الحسن المجتبى(ع)
وعلى هذا فيعتبر الإمام الباقر(ع) أول فاطمي من فاطميين، وأول من اجتمعت له ولادة الحسن والحسين.
ويروى أنه كان كثير الشبه بجده المصطفى محمد(ص)، ولذا كان يلقّب بالشبيه، وكان ربع القامة، رقيق البشرة، جعد الشعر، أسمر اللون، له خال على خده، وكان يكنّى بأبي جعفر، ويلقّب بالشاكر لله، والهادي، والأمين، وأشهر ألقابه على الإطلاق ما لقبّه به جدّه رسول الله(ص): أي (الباقر)، فقد روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري: أنّ النبي(ص) قال له: «يوشك أن تبقى حتى تلقى ولداً لي من الحسين، يقال له محمد، يبقر علم الدين بقراً، فإذا لقيته فأقرئه مني السلام»([1]).
وجاء في معاجم اللغة، أن الباقر هو المتبحر بالعلم، المستخرج غوامضه ولبابه، وأسراره، والمحيط بفنونه، ومغازيه.
النص على إمامته:
جرت عادة الأئمة (عليهم السلام) أن ينصّ المتقدم منهم على المتأخر، ويشير السابق على اللاحق، قطعاً للمعاذير، وإقامة للحجة، وقد نصّ الإمام علي بن الحسين(ع) على إمامة ولده في مواضع متعددة، فمنها قوله (ع) : «ألا وإنه الإمام أبو الأئمة، معدن العلم يبقره بقراً، والله لهو أشبه الناس برسول الله»(ص) ([2])، وقد تواترت النصوص على إمامته، ونقلها العامة كالمسعودي والزهري، فضلاً عن الخاصة([3]).
جوانب من شخصية الإمام الباقر(ع)
1- الجانب الروحي: المتتبع لحياة الأئمة (عليهم السلام) يجدها حلقات متصلة في العبادة، وهي كلها لله وفي الله وإلى الله تعالى، والإمام الباقر(ع) واحد من هؤلاء الأئمة، والذي كان له السبق في سلّم العبادة والتعلق المطلق بذات الله تعالى، فقد ارتقى فيه حتى بلغ ذروته.
يقول الإمام الصادق(ع) في حقه: «كان أبي كثير الذكر، لقد كنت أمشي معه وإنّه ليذكر الله، وآكل معه الطعام وإنّه ليذكر الله، ولقد كان يحدث القوم وما يشغله ذلك عن ذكر الله، وكنت أرى لسانه لازقاً بحنكه، يقول: لا إله إلا الله، وكان يجمعنا فيأمرنا بالذكر حتى تطلع الشمس، ويأمر بالقراءة من كان يقرأ منّا، ومن كان لا يقرأ أمره بالذكر»([4]).
وقال أفلح - مولى للإمام الباقر -: «خرجت مع محمد بن علي (الباقر(ع) ) حاجاً، فلما دخل المسجد، نظر إلى البيت فبكى حتى علا صوته، فقلت: بأبي أنت وأمي إنّ الناس ينظرون إليك فلو رفقت بصوتك قليلاً، فقال لي: «ويحك يا أفلح، ولم لا أبكي، لعل الله ينظر إليّ برحمة فأفوز بها عنده غداً»، ثم طاف بالبيت، ثم جاء حتى ركع عند المقام، (أي صلّى ركعات) فرفع رأسه من سجوده فإذا موضع سجوده مبتل من دموع عينيه»([5]).
2- الجانب الاجتماعي: كان الإمام الباقر(ع) - كسائر أئمة أهل البيت(عليهم السلام) - أباً عطوفاً للأمة بأسرها، فعنده محط محتاجهم، وإلى كنفه منتهى مكروبهم، وبفناء داره شفاء مغمومهم، فقد روي عن الأسود بن كثير: شكوت إلى أبي جعفر(ع) الحاجة، وجفاء الإخوان، فقال (ع) : «بئس الأخ يرعاك غنياً ويقطعك فقيراً». ثم أمر غلامه فأخرج كيساً فيه سبعمئة درهم، فقال: «استنفق هذه فإذا فرغت فأعلمني»([6]).
