حين شجّع يهود خيبر جميع القبائل العربية على محاربة الحكومة الإسلامية، والقضاء عليها، واستطاع جيش الأحزاب المشترك بمساعدة يهود خيبر أن يتحركوا في يوم واحد من مختلف مناطق الجزيرة العربية لاجتياح المدينة، واستئصال المسلمين في أكبر تحالف عسكري، واتحاد نظامي من نوعه في ذلك العصر، كانت خيانتهم ولؤمهم يدعو النبي(ص) أن يقضي على بؤرة المؤامرة، ومركز الفساد والخطر، وأن يجرد سكانها جميعاً من السلاح، كل ذلك لما كان منهم من خيانة العهد، ونقض المعاهدة التي أجراها النبي(ص) مع جميع اليهود القاطنين حول المدينة([1]).
كما أنّ هناك خطراً آخر كان يهدّد الحكومة الإسلامية، وهو أن النبي كان قد أرسل إلى ملوك العالم وسلاطينه يدعوهم بشكل قوي إلى الإسلام، فلم يكن من المستبعد أن يستغلّ (كسرى) و (قيصر) يهود خيبر فيتعاونوا جميعاً للقضاء على الإسلام، أو أن يحرك اليهود ذينك الملكين ضد الإسلام، كما حرّكت من قبل المشركين ضد هذا الدين.
ومن هنا رأى رسول الله(ص) إنّ من الحكمة، بل ومن الضرورة بمكان أن يطفئ شرارة الخطر هذه إلى الأبد، ولهذا فقد أمر(ص) المسلمين بالتهيّؤ لغزو خيبر آخر مراكز اليهود في الجزيرة العربية، وقال لأصحابه: «لا تخرجوا معي إلا راغبين في الجهاد وأما الغنيمة فلا»، فاستخلف رسول الله(ص) على المدينة نميلة بن عبد الله الليثي([2]).
وفي بداية المسير تصور البعض أن النبي(ص) يقصد شمال المدينة لتأديب قبائل غطفان وفزارة الذين تعاونوا مع اليهود في معركة الأحزاب، لما وجدوه متوجهاً نحو الشمال، ولكنه عندما وصل إلى منطقة (الرجيع) عرج بجيشه صوب (خيبر)، وبهذا قطع الطريق على الإمدادات العسكرية من ناحية الشمال إلى خيبر، بقطع خط الارتباط بين قبائل غطفان وفزارة ويهود خيبر، مع أنّ حصار خيبر طال مدة شهر تقريباً لم تستطع القبائل المذكورة أن تمدّ حلفاءها اليهود بأيّ شيء([3]).
لقد خرج مع النبي (ص) إلى خيبر ما يقارب من ألف وستمائة مقاتل، بينهم مائتا فارس([4])، وعندما أشرف(ص) على خيبر قال داعياً ربه: «اللهم ربّ السماوات وما أظللن، ورب الأرضين وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما أذرين، فإنا نسألك خير هذه القرية، وخير أهلها، وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرّها، وشرّ أهلها، وشرّ ما فيها»([5]).
وكانت حصون خيبر سبعة وهي: (ناعم) و(القموص) و(الكتيبة) و(النطاة) و(شق) و(الوطيح) و(سلالم)، وقد شيدت هذه الحصون بحيث يسيطر سكانها على خارج الحصن سيطرة كاملة، وكانوا يستطيعون إبعاد أي عدو، وإفشال أي محاولة تهدف للاقتراب من الحصن([6]).
وكانت خطة النبي في بداية التحرك قطع النقاط والطرق الحساسة ليلاً عن كل حصن من هذه الحصون، وفعلاً خرج مزارعوا خيبر وعمالهم إلى أراضيهم في الصباح وإذا بهم يفاجؤون بجنود الإسلام حول حصونهم، وقد سدّوا عليهم جميع الطرق، فأفزعهم ذلك، وخافوا خوفاً شديداً، فأدبروا وهم يقولون: محمد والجيش معه. وبادروا فوراً إلى إغلاق أبواب الحصون وإحكامها.
ولكن على الرغم من كلّ التكتيك العسكري لليهود والحصانة الكبيرة، والقتال المستميت فقد استطاع المسلمون فتح أكثر هذه الحصون، وكان أول حصن فُتح هو (ناعم) ثم (القموص) الذي كان يرأسه أبناء أبي الحُقيق، وأُسرت فيه (صفية بنت حُيي بن أخطب)، التي صارت فيما بعد من زوجات رسول الله(ص) ، ثم فتح (الكتيبة) وبعده (النطاة)..
واستعصت باقي الحصون كسلالم والوطيح على المسلمين، فبعث رسول الله(ص) أبا بكر وأعطاه رايته البيضاء على رأس جماعة من المقاتلين، ولكنه سرعان ما رجع، ولم يفتح واحداً منها، وكان كل من أبي بكر والجيش يلقي اللوم على الآخر، ويتهمه بالجبن والفرار، فبعث النبي في اليوم الآخر عمر بن الخطاب، فسرعان ما عاد فزعاً مرعوباً([7])، أو يجبّن أصحابه، وأصحابه يجبّنونه([8])، فأغضب النبي(ص) ذلك، فجمع الناس وقال لهم:
«لأعطينّ الراية غداً إلى رجل يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسولهُ، يفتح الله على يديه، كرّار غير فرّار»([9]).
