الإسراء والمعراج (27 / رجب/ السنة 3 للبعثة) ([1])
لا إشكال ولا خلاف في وقوع الإسراء، وأن الله تعالى أسرى بنبيه (ص) من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ويدلّ عليه قوله تعالى:«سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ»([2]). وكذا معراجه(ص) من المسجد الأقصى إلى السماوات العلا، ويمكن الاستدلال على ثبوته بأحد الدليلين الآتيين أو بكليهما: الأول: بعض من آيات سورة النجم الثاني: كثرة الأخبار الواردة في المعراج.
الدليل الأول: الآيات من سورة النجم، قال تعالى: «وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلى ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى أَ فَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى» ([3]).
فإنّ هذه الآيات تحكي رؤية النبي(ص) لجبرئيل على هيئته الواقعية والأصلية، لأن جبرئيل كان يصغر كلما أراد الهبوط إلى النبي(ص) ([4])، ولكن هذه المرة رآه على صورته الأصلية بالأفق، ثم أخذ جبرئيل يقترب من النبي(ص) ويدنو منه حتى كان بينهما ما بين قاب قوسين أو أدنى.
ولكي تدلّ هذه الآيات على المعراج، يلزم رجوع الضمير في قوله:« وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلى» وفي سائر الآيات إلى النبي(ص) ليصبح المعنى؛ أن النبي(ص) عندما كان بالأفق رأى جبرئيل على صورته الأصلية. أما لو رجع الضمير إلى Sذو مرةR الذي هو جبرئيل - كما استظهره بعض المحققين وأدعى وجود رواية صحيحة الإسناد على ذلك - فلا دلالة فيها على المعراج أبداً.
الدليل الثاني: كثرة الأخبار الواردة في المعراج، والتي يمكن دعوى تواترها القطعي، بحيث لا تدع مجالاً للشك في وقوعه.
وما قد يقال: هناك تعارض بين آية الإسراء، وبين الروايات الدالة على المعراج، على اعتبار أن الآية تدل على أن انتهاء السريان كان إلى المسجد الأقصى، ولم يكن سير بعده.
والجواب: إن الآية بصدد بيان الرحلة الأولى بين المسجدين، ولم تنف وجود رحلة أخرى، فما تعطيه الروايات غير ما تعطيه الآية.
وبعد هذا فلا يبقى مجال للتشكيك في الإسراء والمعراج، وأن مجرد عدم تعقل خصوصياتهما من قلة الزمن الذي وقعا فيه، أو ما شاكل ذلك لا يذهب بحقانيتهما، بعدما عرضناه من أدلة.
نعم إن كان خلاف ففي أمرين:
الأمر الأول: في تاريخهما: حيث ذهب مشهور المؤرخين إلى أنهما وقعا قبل الهجرة بمدة وجيزة، كستة أشهر، كما عن بعضهم، أو بسنة كما عن بعض آخر، أو بسنتين كما عن ثالث، وهناك من قال بوقوعهما بعد الهجرة([5]) ولكنه نادر جداً، ومخالف لكون الإسراء، من المسجد الحرام الذي دلت عليه الآية.
في قبال ذلك ما ذهب إليه جماعة منهم الزهري من أنهما في السنة الثانية من البعثة([6])، وقيل في الخامسة، وقيل في الثالثة([7]).
والأرجح وقوعه في السنة الثالثة أو الرابعة للبعثة لوجوه، منها:
أولاً - ما روي عن علي(ع) قال: «إن الإسراء قد كان بعد ثلاث سنين من مبعثه»([8]).
ثانياً - ما روي عن ابن عباس، وسعد بن مالك، وسعد بن أبي وقاص، والإمام الصادق(ع) ، وعمر بن الخطاب، وعائشة: من أن النبي (ع) قال لعائشة - حينما عاتبته على كثرة تقبيله ابنته فاطمة -: نعم يا عائشة؛ لما أسري بي إلى السماء أدخلني جبرئيل الجنة، فناولني منها تفاحة، فأكلتها، فصارت نطفة في صلبي، فلما نزلتُ واقعتُ خديجة، ففاطمة من تلك النطفة، ففاطمة حوراء إنسية، وكلما اشتقت إلى الجنة قبّلتها([9]).
وقد ثبت بالتحقيق أنّ فاطمة قد ولدت بعد البعثة بخمس سنوات، فلابد وأن يكون الإسراء والمعراج، على ضوء هذه الرواية - قبل ذلك بأكثر من تسعة أشهر، فتكون حادثة الإسراء والمعراج في السنة الرابعة إن حملت خديجة بعدها مباشرةً، وإن احتمل - لأجل الرواية الأولى تأخر الحمل عن ذلك بسنتين.