وقالت سلمى - مولاة أبي جعفر -: «كان يدخل عليه أصحابه، فلا يخرجون من عنده حتى يطعمهم الطعام الطيب، ويكسوهم الثياب الحسنة، ويهب لهم الدنانير، فأقول له في ذلك ليقلل منه فيقول (ع) : «يا سلمى ما حسنة الدنيا، إلا صلة الإخوان والمعروف»([7]).
وعن أبي عبد الله(ع) قال: «دخلت على أبي يوماً وهو يتصدق على فقراء أهل المدينة بثمانية آلاف دينار، وأعتق أهل بيت بلغوا أحد عشر مملوكاً»([8]).
3- الجانب العلمي والثقافي: لا نشكّ أبداً أنّ هدف الأئمة(عليهم السلام) هو: بثّ روح العلم والثقافة في أرجاء العالم الإسلامي من شرقه إلى غربه، ولكن كل إمام يحقق من هذا الهدف ما تسنح له الظروف، غير أن الإمام الباقر(ع) قد سنحت له الظروف أن يبثّ الكثير الكثير من علوم الدين والثقافة الإسلامية بما لم تسمح لغيره منهم(عليهم السلام) ، فقد أدى تمادي معاوية في قتل الصحابة والتشنيع بهم، وكذلك أدى قتل يزيد للحسين وأهل بيته(عليهم السلام) وأصحابه، وواقعة الحرة.. واستباحة المدينة المنورة ورميه الكعبة بالمنجنيق و... أدّى كل ذلك إلى تدهور أوضاع الدولة الأموية، حتى وصلت إلى حافة الانهيار في عهد هشام بن عبد الملك، حيث بدأت دعوة العباسيين بـالثورة للقضاء على الدولة الأموية، داعين إلى الرضا من آل محمد(عليهم السلام) ظاهراً فاستغلّ الإمام الباقر هذا الظرف لفتح مدرسته، وليتخرج منها المئات من العلماء، الذين انتشروا في مختلف البقاع ليبثّوا الدين والفكر والثقافة على مذهب آل محمد(عليهم السلام) ، هكذا شاء الله وكان.
قال جابر الجعفي: «حدثني أبو جعفر سبعين ألف حديث»([9])، وقال محمد ابن مسلم: ما شجر في رأيي شيء إلا سألت عنه أبا جعفر(ع) حتى سألته عن ثلاثين ألف حديث([10]).
ونقل بعض من شاهد الإمام (ع) في الحج: انثيال الناس عليه يستفتونه عن المعضلات، ويستفتحون أبواب المشكلات، فلم يرم حتى أفتاهم في ألف مسألة ثم نهض يريد رحله([11]).
واليوم، وبعد مضي ثلاثة عشر قرناً على تأسيسه (ع) لهذه المدرسة العظيمة، لا يزال الفقه والحديث والتفسير وغيرها من العلوم معوّلاً عليها، تستمد من منهلها العذب، وتغترف من معينها الفيّاض.
أما تلامذته: فقد قال ابن شهر آشوب:.. وقد روى عنه معالم الدين بقايا الصحابة، ووجوه التابعين، ورؤساء فقهاء المسلمين، فمن الصحابة: جابر عبد الله الأنصاري، ومن التابعين: جابر بن يزيد الجعفي، وكيسان السختياني صاحب الصوفية، ومن الفقهاء نحو: ابن المبارك، والزهري، والأوزاعي، وأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وزياد بن المنذر النهدي، ومن المصنفين نحو: الطبري، والبلاذري، والسلامي، والخطيب في تواريخهم، وفي الموطأ، وشرف المصطفى والإبانة، وحلية الأولياء، وسنن أبي داود، والالكاني، ومسندي أبي حنيفة، والمروزي، وترغيب الأصفهاني، وبسيط الواحدي، وتفسير النقاش والزمخشري، ومعرفة أصول الحديث، ورسالة السمعاني، فيقولون: «قال محمد ابن علي، وربما قالوا: قال محمد الباقر»([12]).
