لقد أحبّ رسول الله(ص)، فاطمة عليها السلام وأحبته، وحنا عليها وحنت عليه، وكان يؤكد على علاقته بها، ويوضح مكانتها بين الأمة، وهو بذلك يمهد لأمر عظيم يرتبط بها، وبذريتها الطاهرة لكي تعطي الأمة حقها، ويحفظوا لها مكانتها، ويراعوا ذريتها حق رعايتها، وتكبر فاطمة وتشب ويزداد حب رسول الله(ص)، لها، وتملأ قلبه بالعطف والرعاية فيسميها (أم أبيها). فإذا كانت نساء النبي وزوجاته أمهات للمؤمنين، فإن فاطمة قد احتلت الموقع الأعلى للأمومة، فكانت أم النبي(ص)، كما وصفها بذلك النبي(ص)، .
لقد كان رسول الله(ص)، النموذج والقدوة في العلاقة الأبوية الطاهرة التي تساهم في بناء شخصية الأبناء، وتوجيه سلوكهم، وتملأ نفوسهم بالحب والحنان، لقد كانت هذه العلاقة هي المثل الأعلى في رعاية الإسلام للفتاة والعناية بها وتحديد مكانتها.
قبس من فضائلها
جهادها:
عاشت السيدة الزهراء عليها السلام محن تبليغ الرسالة الإلهية بتمام تفاصيلها ومنذ نعومة أظافرها، فلقد عاشت مرارة الحصار الذي فرضته قريش على النبي وبني هاشم في شعب أبي طالب، حيث قاست مع سائر أفراد عشيرتها، وعلى الرغم من عدم تجاوز عمرها عن السنتين الجوع والخوف والحر والبرد، كل ذلك في سبيل الدعوة المقدسة إلى عبادة الله الواحد الأحد.
كما أنها كانت تعايش آلام أبيها، والمحن التي كانت تعصف به، والأذى الذي لحقه من قريش، فقد روي أنه بينما كان النبي(ص)، يصلي عند البيت إذ طلب أبو جهل من بعض الأشقياء أن يأخذ حواشي الجزور ويلقيها عليه(ص)، فاستضحك القوم، فجاءت عليها السلام وكانت صغيرة فطرحته عن أبيها، ثم أقبلت على أبي جهل ومن معه وعنّفتهم بالقول حتى تفرّقوا.
واستمرت تواكب جهادها بخطى أبيها رسول الله(ص)، حتى منيت بفقد أمها وهي في مقتبل العمر، ولكن رغم المصاب الجلل لم تدع عليها السلام المصيبة تجمد قدراتها ومواصلة جهادها، فأخذت على عاتقها أن تتسنّم مكان أمها بفيض الحنان المتدفق على أبيها، حتى سمّاها النبي(ص)،: Sفاطمة أم أبيهاR.
وبعد هجرة النبي(ص)، من مكة إلى المدينة، وهجرة أصحابه، كانت عليها السلام أيضاً من المهاجرات في سبيل الله تعالى، واستمر جهادها في المدينة مع النبي(ص)، وزوجها علي(ع)، فكانت تشكّل حلقة الوصل بين النبي والنساء، ولقد كانت من معلمات القرآن والأحكام والمبادئ، وكانت تقصدها النساء في أمور دينهن، وختمت جهادها بشهادتها مدافعة عن إمامة الحق علي(ع)، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع في ذكرى مولدها في (20 جمادى الثانية).
عبادتها:
عرفت الزهراء بعابدة البيت النبوي، حتى قال الحسن البصري: ما كان في هذه الأمة أعبد من فاطمة بنت رسول الله، وكانت تقوم بالأسحار حتى تورمت قدماها([1]).
وقال النبي(ص)، عنها: Sمتى قامت في محرابها بين يدي ربها (جل جلاله) زهر نورها لملائكة السماء كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض، ويقول الله (عز وجل) لملائكته: يا ملائكتي انظروا إلى أَمَتي فاطمة، سيدة إمائي قائمة بين يدي، ترتعد فرائصها من خيفتي، وقد أقبلت على عبادتي، أُشهدكم أني قد آمنت شيعتها من النارR([2]).
