كان شيخ البطحاء أبو طالب(ع) الدرع الواقية لرسول الله(ص) منذ بزوغ شمس الرسالة إلى يوم قبضه الله إليه، حيث وقف كالسدّ المنيع يحول بين الوثنية - وهي القوّة التي كانت حينذاك تمسك بمقدّرات مكة - وبين تحقيق أهدافها في وأد الرسالة السماوية والدعوة إليها.
وله في هذا السبيل مواقف مشهورة تفوق الإحصاء، فلقد كان المحامي والناصر لرسول الله(ص) ، وحدب عليه منذ طفولته، وقد نصره بيده ولسانه، وواجه المصاعب الكبيرة، والمشاق العظيمة في سبيل الدفع عنه، والذود عن دينه ورسالته.
وهو الذي كان يقدمه على أولاده جميعاً، وقد أرجعه بنفسه من بصرى الشام إلى مكة، لما أخرجه في تجارته، وحذّره الراهب بحيرى من اليهود بعدما علم عن مستقبله([1])، وهو الذي رضي بعداء قريش بأجمعها له، وبمعاناة الجوع والفقر والنبذ الاجتماعي، ورأى الأطفال - أطفال بني هاشم - يتضوّرون جوعاً، حتى اقتاتوا ورق الشجر في الشِعب والحصار، بل لقد عبّر صراحة أنه على استعداد لأن يخوض حرباً طاحنة، تأكل الأخضر واليابس، ولا يسلم محمداً لهم، ولا يمنعه من الدعوة إلى الله، بل لا يطلب على الأقل منه ذلك.
وهو الذي وقف ذلك الموقف البطولي من جبابرة قريش وصناديدها حينما جاءه
النبي (ص) وقد ألقت عليه قريش سلا ناقة، فأخذ أبو طالب سيفه، وأمر حمزة أن يأخذ السلاء، وتوجه إلى القوم، فلما رأوه مقبلاً عرفوا الشّر في وجهه، ثم أمر حمزة أن يلطخ سِبالهم واحداً واحداً، ففعل، والقوم دون حراك([2]).
وفي الشعب كان يحرس النبي بنفسه في الليل، ويأمر جميع بني هاشم بتوالي حراسته في النهار، وكان ينقله من مكان إلى آخر، ويجعل ولده علياً في موضع النبي، أو جعفراً أو غيره، حتى إذا كان أمر أصيب ولده دونه([3]).
وكان يدفع قريشاً عنه باللين تارة، وبالشدة أخرى، وينظم الشعر السياسي والديني ليحرك العواطف، ويدفع النوازل، ويهيئ الأجواء لإعلاء كلمة الله ونشر دينه، وحماية أتباعه.
ولقد افتقد النبي(ص) مرة، فبحث عنه - وكان ذلك عندما أسري بالنبي(ص) - فلم يجده فجمع ولده ومواليه، وسلّم إلى كل رجل منهم مُدية، وأمرهم أن يباكروا الكعبة، فيجلس كل رجل منهم إلى جانب رجل من قريش ممن كان يجلس بفناء الكعبة، وهم يومئذٍ سادات أهل البطحاء، فإن أصبح ولم يعرف للنبي(ص) خبراً، أو سمع فيه سوءاً، أومأ إليهم بقتل القوم، ففعلوا ذلك، فأقبل رسول الله(ص) إلى المسجد مع طلوع الشمس([4]).
وواضح أن الإلمام بكل مواقف أبي طالب(ع) وتضحياته الجسام يحتاج إلى وقت طويل، وجهد بليغ، لكنه (ع) قد ختم كل هذه التضحيات بوصيته لبني هاشم بحمايته والذود عنه([5])، ووقف ذلك القلب الكبير، والمؤمن العظيم في السنة العاشرة للبعثة، ففقد النبي(ص) بفقده نصيراً قوياً، وعزيزاً وفياً، وسداً منيعاً بوجه كل أعدائه، ولعظيم الخطب، وجليل المصاب أطلق على العام الذي توفي فيه، هو وخديجة (عام الحزن).
منزلة أبي طالب ومقامه:
لأبي طالب(ع) منزلة عظيمة في الإسلام، وقد ورد عن الأئمة العظام أحاديث كثيرة بعلو قدره، وإليك بعضها:
عن أبي عبد الله الصادق(ع) أن رسول الله (ص) قال: «إن أصحاب الكهف أسرّوا الإيمان وأظهروا الكفر، فآتاهم الله أجرهم مرتين، وإن أبا طالب أسرّ الإيمان وأظهر الشرك فآتاه الله أجره مرتين»([6]).