4- منفاه وسجنه وشهادته:
كان الإمام الباقر(ع) في وجوده وحركاته وسلوكه، وجميع تصرفاته في المدينة يشكّل خطراً ضد الجهاز الأموي الحاكم آنذاك، المتمثل بهشام بن عبد الملك، والإمام (ع) وإن تخلى عن الجهاد والكفاح المسلح، وعمد إلى التغيير الفكري، وترويج الثقافة والمعرفة، ولكن مع ذلك فقد كان الجهاز الحاكم يعتبر ذلك مخالفاً لسلطته وجهاداً ضد حكومته، فعزم هشام على استقدام الإمام إلى الشام، فحُمل مع ولده الصادق(ع) إليها، ومبالغة في إذلاله حُبس عن لقاء هشام ثلاثة أيام لم يأذنوا له بالدخول عليه، وأنزلوهم في دار الغلمان.
ثم أذن له بالدخول، فسلم الإمام على الجميع وجلس، دون أن يخصه بالسلام، فقال له هشام:
يا محمد بن علي لا يزالُ الرجل منكم قد شقَّ عصا المسلمين، ودعا إلى نفسه، وزعم أنه الإمام سفهاً وقلة علم.
فأقبل القوم الذين في مجلس هشام على توبيخه - تنفيذاً لما طلبه هشام منهم قبل دخول الإمام عليه -، فلما سكت الجميع نهض الإمام (ع) وقال: أيها الناس أين تذهبون، وأين يراد بكم، بنا هدى الله أولكم، وبنا يختمُ آخركم، فإن يكن لكم ملكٌ معجّلٌ فإن لنا ملكاً مؤجّلاً، وليس بعد مُلكِنا مُلكُ، لأنا أهل العاقبة بقول الله عز وجل: «وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» ([13]).
فأمر هشام بسجنه، ولكن لم يمضِ وقت طويل حتى تناقلت الأخبار إلى هشام بأنّ الإمام قد استطاع بأخلاقه وعلمه وعبادته أن يأسر قلوب السجّان إليه، فخاف انقياد أهل الشام إليه، فأمر بإعادة الإمام إلى المدينة([14]).
وحين خرج(ع) من القصر يريد المدينة، وإذا براهب قد اجتمعت حوله الناس من النصارى والمسلمين، وكان من كبار رهبانهم في الشام، فلما وقع بصره على الإمام سأله عن معضلات فأتى الإمام على آخرها، مما جعل الراهب يقول للناس: «جئتم بأعلم مني كي يفضحني، لعمري ما رأيت بعيني قط أعلم من هذا الرجل، لا تسألوني عن حرف وهذا بالشام، فكل ما أردتم تجدوه عنده حاضراً»، فسرّ المسلمون وأخذوا يتناقلون الحديث عن الإمام (ع).
اشتعل هشام حقداً وحنقاً على الإمام إثر هذه الحادثة، فأرسل إليه أن يعجل بالذهاب إلى المدينة، كما أرسل إلى عامله على المدينة أن يبلّغ الناس أنه لا يحق لأحد أن يتحدث مع محمد بن علي وابنه، فإنهما وردا عليّ، ولما صرفتهما إلى المدينة مالا إلى القسيسين والرهبان، وأظهرا لهم ميلاً، ومرقا من الإسلام إلى الكفر، وتقرّباً إليهم بالنصرانية، فكرهت أن أنكّل بهما لقرابتهما، فإذا قرأت كتابي هذا، ووصلا إليكم فناد في الناس: برئت الذمة منهما([15]).
وبعد هذا فقد أخذ عامل هشام يُضيّق على الإمام مدة من الزمان، حتى ختم ذلك بدسه السم إليه بأمر من هشام بن عبد الملك، فقضى (صلوات الله عليه) شهيداً، ودفنه ولده الصادق(ع) في البقيع أمام عمه الحسن، وأبيه علي ابن الحسين(عليهم السلام). فسلام على الإمام الباقر(ع) يوم ولد، ويوم أدّى رسالته، ويوم استشهد ويوم يبعث حياً.
([2]) كفاية الأثر في النص على الأئمة الإثني عشر: 98.
([3]) راجع في النص على إمامته (إثبات الوصية: 142).
([5]) الفصول المهمة: 197، وصفة الصفوة 2: 63.
([6]) مطالب المسؤول 2: 53، وكشف الغمة: 211.
([11]) المناقب لابن شهر آشوب 2: 275.
([13]) سورة الأعراف: الآية 128.