شخصية الإمام الكاظم(ع)
ولد أبو الحسن موسى(ع) في الأبواء بين مكة والمدينة في يوم الأحد السابع من شهر صفر سنة 128هـ([1])، وقيل: (129هـ)([2])، أبوه الإمام الصادق رئيس المذهب، ومعجزة الإسلام، ومفخرة الإنسانية على مرّ العصور وعبر الأجيال، وأمه حميدة التي طلب الإمام الباقر(ع) من عُكاشة الأسدي أن يشتريها من نخّاس كان قد عيّنه له، وعين وقت مجيئه، فلما جاءه بها، سألها الباقر(ع) عن اسمها، فقالت: حميدة، فقال: حميدة في الدنيا محمودة في الآخرة. وقال الإمام الصادق(ع) في وصفها: حميدة مصفاة من الأدناس كسبيكة الذهب، ما زالت الملائكة تحرسها حتى أُدّيت إليّ، كرامة من الله لي، والحجة من بعدي([3]).
كان الإمام الكاظم(ع) أسمر شديد السمرة، ربع القامة، كثّ اللحية، حسن الوجه، نحيف الجسم، تحكي هيبته هيبة الأنبياء، وبدت في ملامح شكله سيماء الأئمة الطاهرين من آبائه، فما رآه أحد إلا هابه وأكبره([4]).
تولى منصب الإمامة بعد شهادة أبيه الإمام الصادق(ع) ، وكان عمره عشرين سنة، وكان ذلك في سنة (148هـ)، ودامت (35 سنة).
وقد ورد الكثير من النصوص على إمامته، منها ما رواه ابن مسكان عن سليمان بن خالد، قال: دعا أبو عبد الله أبا الحسن(ع) يوماً ونحن عنده، فقال لنا: عليكم بهذا بعدي، فهو والله صاحبكم بعدي([5]).
كُنّي بأبي الحسن، وأبي إبراهيم، وأبي إسماعيل، وأبي علي([6])، وله ألقاب تعكس شخصيته، وتنبئ عن سجاياه وفضله، فقد لقّب بـ: الصابر، والزاهد، والعبد الصالح، والسيد، والوفي، والأمين، والكاظم، وباب الحوائج، وبالأخيرين اشتهر، يقول شيخ الحنابلة أبو علي الخلاّل: ما همّني أمر فقصدت قبر موسى ابن جعفر إلاّ سهّل الله تعالى لي ما أحب([7]).
عاصر الإمام الكاظم(ع) أربعة من خلفاء بني العباس: المنصور الدوانيقي، ومحمد المهدي، وموسى الهادي، وهارون الرشيد، وله مع كل واحد منهم حوادث عظيمة يضيق المقام بذكرها.
حراسته للجامعة الجعفرية وحمايتها:
أتاح ضعف الدولة الأموية، وولادة الدولة العباسية للإمام الصادق(ع) تأسيس جامعته الإسلامية الكبرى التي غذّت المسلمين على اختلاف مشاربهم، وأثرت المكتبة الإسلامية بعلوم كثيرة، كاد المسلمون - لولا جهوده (ع) - ينسلخون عن إسلاميتهم ويضيع إيمانهم لكثرة الشبهات، ولا رادّ يردها.. غير أنه بعد وفاة الصادق(ع) كانت قد قويت شوكة الدولة العباسية، وتفرغت لآل علي(ع) فبدأت بالقتل والسجن لأتباعهم، وكل من يتصل بهم، فكانت ترصد تحركات أبناء الإمام الصادق وبالأخص الإمام الكاظم(ع) ، وقد بثت الجواسيس في كل مكان، وفرضت المراقبة على كثيرين، حتى أن رجال الشيعة الذين لا يعرفون بتنصيص الإمام الصادق على ابنه الكاظم، يخافون أن يسألوا عن الإمام بعد الصادق([8])، ومن هنا كانت فترة الإمام الكاظم من أحلك الفترات التي مرَّت على أهل البيت(عليهم السلام) وأصعبها، ولكن مع هذا كله فقد كان همّ الإمام (ع) الحفاظ على ما أسسه أبوه وبناه، وهو الجامعة الإسلامية الكبرى، فأخذ يواصل التدريس في داره لمجموعة من خواصه.