وعن الإمام الحسين(ع) ، عن أمير المؤمنين(ع) : «أنه كان جالساً في الرحبة والناس حوله فقام إليه رجل فقال له: يا أمير المؤمنين إنك بالمكان الذي أنزلك الله، وأبوك معذّب في النار. فقال له: مه فضّ الله فاك، والذي بعث محمداً بالحق نبياً لو شفع أبي في كل مذنب على وجه الأرض لشفعه الله. أبي معذب في النار وابنه قسيم الجنة والنار؟! والذي بعث محمداً بالحق، إنّ نور أبي طالب يوم القيامة ليطفئ أنوار الخلائق إلا خمسة أنوار: نور محمد ونور فاطمة ونور الحسن ونور الحسين ونور ولده من الأئمة، ألا إن نوره من نورنا..»([7]).
وعن أبي بصير ليث المرادي قال: قال الباقر(ع) : «.. والله إن إيمان أبي طالب لو وضع في كفّة ميزان، وإيمان هذا الخلق في كفّه ميزان لرجح إيمان أبي طالب على إيمانهم»([8]).
إيمان أبي طالب(ع)
من المؤسف حقاً أن يقع الكلام - بعد الموجز الذي قدمناه في جهاده ونصرته لدين الله ونبيه (ص) - بين المسلمين في إيمان أبي طالب(ع) ، أفلا ينبئ جهاده عن إسلامه، ونصرته عن شدة اعتقاده؟ أوليس سلوك المرء حاكياً عن ما جُبلت عليه نفسه، علاوة على التصريحات البليغة والواضحة التي سبكها أبو طالب في قوالب شعرية تمثل إيمانه واعتقاده، وإليك غيضاً من فيض منها:
قال (سلام الله عليه) في رسالة أرسلها إلى النجاشي يحثّه على حسن جوار من هاجر إليه من المسلمين:
ليعلمْْ خيار الناس أنّ محمداً |
|
وزيرٌ([9]) لموسى والمسيح ابن مريم
|
أتـانا بهديٍ مثل ما أتيا به |
|
فكـل بأمر الله يهدي ويعصم |
وقال مخاطباً النبي (ص):
والله لن يصلوا إليك بجمعهم |
|
حتى أوسَّد في التراب دفينا |
قال الثعلبي بعد نقل هذه الأبيات: وقد اتفق على صحّة نقل هذه الأبيات عن أبي طالب: مقاتل، وعبد الله بن العباس، والقسم بن محضرة، وعطاء بن دينار([12]).
وأشعاره كثيرة جداً، ومعظمها صريح في إيمانه وإسلامه، وبيان لكون نصرته عن عقيدة وإيمان، لا عن حمية نسب - كما يدعيه البعض -.
وبعد هذا تسقط جميع المرويات التي رواها العامة عن كفر أبي طالب، وأنه في ضحضاح في النار([13])، وللإطلاع على كل ذلك راجع (الغدير) للعلامة الأميني: ج7/444-550، (والصحيح من سيرة النبي الأعظم: 3/228 - 259)، و(إيمان أبي طالب)، للشيخ المفيد.
([1]) تاريخ ابن عساكر 1: 269-272.
([2]) السيرة الحلبية 1: 291- 292، وسيرة دحلان 1: 202 وبحاشية السيرة الحلبية.
([3]) البداية والنهاية 3: 84، ودلائل النبوة: للبيهقي 2: 312، وتاريخ الإسلام 2: 104-141.
([4]) تاريخ اليعقوبي 2: 62، ومنية الراغب: 75.
([5]) تاريخ الخميس 1: 339، وأسنى المطالب: 5، والسيرة الحلبية 1: 375.
([6]) شرح النهج لابن أبي الحديد 14: 70.
([9]) نقل المحدث القمي في منتهى الآمال، عن قصص الأنبياء للراوندي، وإعلام الورى بدل (وزير) (نبي) ويُمكن أن يكون المراد من الوزير - على فرض ورودها في شعره- التالي.
([10]) نقلها في مستدرك الحاكم 2: 623، والمصادر السابقة.
([11]) تاريخ ابن كثير 3: 42، وفتح الباري 7: 153، والإصابة 4: 116، وشرح ابن أبي الحديد 3: 306.