بات الأصحاب وكل واحد منهم يتمنى أن يكون صاحب هذا الوسام الخالد، وفي الصباح نادى النبي(ص) : أين علي؟ فقيل: يا رسول الله به رمد، وهو راقد بناحية،
فقال (ص) : إئتوني بعلي، فأمرّ - رسول الله(ص) يده الشريفة على عيني علي(ع) ودعا له بخير فعوفي من ساعته، ثم دفع اللواء إلى علي، وقال له: اذهب ولا تلتفت. فوقف علي(ع) ومن دون أن يلتفت، قال لرسول الله (ص) : وعلى ماذا أقاتلهم، قال (ص): على الإسلام أو الجزية([10]).
لمّا وصل علي إلى الحصون كان قد ارتدى درعاً قوياً، وحمل ذا الفقار، وأخذ يهرول بشجاعة منقطعة النظير والجند خلفه، حتى ركز راية النبي البيضاء على الأرض تحت الحصن، فلما رأى اليهود دنوه نحو الحصن أخذ يخرج كبار صناديدهم، وكان أول من خرج إليه أخو مرحب ويدعى الحارث، فتقدم إلى علي وصوته يدوي في ساحة القتال، بحيث تأخر من كان خلف علي من الجند فزعاً وخوفاً([11])، ولكن سرعان ما جندله أمير المؤمنين بسيفه ورمى به جثة هامدة على الأرض، فغضب مرحب (بطل خيبر المعروف) لقتل أخيه، فخرج من الحصن وهو غارق في السلاح، قد لبس درعاً يمانياً، -وقيل داودياً، ووضع على رأسه خوذة منحوتة من حجارة خاصة، وتقدم نحو علي كالفحل الصؤول يرتجز، ويقول:
قد عَلِمَت خيبرُ أني مرحبُ |
|
شاكي السِّلاح بطلٌ مجربُ |
فأجابه علي(ع) مرتجزاً:
أنا الذي سمّتني أمي حيدرة |
|
ضرغامُ أجام وليثٌ قسورة |
فأخذا يتبادلان الضربات بالسيوف، وقعقعتها تثير الرعب والفزع في قلوب المشاهدين، وفجأة هبط سيف بطل الإسلام القاطع على المفرق من رأس مرحب قدّت خوذته نصفين ونزلت على رأسه وشقته نصفين إلى أسنانه.
لقد كانت هذه الضربة من القوة بحيث أفزعت أكثر من خرج مع مرحب من أبطال اليهود وصناديدهم ففروا من فورهم، ولجأووا إلى الحصن، وبقي جماعة فقاتلوا علياً منازلة حتى قتلهم جميعاً، ثم لاحق الفارين منهم حتى باب الحصن، فضربه عند الحصن رجل من اليهود فطاح ترسه من يده، وجاءته السهام تترى فقلع باباً على الحصن وأخذ يتترس به عن نفسه، فلم يزل ذلك الباب في يده وهو يقاتل حتى فتح الله على يديه، ثم ألقاه من يديه حين فرغ، وقد حاول ثمانية من أبطال الإسلام، ومنهم أبو رافع مولى رسول الله(ص) أن يقلبوا ذلك الباب، أو يحركوه من مكانه فلم يقدروا على ذلك([12]).
يقول اليعقوبي في (تاريخه): إنّ الباب الذي قلعه علي(ع) كان من الصخر، وكان طوله أربعة أذرع وعرضه ذراعين([13])، وكان هذا الباب يفتحه (22) رجلاً، ويغلقه مثلهم([14]).
وقد نقل المؤرّخون قضايا عجيبة حول قلع باب خيبر، وخصوصياته، ومواصفاته، وعن بطولات علي(ع) في هذا الفتح، وجميعها لا تتمشى ولا تتيسر مع القدرة البشرية العادية، وفي هذا الصدد يقول علي(ع) : «ما قلعتها بقوة بشرية، ولكن قلعتها بقوة إلهية ونفس بلقاء ربها مطمئنة راضية»([15]).
وعاد علي(ع) إلى النبي(ص) منتصراً ظافراً، وفي هذه الأثناء وصل جعفر بمن معه من المهاجرين من الحبشة، فاستقبله النبي(ص) وقال: «ما أدري بأيّهما أنا أسرُّ بفتح خيبـر أم بقدوم جعفر». فسلام الله على الإمام علي (ع) وأخيه جعفر لما قدّماه للنبي(ص) وللإسلام.
([2]) سيد المرسلين، للسبحاني 2: 387- 388.
([3]) السيرة النبوية، لابن هشام 2: 33.
([4]) أمالي الشيخ الطوسي: 164.
([5]) السيرة النبوية، لابن هشام 1: 335.
([7]) تاريخ الطبري 2: 300، والسيرة الحلبية 2: 35.
([9]) عبارة مشهورة جداً بين المؤرخين، راجع صحيح البخاري.
([12]) تاريخ الطبري 2: 94، عن سيرة ابن هشام 2: 349، وعنه تاريخ الخميس 2: 47-50.
([14]) وفي هذا يقول ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح النهج:
يا قالع الباب الذي عن هزّه |
|
عجزت أكف أربعون وأربع |