قال ابن طاووس: كان جماعة من خاصة أبي الحسن موسى(ع) من أهل بيته، وشيعته يحضرون مجلسه، ومعهم في أكمامهم ألواح آبنوس لطاف، وأميال، فإذا نطق(ع) بكلمة، أو أفتى في نازلة أثبت القوم ما سمعوا منه فيها([9]).
وقال السيد أمير علي: قد توفي الإمام جعفر الصادق(ع) (عام 148هـ) في المدينة غير أن مدرسته ولحسن الحظ لم تنته، بل حافظت على ازدهارها بقيادة خليفته وابنه موسى الكاظم(ع) ([10]).
الإمام والتحرك السياسي
لقد كابد المسلمون عموماً، والعلويون وشيعة آل البيت الويلات جراء الحكم العباسي المتغطرس، فقد قاسوا ظلم المنصور طيلة (22) عاماً([11])، تحمّلوا خلالها الاضطهاد والعناء، وبعد موته خلفه ابنه محمد المعروف بالمهدي، وكانت سيرته في بداية الأمر حسنة، حيث أطلق سراح العلويين من السجون، ووزع الأموال على الناس حتى ساد الرفاه الاقتصادي في أرجاء الدولة العباسية([12]).
ولم يستغرق ذلك إلا سنة واحدة حتى غيّر سيرته، وراح يحيي مجالس اللهو والمجون، وسادت إثر ذلك الميوعة والتحلل في المجتمع الإسلامي، فقد ذاع شعر بشار([13])، وحفظ الناس تغزّله بالنساء([14])، وانتشرت الرشوة انتشاراً عظيماً([15])، وأمر المهدي بجباية أسواق بغداد، وشدّد على أخذ الخراج، وعمد إلى ظلم الناس والإجحاف بحقهم، واشتد الضغط عليهم([16]).
وواصل ابنه موسى الملقّب بالهادي سيرة أبيه، فقد كان شاباً خليعاً ماجناً، لم يكن متمتعاً بشيء من المؤهلات الأخلاقية، فكان شارباً الخمر، وقاسي القلب، سيء الأخلاق، صعب المرام([17]).
لقد واصل الهادي سيرة أجداده في الضغط على العلويين وبني هاشم، وضيق عليهم منذ بداية خلافته حتى أحدث الرعب والخوف بينهم من خلال مطاردته المستمرة لهم، وأمر باعتقالهم في جميع الأرجاء وإحضارهم إلى بغداد([18]).
أثارت هذه المضايقات الأحرار من بني هاشم ودفعتهم إلى مواجهة الاضطهاد، وراحت تنمو حركة مناهضة للحكم العباسي بقيادة الحسين بن علي أحد أحفاد الإمام الحسن المجتبى(ع) والملقّب (الحسين شهيد فخ).
ما أن ثار الحسين التحق به الكثير من الهاشميين، وأهل المدينة، وقاتلوا قوات الهادي معه حتى أجبروهم على التراجع، ثم قاموا بتجهيز أنفسهم، وانطلقوا نحو مكة كي يستغلوا اجتماع الناس هناك خلال موسم الحج، فأرسل إليهم الهادي جيشاً كثيفاً، والتقى الجيشان في أرض فخ، ونشبت حرب طاحنة، فاستشهد فيها الحسين، وجماعة من سادات بني هاشم، وتفرّق بقية جيشه([19]).
إن فشل شهيد فخ أدّى إلى مأساة مريرة ومؤلمة، أوجعت قلوب شيعة أهل البيت، وقد بلغ أثر هذه المأساة وفداحتها حداً دفع بالإمام الجواد(ع) أن يقول بعد عدة سنوات: «لم يكن لنا بعد الطف مصرع أعظم من فخ»([20]).