وجاء في (عدة الداعي): أن فاطمة كانت تَنهَج في الصلاة - أي تتابع النَفَس - من خيفة الله.
وعن ابنها أبي محمد الحسن(ع) قالت: رأيت أمي فاطمة عليها السلام قامت في محرابها ليلة جُمعتها، فلم تزل راكعة ساجدة حتى اتضح عمود الصبح، وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتُسمّيهم وتكثر الدعاء لهم، ولا تدعو لنفسها بشيء، فقلت لها: يا أماه لِمَ لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت: يا بني الجار ثم الدار([3]).
صبرها:
مرض رسول الله في أواخر أيامه، واشتدّ عليه المرض، وفاطمة تنظر إليه وتشاطره آلامه ومرضه، وتمر الأيام ثقيلة على المسلمين وتعايشها فاطمة عليها السلام بحزن وألم، وينتقل النبي(ص)، إلى جوار ربه، وتشتد الرزية على فاطمة، ويعظم المصاب في نفسها، وتظل تعيش بعد أبيها في لوعة وحزن وهي تترقب ساعة اللحاق به، والعيش معه في جنة الخلد، وظلت صابرة محتسبة منقطعة إلى الله سبحانه بالعبادة حتى وافاها الأجل الذي كانت تحنو إليه وتشتاقه لتلقى أباها رسول الله(ص)، .
شهادتها:
بعد وفاة أبيها اشتد عليها الحزن والأسى، ونزل بها المرض لما لاقته من ظلم واضطهاد من قبل أزلام الزمرة الحاكمة آنذاك من الهجوم على دارها، وعصرها بين الحائط والباب، وسقوط جنينها محسن، وكسر ضلعها، وغصب إرثها وأرض فدك.
وعندما أحسّت عليها السلام بالأجل يدنو طلبت من أسماء بنت عميس أن تضع لها فراشاً وسط البيت، وطلبت إحضار علي(ع) فحضر، فقالت له: ... أوصيك بأشياء في قلبي، فقال لها: أوصيني بما أحببت يا بنت رسول الله وأخرج مَنْ في البيت، ثم أتمت وصيتها، وارتفعت روحها الطاهرة إلى عالم الخلد والنعيم، وكان ذلك في الثالث عشر من جمادى الأولى (السنة 11 هـ)، وفي رواية في 3 من جمادى الثانية كما سيأتي.
وبعد انتشار نبأ رحلة الزهراء احتشد أهل المدينة على باب الإمام علي(ع) ينتظرون التشييع، فأخبرهم أمير المؤمنين بأنه أخّر تشييعها هذه الليلة، فصلى عليها بعد تغسيلها وتكفينها، وبقي جثمانها الطاهر حتى غطى الليل سماء المدينة، فدفنها وعفى أثر قبرها لئلا يعرف حسب وصيتها عليها السلام ، لتؤكد للأجيال مظلوميتها واغتصاب الحقوق التي أوصى بها أبوها لها، ولكي تبقى هذه المظلومية دائماً في ضمير التاريخ. فالمظلومية تحكي وإلى أن تقوم الساعة أنّ الدين يتجدّد بودّهم، فما من إنسان مهما كان دينه يعلم مظلومية أحد إلا وإنحاز إليه إذا كان من ذوي الألباب. وهكذا فإن الدين، هو الانحياز لأهل الكساء، الذين اختاروا أن يكونوا مظلومين ولا يكونوا ظالمين([4]).
([1]) بحار الأنوار 43: 84، وكتاب فاطمة الزهراء لأحمد الرحماني الهمداني: 215.
([2]) الأماني للصدوق؛ المجلد 24: 100، ونفس المصدر السابق.
([3]) دلائل الإمامة لأبي جعفر الطبري طبعة النجف: 52، وكتاب فاطمة الزهراء بهجة قلب المصطفى لأحمد الهمداني: 79.
([4]) لمزيد المعرفة حول ما جرى على الزهراء بعد أبيها وكيفية شهادتها راجع المصادر التالية: شرح النهج لابن أبي الحديد 6: 84، وكتاب العقد الفريد لإبن عبد ربّه 5: 13، وكتاب الإمامة والسياسة لإبن قتبة 1: 12.