الأمر الثاني - اختلفوا أيضاً في أن الإسراء والمعراج كانا جسمانيين، أم روحانيين، بمعنى هل فعلاً خرج النبي (ص) بجسمه من مكة إلى المسجد الأقصى، ثم عرج بجسمه إلى السماء، فكان كلّ ما رآه بجسده، أو أنها كانت رؤيا رآها (ص) في نومه؟
يرى البعض: أنهما كانا بالروح فقط في عالم الرؤيا، كما روي عن عائشة قولها: ما فقدت جسد رسول الله (ص) ([10])، وعن معاوية: أنها رؤيا صالحة([11])، وحكي مثله عن الحسن البصري([12]).
لكن الصحيح - على ما ذهب إليه الإمامية والكم الساحق من الجمهور - أنه إنما كان بالروح والجسد معاً، ولم تكن عائشة زوجة له(ص) ، آنذاك إذ أن زواج النبي(ص) بها كان في السنة الأولى أو الثانية من الهجرة، والإسراء والمعراج على ما ذكره أبعد الأقوال في السنة الثانية عشر من البعثة، فلا يصح الأخذ بقولها، وأما معاوية فلا يعتمد على قوله، بعد ما علم من محاربته للدين ورموزه.
أضف إلى ذلك، أن الآية تذكر: «سُبْحَانَ الّذِي أَسْرَىَ بِعَبْدِهِ»([13]) ولفظ العبد إنما يطلق على مجموع الروح والجسد، فلو كان مناماً، لكان حق الخطاب: (سبحان الذي أسرى بروح عبده)، وأيضاً لو كانت مجرد رؤية صالحة ذكرها النبي(ص) للمشركين لما أنكروها عليه، ولما ضجّ الناس حتى أدى ذلك إلى ارتداد بعض من أسلم، خصوصاً أن الرؤيا الصالحة كثيراً ما كانت تحصل في مجتمع مكة، وأيضاً رووا أن المشركين سألوا النبي(ص) عن عدد أعمدة المسجد الأقصى، وعن علامة صدق قوله، فأخبرهم بعددها بعد أن أظهر له جبرئيل المسجد نصب عينيه، وذكر لهم سقاء قافلتهم، وضياع جمل من جمالها، وهذا المطلب لا يتأتى منهم لو كان النبي (ص) قد أدّعى مجرّد الرؤيا، بل يكشف عن أنّ معراجه (ص) كإسرائه كان بروحه وجسده معاً، ومن هنا، ولعدم إيمان المشركين وتصديقهم به طلبوا منه (ص) ما طلبوه.
بعض ما رآه النبي في المعراج:
قال رسول الله (ص) - في حديثه عن معراجه لما رأى النار -: ثم مضيت، فإذا أنا بقوم يريد أحدهم أن يقوم فلا يقدر من عظم بطنه، فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلاّ كما يقوم الذي يتخبطّه الشيطان من المس..
ثم مضيت، فإذا أنا بقوم بين أيديهم موائد من لحم طيب ولحم خبيث، يأكلون اللحم الخبيث، ويدعون الطيب، فقلت من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هؤلاء يأكلون الحرام ويدعون الحلال وهم من أمتك يا محمد([14]).
3- وقال (ص) لعلي وفاطمة (عليها السلام) فيما رآه في معراجه:
رأيت امرأة معلّقة بشعرها يغلي دماغ رأسها.
ورأيت امرأة معلّقة بلسانها والحميم يصب في حلقها.
ورأيت امرأة معلّقة برجليها في تنور من نار.
ورأيت امرأة يُحرق وجهها ويداها، وهي تأكل أمعاءها.
ثم طلبت فاطمة(عليها السلام) منه (ص) أن يبين لهما الذنوب التي اقترفتها كل واحدة فاستوجبت هذا العذاب، فقال:
أما المعلقة بشعرها، فإنها كانت لا تغطي شعرها من الرجال.
وأما المعلقة بلسانها، فإنها كانت تؤذي زوجها.
وأما المعلقة برجليها، فإنها كانت تخرج من بيتها بغير إذن زوجها.
وأما التي كانت تأكل لحم جسدها، فإنها كانت تزين بدنها للناس([15]).
وهُناك أشياء أخرى متنوعة رآها النبي (ص) في معراجه فمن أراد الإطلاع علهيا فليراجع الكتب المدونة في هذا الموضوع ومنها المصدر المذكور.
([1]) وهُناك قولان آخران في المسألة، أحدهما أن الإسرائ والمعراج كانا في 17 من شهر رمضان، والقول الثاني 17 من شهر ربيع الأول.
([4]) المعراج للسيد دستغيب: 32.
([7]) البداية والنهاية 3: 108.
([9]) ميزان الاعتدال 2: 297، وتاريخ بغداد 5: 87.