ولم تكن هذه الثورة بلا اتصال مع الإمام الكاظم(ع) ، وقد كانت هناك روابط قوية بين شهيد فخ وبين الإمام، وعلى الرغم من أنه (ع) كان يتنبأ بفشل الثورة، غير أنه لما شعر أن الحسين مصمم على المضي قال له: «إنك مقتول، فأجدّ الضّراب، فإن القوم فسّاق، يظهرون إيماناً، ويضمرون نفاقاً وشركاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وعند الله عز وجل احتسبكم من عصبة»([21]).
وكان الهادي يعلم بأن الإمام الكاظم هو الملهم والمرشد الروحي لبني هاشم ولهذه الثورة، فكان يقول: «والله ما خرج حسين إلا عن أمره، ولا اتّبع إلاّ محبته؛ لأنه صاحب الوصية في أهل هذا البيت، قتلني الله إن أبقيت عليه»([22]).
لقد حزن الإمام الكاظم على الحسين شهيد فخ كثيراً، خصوصاً عندما جاؤوا برأسه إلى المدينة، فأبّنه بقوله: «والله كان مسلماً صالحاً صواماً، كثير الصلاة، محارباً للفساد، آمراً بالمعروف، وناهياً عن المنكر، ولم يكن مثله بين أهله»([23]).
وكانت حكومة هارون الرشيد أكثر من سوابقها في التشديد على الإمام وأتباعه، فلقد كان هارون مخادعاً، يظهر نفسه للناس - وبمساعدة قاضيه أبي يوسف - بأنه الحاكم الورع العادل، وعلى الرغم من انفتاح الدنيا له إلاّ أنه كان يشعر بميل الناس إلى الإمام الكاظم(ع) حتى قال له ذات مرة - عندما التقيا في الحج - هل أنت من بايعه الناس خُفية ورضوا به إماماً؟ فقال الإمام (ع): «أنا إمام القلوب وأنت إمام الجسوم»([24]).
ولشدة ما خافه هارون الرشيد على سلطانه سجنه في البصرة عند عيسى بن جعفر، ثم نقله إلى بغداد عند الفضل بن الربيع، ثم عند الفضل بن يحيى، ثم عند السندي بن شاهك، وكان أقسى ما لاقاه عند السندي بن شاهك، حتى دسّ السم إليه برطب مسموم بأمر من الرشيد، فقبض في يوم (الجمعة 25 رجب سنة 183هـ).
وحسب أوامر السلطة وضع جثمان الإمام (ع) على جسر الرصافة في بغداد وأمر السندي جلاوزته أن ينادوا: هذا إمام الرافضة ما عرفوه، وقد حاول هارون بهذا الأسلوب بالإضافة إلى احتقار الشيعة وإذلالهم، التعرف على أتباع الإمام ومناصريه، وحين سمع سليمان بن أبي جعفر عمّ الخليفة أمر أبناءه بأخذ الجنازة من الشرطة وأمر في الوقت أن ينادى في شوارع بغداد: ألا من أراد أن يحضر جنازة الطيب بن الطيب موسى بن جعفر فليحضر([25]).
([4]) أخبار الدول: 12، وعمدة الطالب: 185، والأعيان 4: 9.
([5]) الإرشاد للمفيد 1: 219، والكافي 1: 247.
([10]) مختصر تاريخ العرب: 209.
([14]) حياة الإمام موسى بن جعفر 1: 436.
([16]) حياة الإمام موسى بن جعفر 1: 442.
([18])) تاريخ اليعقوبي 3: 142.
([19]) الكامل في التاريخ 9: 93، عن الطبري.
([21]) أصول الكافي 1: 366، ومقاتل الطالبيين: 298.
([25]) لمزيد المعرفة بهذه القضية راجع: كمال الدين: 38، عيون أخبار الرضا وعنهما في بحار الأنوار 48: 228.